ومما يجب الحذر منه، ما دُسَّ على الحافظ النَّسائي([1]) (303هـ) في تفسيره مؤسسة الكتب الثقافية([2])، وهي قصة مكذوبة فيها كفر صريح على سيدنا سليمان عليه السلام، ولا نعتقد في النسائي أنه يقول ما لا يليق بأنبياء الله تعالى؛ بل نقول إنه مما افتُرِيَ ودُسَّ عليه، فيقولون والعياذ بالله تعالى من الافتراء على الأنبياء: «قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102]. عن ابن عباس قال – وهو كذب على ابن عباس-: كان الذي أصاب سليمان بن داود عليه السلام – على زعمهم- في سبب امرأة من أهله يقال لها جرادة وكانت أحب نسائه إليه وكان إذا أراد أن يأتي نساءه أو يدخل الخلاء أعطاها الخاتم، فجاء أناس من أهل الجرادة يخاصمون قومًا إلى سليمان بن داود عليه السلام فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا، فجاء حين أراد الله أن يبتليه فأعطاها الخاتم ودخل الخلاء وتمَثَّل الشيطانُ في صورة سليمان قال: هاتي خامتي فأعطته خاتمه فلبسه فلما لبسه دانت له الشياطين والإنس والجن وكل شيء. جاءها سليمان قال: هاتي خاتمي قالت: اخرج لست بسليمان، قال سليمان عليه السلام: إن ذاك من أمر الله إنه بلاء ابتُلِيَ به، فخرج فجعل إذا قال: أنا سليمان، رجموه حتى يُدمون عقبه، فخرج يحمل على شاطئ البحر ومكث هذا الشيطان فيهم مقيمًا ينكح نساءه ويقضي بينهم، فلما أراد الله عزّ وجلّ أن يرد على سليمان ملكه انطلقت الشياطين وكتبوا كتبًا فيها سحر وفيها كفر فدفنوها تحت كرسي سليمان عليه السلام ثم أثاروها وقالوا هذا كان يفتن الجن والإنس قال: فأكفر الناس سليمان حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ على محمد عليه السلام {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} يقول: الذي صنعا، فخرج سليمان يحمل على شاطئ البحر، قال: ولما أنكر الناس لما أراد الله أن يرد على سليمان ملكه أنكروا انطلقت الشياطين جاؤوا إلى نسائه فسألوهن فقلن: إنه ليأتينا ونحن حُيَّض وما كان يأتينا قبل ذلك، فلما رأى الشيطانُ أنه حَضر هلاكُه هرب وأرسل به فألقاه في البحر، وفي الحديث فتلقاه سمكُهُ فأخذَه، وخرج الشيطانُ حتى لحق بجزيرة في البحر، وخرج سليمان عليه السلام يحمل لرجل سمكًا قال: بكم تحمل قال: بسمكةٍ من هذا السمك، فحمل معه حتى بلغ به أعطاه السمكة التي في بطنها الخاتم، فلما أعطاه السمكة شق بطنها يريد يشويها، فإذا الخاتم فلبسه فأقبل إليه الإنس والشياطين، فأرسل في طلب الشيطان فجعلوا لا يطيقونَه، فقال: احتالوا له، فذهبوا فوجدوه نائمًا قد سَكِرَ فبَنوا عليه بيتًا من رصاص، ثم جاؤوا ليأخذوه فوثب فجعل لا يثب في ناحية إلا أماط الرصاص معه، فأخذوه فجاؤوا به إلى سليمان فأمر بحنت من رخام فنُقِر ثم أدخله في جوفه ثم سدَّه بالنحاس ثم أمر به فطُرح في البحر». اهـ. فهذا الكلام لا يليق بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وهو مما افتُرِيَ على نبي الله سليمان عليه السلام، فالأنبياء معصومون عن مثل ذلك.
فقد قال ملا على القاري الحنفي في كتابه «شرح الشفا للقاضي عياض»([3]): «(واعلم أن الأمة مجمعة) وفي نسخة مجتمعة (على عصمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حفظه وحمايته (من الشيطان) لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. (وكفايته) أي وعلى كفاية الله له، وفي نسخة وحراسته (منه) أي من ضرره الظاهري والباطني كما بينه بقوله: (لا في جسمه) أي ظاهر جسده (بأنواع الأذى) كالجنون والإغماء (ولا خاطره بالوسواس أي بجنسه الذي يوسوس في صدور سائر الناس». اهـ. وقال([4]): (وقد حكى السمرقندي) أي الإمام أبو الليث الحنفي (إنكار قول من قال بتسلط الشيطان) ويروى بتسليط الشيطان (على ملك سليمان وغلبته عليه وأن مثل هذا لا يصح) يعني فإذا كان لا يصح تسلط الشيطان على ملك سليمان من الأمور الدنيوية فبالأحرى أن لا يصح له التسلط على الأنبياء فيما يتعلق بالأمر الديني والأخروي». اهـ.
وقال أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي المعروف بابن خُمَير في كتابه «تنزيه الأنبياء عما نَسَب إليهم حُثالة الأغبياء»([5])، فيما افتُرِيَ على نبي الله سليمان عليه السلام: «وزاد فيها الفجرة – أي في قصته- أن الشيطان كان يقعُ على نساء سليمان عليه السلام وهنَّ حُيَّض، ولذا تفطَّنوا أنه لم يكن سليمان، وحاشى وكلا من هذه الوصمة الخسيسة أن يفعلها الله تعالى مع أنبيائه عليهم السلام وكيف، والأمة مجمعة على أنه ما زنت امرأة نبي قط: كانت مؤمنة أو كافرة». اهـ. ثم قال([6]): ومع ذلك فالخبرُ باطلٌ من وجه آخر، وهو أنه لو جاز أن يخلفَ النبي شيطانٌ على صورته ويستنبط في شريعته أحكامًا فاسدة، لكان ذلك إخلالًا بالنبوة إذ كان يتخيّل الناس ذلك في سائر أحكام الأنبياء حتى لا يتميّز حكمُ النبي من حكم الشيطان، فيشكلُ الأمر على المكلفين ولا يتقون أمرًا بعد، وهذا بمثابة تقدير خرق العادة على أيدي الكذابين في ادَّعاء النبوة، وهذه الأُلقِيَّة في هذه القصة من دسائس البراهمة في إبطال النبوات والله أعلم». اهـ.
وأما قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}.
يجب الاعتقاد بأن هاروت وماروت عليهما السلام نزلا إلى الأرض ليبينا الفرق للناس بين معجزات الأنبياء وأنها تأييد من الله وليست من قبيل السحر لأن السحر قد يعارض بمثله أو أقوى وبين السحر الذي هو إما كفر وإما فسق وكبيرة وهو عمل خبيث وحذرًا الناس من السحر ومن العمل به وليس صحيحًا أنهما أي هاروت وماروت كانا يشتغلان بالسحر بدليل الآية نفسها {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}.
فهاروت وماروت كانا يحذران من السحر وأما ما في بعض كتب التفاسير من أنهما نزلا إلى الأرض وزنيا بامرأة يقال لها الزهرة أو أنهما شربا الخمر أو أنهما قتلا الصبي فكله كذب مركب على كذب وباطل فاسد لا يليق بعصمة الملائكة فهم لا يأكلون ولا يشربون فكيف يشربان الخمر والملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا فكيف يحصل منهما الزنى، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم كما أخبر الله تعالى عنهم في القرءان بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6].
وهذا عام في كل فردٍ منهم وما ورد في أن هاروت وماروت عصيا في تلك القصة المشهورة فلا يعتمد عليه لأنه لم يصح ويجب الإيمان بأنهم خلقوا لا كخلقة بني آدم في الكون ذكورًا وإناثًا لكنهم قد يتشكلون بشكل البشر الذكور منهم فقط وبلا آلة الذكورية وذكر ابن كثير في تاريخه([7]): ما نصه: «وأما ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت من أن الزهرة كانت امرأة فراوداها على نفسها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الأعظم فعلماها فقالته فرفعت كوكبًا إلى السماء فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين وغن كان قد أخرجه كعب الأحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف فذكروه على سبيل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل»([8]). اهـ.
وقال الشيخ محمد الحوت في أسنى المطالب([9]) ما نصه: «وقال المفسرون كالفخر الرازي([10]) والبيضاوي([11]) وأبي السعود والخازن([12]) إنها لم تثبت بنقل معتبر فلا تعويل على ما نقل فيها لأن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل». اهـ. وقال الشيخ عبد الله الغماري في قصة هاروت وماروت ما نصه: وتتبع الحافظ السيوطي طرقها في التفسير المسند وفي الدر المنثور فأوصلها إلى نيف وعشرين طريقًا أغلبها ضعيف أو واهٍ. وقد تتبعت طرقها المشار إليها وأعملت فيها فكري فوجدتها قصة شاذة منكرة المعنى تخالف القرءان والسُّنَّة وقواعد العلم هذا إلى تضارب ألفاظها ورواياتها وليس فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح سالم من علة». اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: «وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد للصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرءان إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد في القرءان على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال». اهـ.
وقال الرازي في تفسيره([13]) القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه ا لآية على عصمة الملائكة وبرائتهم عن كل ذنب وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة). اهـ.
وقال الفقيه المحدث الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي في كتابه برهان الثبوت في تبرئته هاروت وماروت وما نقله أهل الأخبار والسير ونقله ابن جرير الطبري في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في نقل قصة هاروت وماروت بألفاظ متقاربة عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد وأجاب من ذهب إلى عصمة جميع الملائكة عليهم السلام عن قصة هاروت وماروت بأن ما نقله المفسرون وأهل الأخبار في ذلك لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود وقد علم افتراءهم على الأنبياء والملائكة عليهم السلام وقد ذكر الله عزّ وجلّ في هذه الآيات افتراء اليهود على سليمان عليه السلام أولًا ثم عطف ذلك على قصة هاروت وماروت.
ثانيًا قالوا: ومعنى الآية: {وَمَا كَفَر سُلَيْمَانُ}.
يعني بالسحر الذي افتعلته عليه الشياطين واتبعتهم في ذلك اليهود فأخبر الله تعالى عن افترائهم وكذبهم ثم قال بعد كلام: «والأولى تنزيه الملائكة عليهم السلام عن كل ما لا يليق بمنصبهم» اهـ. كلام الطبري.
وقال النابلسي: «وقال القاضي عياض في كتابه الشفا اتفق المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء». اهـ. ثم قال: «والصواب عصمة جميعهم وتنزيه مقامهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم، وقال النابلسي فاعلم أكرمك الله تعالى أن هذه الأخبار المذكورة (أي في قصة هاروت وماروت) لم يرووا منها شيء لا سقيم ولا صحيح ولا شيء يأخذ بقياس والذي منه في القرءان اختلف المفسرون في معناه فأنكر ما قال بعضهم كثير من السلف وهذه أي الأخبار من كتب اليهود وافترائهم كما قصه الله تعالى في أول الآيات من افترائهم لذلك على سليمان عليه السلام وتكفيرهم إياه وقد انطوت على شنع عظيمة والحمد لله رب العالمين، وقال النابلسي: «اعمل أن ما ذكره المصنف يعني القاضي عياض في قصة هاروت وماروت من أنها لا أصل لها بحسب الرواية ولا من جهة الدراية على ما هو الأصح من ملكيتهم لأنهم معصومون والملك المعصوم لا يليق أن ينسب إليه ما ذكر من المعاصي ونحوها مما مر مردوده بأن ذلك ورد في الحديث من طرق كثيرة بأسانيد صحيحة كما قال الحافظ ابن حجر والسيوطي قال وجمعت طرقه في جزء مستقل. فالتردد فيه لا ينبغي». انتهى كلام الشهاب الخفاجي. وقال الجلال السيوطي في كتاب الحبائك في أخبار الملائك: «قال القرافي ومن اعتقد في هاروت وماروت أنهما بأرض الهند يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر، بل هم رسل الله وخاصته يجب تعظيمهم وتوقيرهم وتنزيههم عن كُلّ ما يخل بتعظيم قدرهم، ومن لم يفعل ذلك وجب إراقة دمه». اهـ.
([1]) هو الإمام الحافظ الثبت أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب بن على بن سنان بن بحر الخراساني النسائي. ولد بنسا في سنة خمس عشرة ومئتين. وطلب العلم في صغره، فارتحل إلى قتيبة في سنة ثلاثين ومئتين، فأقام عنده ببغلان سنة، فأكثر عنه. قال أبو سعيد بن يونس في تاريخه كان النسائي إمامًا حافظًا ثبتًا خرج من مصر في شهر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاث مائة وتوفي بفلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاث مائة، ولعل هذا الأرجح أنه توفي بفلسطين. انظر: ترجمة الحافظ النسائي طبقات الشافعية للسبكي (3/14، 16).
([2]) مؤسسة الكتب الثقافية (الطبعة الأولى 1410هـ، الجزء الأول ص176، 177، 178).
([3]) شرح الشفا للقاضي عياض (دار الكتب العلمية، الجزء الثاني ص213).
([4]) شرح الشفا للقاضي عياض (ص219).
([5]) تنزيه الأنبياء عما نَسَب إليهم حُثالة الأغبياء (دار الفكر – المعاصر، دار الفكر – دمشق، الطبعة الثانية 1420هـ ص50).
([7]) تاريخ ابن كثير (1 – 33).
([8]) أي ليس على سبيل الصحة والإثبات.
([11]) عبد الله بن عمر بن محمد بن عليّ الشيرازيّ أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين البيضاوي (ت685هـ)، قاضٍ مفسر، ولد في المدينة البيضاء بفارس – قرب شيراز- وولي قضاء شيراز مدة، وصرف عن القضاء، فرحل إلى تبريز فتوفي فيها. من تصانيفه: «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» يعرف بتفسير البيضاويّ، و«منهاج الوصول إلى علم الأصول»، و«لب اللباب في علم الإعراب». الأعلام، الزركلي، 4/110، بغية الوعاة، السيوطيّ، 1/286.
([12]) الخازن، عليّ بن محمّد بن إبراهيم الشيحيّ علاء الدين المعروف بالخازن، عالم بالتفسير والحديث، من فقهاء الشافعيّة، بغداديّ الأصل، نسبته إلى «شيحة» من أعمال حلب، سكن دمشق مدة، وكان خازن الكتب بالمدرسة السميساطية فيها، وتوفّي بحلب، له تصانيف منها: «لباب التأويل في معاني التنزيل» في التفسير ويُعْرَفُ بتفسير الخازن، و«عدّة الأفهام في شرح عمدة الأحكام»، و«مقبول المنقول»، و«عمدة الطالبين في شرح الأحاديث النووية الأربعين». ولد 678هـ، وتوفي 741هـ. الأعلام، الزركليّ، 5/5.