ثانيًا: تأويل من عَدَّ التأويل تعطيلًا وإلحادًا بالإطلاق وهم المشبهة المجسمة كالوهابية في هذا الزمن:
قد بَيَّن أبو نصر القشيريّ رحمه الله الشناعة التي تلزم نُفاة التأويل، والقشيريّ هو الذي وصفه الحافظ عبد الرزاق الطبسيّ بأنه إمام الأئمة، كما نقل ذلك الحافظ ابن عساكر([1]).
وقد سبق أن المجسمة إذا تحدّثوا عن تأويل أهل السّنة أسرفوا في ذمه، وبالغوا في التمسك بالظواهر الموهمة تشبيهًا، فإذا وقفوا أمام بعض الظواهر التي يعارَضون فيها رَأَيْنَا منهم تهافتًا وتناقضًا واضطرابًا عجيبًا. فنورد بعض النقول عنهم.
أمثلة يظهر فيها اضطرابهم بين التأويل ورفضه:
1ـ من اضطراب مجسمة العصر الوهابية أنهم في نصّ واحد ربما يلتزمون التأويل في موضع ويتمسكون بالظاهر في آخر، فمن ذلك صنيعهم في الحديث الذي أخرجه مسلم([2]) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ أمر من يريد النوم بأن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: «اللهمَّ ربَّ السمواتِ وربَّ الأرضِ، وربَّ العرشِ العظيمِ، ربَّنا وربَّ كلّ شىءٍ، فالقَ الحَبّ والنَّوَى، ومُنْزِلَ التوراةِ والإنجيلِ والفرقانِ، أعوذُ بكَ مِنْ شِرّ كلّ شىءٍ أنتَ آخذٌ بناصيتِهِ، اللهمَّ أنتَ الأولُ فليسَ قبلَكَ شىءٌ، وأنتَ الآخرُ فليسَ بعدَكَ شىءٌ، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقَكَ شىءٌ، وأنتَ الباطنُ فليسَ دونَكَ شىءٌ».
ففي هذا الحديث مقابلة بين وصف الله عزّ وجلّ بأنه الظاهر مفسَّرًا بأنه ليس فوقه شىء، وبين وصفِه تعالى بأنه الباطن مفسَّرًا بأنه ليس دونه شىء. ومن العجيب أن الحديث اشتمل قبل ذلك على مقابلة بين وصفين آخرين هما: «الأولُ» المفسَّر بأنه ليس قبله شىءٌ، و«الآخرُ» المفسَّر بأنه ليس بعده شىء، فلم يعترِضوا في الاستدلال بهذه المقابلة على تنـزُّهه عن الوجود الزمانيّ، ولما وصلوا إلى المقابلة التي يُفترض أن يتنبهوا إلى إشارتها إلى تنـزُّهه عن الوجود المكانيّ عدلوا عن ذلك ولم يراعوا حق هذه المقابلة التي تدل على تنـزُّهه عن المكان، لأن الظاهر الذي لا يكون شىءٌ فوقه إذا كان هو الباطن الذي لا شىءَ دونه، لا يُعقل أن يكون مختصًّا بالمكان([3]). فكما دلت المقابلة الأولى على تنـزهه عن الوجود الزمانيّ كذلك تدلّ المقابلة الثانية على تنزهه عن الحلول في المكان، فالله منـزّه عن الزمان والمكان لأنه خالقهما.
ونشير إلى تصريح ابن عثيمين([4]) وهو من غلاة المجسّمة والمشبّهة في هذا العصر في هذين المسلكين حيث يقول([5]): «الظاهر من الظهور وهو العلوّ، فالباطن كناية عن إحاطته بكل شىء، ولكن المعنى أنه مع علوّه فهو باطن، فعلوّه لا ينافي قربه عزَّ وجلَّ، فالباطن قريب من معنى القريب» اهـ. فأنت ترى كيف كان الوصف الأول على ظاهره، وكيف صار الثاني كناية ومفسّرًا، فمرة يُمِرُّوْنَ على الظاهر، ومرة يؤولون، ومرة ينكرون من دون ضابط ولا دليل، غير مزاجهم وهواهم!
2ـ ومن اضطرابهم أنهم يلتزمون تأويلَ لفظٍ في موضع ويتمسكون بظاهره في موضع آخر، ومن ذلك أن أحدهم يتأول قول الله عزّ وجلّ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا {48} (الطور) فيقولون([6]): «والمعنى: بمرأى منا ولا تغيب عنا، وليس المراد أنك بداخل أعيننا، وقد جاءت السّنة بإثبات عينين لله تعالى يبصر بهما، كما في الحديث الصحيح أنه ﷺ قال([7]): «إنَّ ربَّكُمْ ليسَ بأَعْوَرَ» يعني أن له عينين سليمتين من العور، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا {14} (القمر) المعنى: أنه سيحفظها وسيحرسها ومن فيها وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} (طه) المعنى: ستُرَبَّى على مرأى مني، لأنه ورد في السّنة أن لله عينين حقيقيتين([8]) تليقان به، وأما عن ورودها في القرآن بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد، فليس فيه دليل لأهل التحريف الذين يحرفون معناها إلى الحفظ والرعاية» اهـ. كلام هذا المجسّم.
ولا يخفى ما في هذا الكلام من التذبذب والتناقض، ففي صدر كلامه يتأول (بِأَعْيُنِنَا) بالعناية والحراسة، وفي آخره عدّ تفسيرها بالحفظ والرعاية من فعل أهل التحريف. فما الذي جعل الحديث مثبتًا للعينين دون الآية، ولم لا يقبل الحديث الإخراج عن الظاهر كما قبلت الآيات الكريمات التي أخرجها عن ظاهرها. ولا يخفى أن كلامه أبعد ما يكون عن التترّس بالصفة، لأن الحدقة([9]) جارحة، خاصة إذا اعتمد على ما جاء في العين بصيغة التثنية، وغلَّبه على ما جاء في باقي الصيغ.
وقد قال الإمام أحمد الرفاعيّ الكبير([10])رضي الله عنه: «صونوا عقائدكم من التمسّك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسُّنَّة فإنّ ذلك مِن أصول الكفر» اهـ. أي أوقع كثيرًا من الناس في الكفر، لأن المشبهة يعتقدون أن وجه الله جسم، لذلك قال بعض قدماء المشبهة في قوله تعالى: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} (القصص) إن الله يفنى كلُّه ويبقى منه الوجه فقط، وهذا ضلالٌ مبين، والقائل هو بيان بن سمعان التميميّ([11]) زعيم البيانية فإنه فسّر الوجه على الظاهر.
3ـ ومن تذبذبهم أنهم يؤوّلون ولكن لا يسمونه تأويلًا بل يسمونه تفسيرًا، مع أن بعض علماء اللغة جمعوا بين الاثنين على معنًى واحد، أما هم فأحيانًا يخرجون اللفظ عن ظاهره ولكنهم لا يسمونه تأويلًا بل يسمونه تفسيرًا مع ذمّهم للتأويل في كل حال لفظًا، قال الزَّبيديّ([12]): «أوَّلَ الكلامَ تأويلًا وتأوَّلهُ: دبَّرهُ وقدَّره وفسَّره». ثم قال: «وفي العُباب: التَّأويلُ: تفسيرُ ما يؤُولُ إليه الشىء. وقال غيره: التَّفسيرُ شرحُ ما جاء مُجملًا مِن القَصَصِ في الكتاب الكريم وتقريبُ ما تدل عليه ألفاظه الغريبةُ وتَبيينُ الأُمور التي أُنزلتْ بسببها الآي، وأمّا التَّأويلُ فهو تَبيِينُ معنى المتشابه، والمتشابِهُ هو ما لم يُقطع بفحواه مِن غير ترددٍ فيه، وهو النَّصُّ. وقال الرَّاغبُ: التَّأويلُ ردّ الشىء إلى الغاية المرادة منه قولًا كان أو فعلًا». ثم قال: « وقال ابن الكمال: التأويلُ صَرفُ الآية عن معناها الظاهر إلى معنًى تحتملُه إذا كان المحتملُ الذي تُصرف إليه مُوافقًا للكتابِ والسُّنَّة كقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ {95} (الأنعام) إن أراد به إخراج الطير مِن البيضة كان تأويلًا، أو إخراجَ المؤمنِ مِن الكافرِ والعالِـم مِن الجاهلِ كان تأويلًا. وقال ابنُ الجَوْزِيّ: التفسيرُ إخراجُ الشىء مِن معلُومِ الخفاء إلى مَقام التَّجلّي، والتأويلُ نَقلُ الكلامِ عن مَوضعِه إلى ما يُحتاجُ في إثباته إلى دَليلٍ لولاه ما تُرِكَ ظاهِرُ اللَّفظِ. وقال بعضُهم: التفسيرُ كَشْفُ المُرادِ عن اللَّفظِ المُشْكِل([13])، والتأويلُ رَدُّ أحدِ المُحْتَمِلَيْن إلى ما يُطابِقُ الظَّاهِرَ. قال الراغِبُ: التفسيرُ قد يُقال في ما يَخْتَصُّ بمُفرداتِ الألفاظِ وغَريبِها، وفي ما يَخْتَصّ بـالتَّأْويل، ولهذا يُقال: عِبارَةُ الرُّؤيا وتفسيرُها وتأويلُها» اهـ.
ومن التذبذب الذي هو شأن المجسّمة قول شيخهم ابن تيمية([14]): «إن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {4} (الحديد) دلّ ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطَّلِعٌ عليكم، شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته» اهـ. ثم قال([15]): «ولما قال النبيّ ﷺ لصاحبه في الغار: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا {40} (التوبة) كان هذا أيضًا حقًّا على ظاهره. ودلت الحال على أن حكم هذه المعية الاطّلاع والنصر والتأييد» اهـ. وفي هذا النص السابق يصل ابن تيمية إلى النتيجة التي نصل نحن إليها بالتأويل، ولكن لا يسلّم أن الوصول إلى هذه النتيجة يحصل بصرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يحتمله، مع تصريحه بأن الاطّلاع والعلم والنصرة هي حكم المعية ومقتضاها، وهذا هو ما نسميه تأويل المعية، فيكون ابن تيمية هنا قد اختار في الحقيقة مسلك التأويل، ولكنّه يتبع التمويه كأمثاله من المجسّمة فيقولون: نحن نثبت لله ما أثبت لنفسه، وهو أثبت لنفسه الاستواء على العرش، يريدون استواء الأجسام، يقال لهم: الاستواء الذي أثبته القرآن ليس الاستواء الذي أنتم تريدونه، بل الله أراد بالاستواء معنى لائقًا به، لأن كلمة «استوى» ليست مرادفة لجلس، بل «استوى» لها معانٍ عديدة في لغة العرب، من معانيها ما هو من صفات المخلوقين كالجلوس والاستقرار، ومنها ما هو لائق بالله تعالى كالاستيلاء والقهر وهو أعلى معاني كلمة «استوى» وهو الذي يؤيده القرآن، فمن اللغويين الذين فسّروا الاستواء المذكور في الآية بالاستيلاء صاحب القاموس([16])، وأبو حيّان الأندلسيّ([17])، وخاتمة اللغويين والحفاظ محمد مرتضى الزَّبيديّ([18]) وغيرهم كثير كما تقدّم.
ومن الأمثلة على تأويل ابن تيمية قولُه في الآية الكريمة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} (ق)([19]): «هو قرب ذوات الملائكة وقرب علم الله» اهـ. وقال([20]): «وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الربّ من حبل الوريد إذ إن ذاته أقرب فهذا في غاية الضعف» اهـ. وهذا تأويل أيضًا لأن ظاهر اللفظ يدل على إسناد القرب إلى الله عزّ وجلّ، وتفسيره بقرب الملائكة صرفٌ للفظ عن ظاهره، فلماذا يمنعون أهل السّنة مما يقومون هم به؟ ولم لا يقال في هذا الصرف إنه تعطيل لما وصف الله تعالى به نفسه كما يتهمون أهل السّنة إذا أوّلوا نصًّا متشابهًا؟ وما الفرق بين هذا وبين تأويل أهل السُّنَّة لقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ {22} (الفجر) أي أمره؟
ومن تأويل ابن تيمية أيضًا ما ذكره في جواب أهل الكتاب فقال([21]): «ولا يُعرف عالم مشهور من علماء المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائفهم يطلقون العبارة التي حكوها عن المسلمين حيث قالوا عنهم: إنهم يقولون: إنَّ لله عينين يبصر بهما ويَدَيْن يبسطهما وساقًا ووجهًا يوليه إلى كل مكان وجنبًا، ولكن هؤلاء ركبوا من ألفاظ القرآن بسوء تصرفهم وفهمهم تركيبًا زعموا أن المسلمين يطلقونه. وليس في القرآن ما يدل ظاهره على ما ذكروه، فإن الله تعالى قال في كتابه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء {64} (المائدة) واليهود أرادوا بقولهم: يد الله مغلولة أنه بخيل! فكذَّبهم الله في ذلك وبيَّن أنه جَوَادٌ لا يبخل، وأخبر أن يديه مبسوطتان كما قال: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا {29} (الإسراء)، فبسط اليدين المراد به الجود والعطاء، ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد، ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها صار من المعروف في اللغة التعبير ببسط اليد عن العطاء» اهـ. وليت شعري أيُّ فرق بين هذا وما ذكره علماء أهل السنة في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ {42} (القلم) من قولهم معروفٌ في اللغة التعبير بكشف الساق عن شدة الأمر.
فالسلامة في اتباع جمهور الأمة الذين يردّون التمشابهات إلى المحكمات، وعدمُ الاغترار بشواذّها ورعاعها فيقعون في شر التناقض والتخبّط، ولله درّ السيد أحمد الرفاعي إمام الصوفية الشافعي الأشعري حيث قال ما نصه([22]): «نزّهوا الله عن سمات المحدَثين، وطهّروا عقائدكم من تفسير معنى الاستواء في حقه تعالى بالاستقرار، كاستواء الأجسام على الأجسام المستلزم للحلول، تعالى الله عن ذلك. وإياكم والقول بالفوقية والسُّفْلية والمكان واليد والعين بالجارحة، والنزول بالإتيان والانتقال، فإن كل ما جاء في الكتاب والسّنة مما يدل ظاهره على ما ذُكر فقد جاء في الكتاب والسّنة مثله مما يؤيد المقصود» اهـ.
وقال سيف الدين الآمديّ ما نصه([23]): «وما يروى عن السلف من ألفاظ يوهم ظاهرها إثبات الجهة والمكان، فهو محمول على هذا الذي ذكرنا من امتناعهم عن إجرائها على ظواهرها، والإيمان بتنزيلها، وتلاوة الآية على ما ذكرنا عنهم». ثم قال: «مع اتّفاقهم جميعًا في المعنى أنه تعالى ليس بمتمكّن في مكان ولا متحيز بجهة، ومن اشتغل منهم بتأويل يليق بدلائل التوحيد قالوا في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ {84} (الزخرف): أراد به ثبوت الألوهية في السماء لا ثبوت ذاته، وكذا في هذا قوله: وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ {3} (الأنعام)أي ألوهيته فيهما لا ذاته، وفي قوله: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء {16} (الملك) ألوهيته إلا أن ألوهيته أضمرت بدلالة ما سيق من الآيات، وقوله: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ {7} (المجادلة) أي يعلم ذلك ولا يخفى عليه شىء، وقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} (ق) أي بالسلطان والقدرة، وكذا القول بأنه فوق كل شىء أي بالقهر على ما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ {18} (الأنعام) وقالوا في قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ {10} (فاطـر) إن الله تعالى جعل ديوان أعمال العباد في السماء والحفظة من الملائكة فيها، فيكون ما رفع إلى هناك رفعًا إليه، وهذا كما في قوله: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ {83} وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ {84} وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ {85} (الواقعة) قالوا: ملك الموت وأعوانه، والمجسمة لا يمكنهم أن يقولوا: إنه بالذات عند كل مُحْتَضَرٍ، ولا أن يقولوا: إنه بالذات في السماء لما يلزمهم القول بجعله تحت العرش وتحت عدد من السموات، فوقعوا بهواهم في مثل هذه المناقضات الفاحشة، فيكون معنى قوله: : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ {10} (فاطـر) كما في قوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ {99} (الصافات) أي إلى الموضع الذي أمرني ربي أن أذهب إليه، وقالوا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ {206} (الأعراف): يعني الملائكة، أن المراد منه قرب المنزلة لا قرب المكان، كما قال عن موسى: وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهًا {69} (الأحزاب) وقال تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ {45} (ص) قال المفسرون وأئمة الهدى: أي أصحاب القوة في الدِين والبصارة في الأمر، ولم يفهم أحد من السلف والخلف منه الأيدي الجارحة مع كونهم موصوفين حقيقة بالأبصار الجارحة والأيدي الجارحة، فكيف فهمت المشبهة من قوله: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ {75} (ص) اليدين الجارحتين، ومن قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} (طه) العين الجارحة، ومن الخبر المروي([24]): «ما تصدَّق أحدٌ بصدقةٍ منْ طيّبٍ ولا يقبلُ اللهُ إلا الطيّبَ، إلا أخذَها الرحمنُ بيمينِهِ وإنْ كانتْ تمرةً فَتَرْبُو في كَفّ الرحمنِ حتى تكونَ أعظمَ منَ الجبل كما يُرَبّي أحدُكُمْ فُلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ»([25]) الكف الجارحة مع قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)، وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} (الإخلاص) وقوله: سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ {91} (المؤمنون) وقوله: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} (العنكبوت) فـما فهموا من تلك المتشابهات إثبات الجسم والجوارح والصورة إلا لخبث عقيدتهم وسوء سريرتهم. وبالله العصمة من الخذلان» اهـ.
4ـ ومن تأويل المجسمة قول ابن أبي العزّ الحنفيّ مع كونه مجسمًا من أتباع ابن تيمية في كتابه الذي عمله على شرح الطحاوية وشحنه بالتشبيه، وهو يردّ فيه -مُتَبَجّحًا- على الإمام الطحاويّ رضي الله عنه في أكثر من موضع([26]) قال: «قال الله عزّ وجلّ: وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا {126} (النساء) وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفَلَك، وإنما المراد إحاطة عظمته وسعة علمه وقدرته([27]) ويستحسن الألبانيّ([28]) ـ وهو من مجسّمة هذا العصر ـ في تعليقه على كتاب ابن أبي العز المجسّم هذه العبارة ثم يقول: «وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح مع أنه لا بد منه أحيانًا» اهـ.
5ـ إن ابن عثيمين المجسم يصرّح بجواز صرف اللفظ عن ظاهره ويسميه تفسيرًا، فيقول في جواب سائل سأله عن تأويل قوله تعالى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ {10} (الفتح)([29]): «ينبغي أن نعلم أن التأويل عند أهل السّنة ليس مذمومًا كله، بل المذموم منه ما لم يدل عليه دليل، وما دل عليه الدليل يسمى تفسيرًا سواء كان الدليل متصلًا بالنص أو منفصلًا عنه، فصرف الدليل عن ظاهره ليس مذمومًا على الإطلاق. ومثال التأويل بالدليل المتصل ما جاء في الحديث الثابت في صحيح مسلم في قوله تعالى في الحديث القدسيّ «عَبْدِي جعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي ومَرِضْتُ فلمْ تَعُدْني»([30]). فظاهر هذا الحديث أن الله نفسه هو الذي جاع وهو الذي مرض، وهذا غير مراد قطعًا، ففسّر هذا الحديث بنفس الحديث» اهـ. وهذا يهدم وينسف بالكلية كل ما صرَّحوا به من تمسكهم بظاهر المتشابهات وعدم تأويلها، وإبطال صرف اللفظ عن ظاهره، وفيه التصريح بأن من الظاهر ما هو غير مراد قطعًا، وفيه التذبذب في عدّ بعض التأويل محمودًا بعد أن كان تعطيلًا وطاغوتًا بزعمهم.
والحاصل أن التأويل ثابت عن السلف، ولا غنى للخلف عنه، بل لا غنى عنه حتى لمن أنكر على أهل السّنة كما تخبَّط فيه أولئك المشبهة، بل وضع له أهل السّنة منهجًا متكاملًا يقوم على أسس واضحة. وعرضوا كثيرًا من الأخبار التي يجري فيها التأويل على هذا الأساس والمنهج. وباستقراء مواضع تأويلاتهم يتضح لنا المنهج الراسخ الذي سلكه الأشاعرة والماتريدية ـ وهم أهل السنّة والجماعة ـ في التأويل. ويقوم هذا المنهج على عدة أسس.
فالتأويل الذي هو إخراج النص عن ظاهره منه ما هو ممدوح، ومنه ما هو مذموم، ثم الممدوح منه ما هو تأويل إجماليّ وقد شهر في عهد السلف، ومنه ما هو تأويل تفصيليّ وقد شهر في عهد الخلف. وتَرْك التأويل الإجماليّ والتفصيليّ أمر خطير، لأنه يؤدي إلى القول بتعارض القرآن وتضارب الآيات، وهذا لا يجوز في كتاب الله لأن القرءان الكريم لا تتناقض آياته بل بعضُدُ بعضها بعضًا أي يُفسّر بعضها بعضًا. والمذموم ما خالف الكتاب والسنَّة وما أجمعت عليه الأمة.
6ـ الوهابية المجسمة تُنكر التأويل مطلقًا أي في كل الأحوال، بل يسمون الذين يؤولون «معاول التأويل والهدم»([31])، وأين الوهابية حين قالت ما قالت من حديث رسول الله ﷺ لسيدنا ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن([32]): «اللهمَّ عَلّمْهُ الحكمةَ وتأويلَ الكتابِ».
فهذا ابن باز([33]) المجسّم وهو من رؤوسهم وأئمتهم يقول: «إنّ تأويل النصوص الواردة في القرآن والسّنة في صفات الله جلّ وعلا هو خلاف ما أجمع عليه المسلمون من لدن الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم إلى يومنا هذا» اهـ. ولا ندري أيّ إجماعٍ ينقله ابن باز هذا؟! وما هو مستنده في ذلك؟ ثم اعتبر هذا الكلام مع كلام الحافظ الفقيه اللغوي النووي في نقله عن القاضي عياض ما نصّه([34]): «لا خلاف بين المسلمين قاطبةً فقيههم ومحدّثهم ومتكلّمهم ونظّارهم ومقلّدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء {16} (الملك) ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم» اهـ. فهذا النووي ينقل إجماع أهل السّنة والجماعة في إثبات التأويل، فأيُّ إجماع هذا الذي يدّعيه ابن باز في نفيه التأويل؟! فما هو في الحقيقة إلا ادّعاءات وافتراءات أهل التشبيه والتجسيم من لدن نشأتهم إلى يومنا هذا. ومن عجيب جهل هذا الرجل أنه بعد أن نقل إجماعًا مكذوبًا ادّعاه أن يؤوّل قول الله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {4} (الحديد) بالعلم([35]).
وإليك زيادة بيان وإيضاح، وذلك أن الحافظ النوويّ الذي هو من علماء أهل السّنة والجماعة صاحب الكتاب المشهور رياض الصالحين الذي قد توفي سنة 676 هـ كان قبل ابن تيمية المجسّم الذي توفي سنة 728هـ، فما نقله النوويّ كان نقلًا عمَّن سَبَقَهُ من السلف والخلف، ولم يكن يردّ على ابن تيمية لأنه لم يكن بعدُ عُرِف، على أن كلامه يُرَدّ به على ابن تيمية ومن تَبِعه. وها هو الألبانيّ الوهابيّ يقول([36]): «من أوّل قوله تعالى: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} (القصص) فهو تأويل لا يقوله مسلم» اهـ. بينما ثبت أن الحافظ البخاريّ وهو من علماء السلف وأئمتهم رضي الله عنهم أوّل هذه الآية فقال([37]): «إلا مُلكَهُ» اهـ. ومقتضى كلام لألبانيّ الوهابيّ تكفير الإمام البخاريّ لاندراجه في عموم قوله: «لا يقوله مسلم»، يعني من يؤول الوجه في آية: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} بالملك.
[1] ) تبيين كذب المفتري، ابن عساكر، 1/167. إتحاف السادة المتقين، الزَّبيديّ، 2/108.
[2] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب العلم، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، 4/2084. سنن الترمذيّ، الترمذي، 5/518. سنن أبي داود، أبو داود، 4/312. صحيح ابن حبان، ابن حبان، 3/246. وغيرها.
[3] ) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل، ابن جماعة، ص 82. دفع شبه من شبّه وتمرَّد، الحصنيّ، ص19.
[4] ) هو المجسم محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين التميميّ، ت 1421هـ، ولد في عنيزة إحدى مدن القصيم وبقي عمره فيها، من مشايخه المجسم عبد العزيز بن باز وغيره، ومن كتبه الملأى بالتجسيم والتشبيه الكتاب المسمى «القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى»، والكتاب المسمى «عقيدة أهل السّنة والجماعة»، والكتاب المسمى «شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد»، والكتاب المسمى «فتح رب البرية بتلخيص الحموية». الكتاب المسمى المعجم الجامع في تراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين، إعداد ما يسمى ملتقى أهل الحديث، 1/298.
[5] ) الكتاب المسمّى المحاضرات السنية، ابن عثيمين، 1/142.
[6] ) الكتاب المسمّى التعليقات الزكية، عبد الله جبرين، ص 177، 178. الكتاب المسمّى تنبيهات في الرد على من تأول الصفات، عبد العزيز بن باز، ص26، 30.
[7] ) صحيح البخاري، البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، 5/223. صحيح مسلم، مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، 8/195. وغيرهما. قال الحافظ ابن حجر في شرح قول النبيّ ﷺ عن الأعور الدجّال: «إنهُ أعورُ وإنَّ اللهَ ليسَ بأعورَ»: إنما اقتصر على ذلك مع أن أدلّة الحدوث في الدجّال ظاهرة، لكون العور أثرًا محسوسًا يدركه العالِمُ والعامّيّ ومَن لا يهتدي إلى الأدلّة العقلية، فإذا ادّعى أي الدجّالُ الربوبيةَ وهو ناقص الخلقة والإله يتعالى عن النقص علم أنه كاذب» اهـ. فتح الباري، ابن حجر، كتاب الفتن، باب ذكر الدجّال، 9/166.
[8] ) هنا يشبّه المؤلف صفة البصر لله تعالى ببصر المخلوقين فينسب له عينين حقيقيتين، وهذا تشبيه لله بخلقه، وهو خروج عن الدين. ولم يَرِدْ عن أحد من السلف الصالح لفظ حقيقيتين، فهذه إضافة منه لبث تجسيمه وتشبيهه وللتمويه على العوام.
[9] ) الحَدَقَةُ محرَّكةً: سَوادُ العَينِ ج: حَدَقٌ وأحداقٌ وحِداقٌ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة ح د ق، ص 1127.
[10] ) البرهان المؤيد، الرفاعيّ، 1/14.
[11] ) بيان بن سمعان التميميّ النهديّ، إليه تنسب الطائفة البيانية، غلا في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حتى قال: هو إله وحلّ فيه جزء إلهيّ اتحد بناسوته، به كان يعلم الغيب ويظفر بالكفار وبه اقتلع باب خيبر. وزعم أن روح الإله تعالى حلَّت في عليّ، ثم من بعده في ابنه محمد بن الحنفية، ثم من بعده في ابنه أبي هاشم، ثم من بعده في بيان نفسه. وذهب لعنه الله إلى أن معبوده على صورة إنسان، عضوًا فعضوًا، وأنه يهلك إلا وجهه، لقوله تعالى: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} (القصص) تعالى الله عزّ وجلّ عن قوله وافترائه علوًّا كبيرًا. وكتب بيان إلى محمد الباقر رضي الله عنه كتابًا دعاه فيه إلى نفسه وكان من جملته: أسلِمْ تَسلَمْ وترقى في سلم، فإنك لا تدري حيث يجعل الله النبوة، فأمر الباقر رضي الله عنه رسول بيان أن يأكل كتابه، فأكله، فمات من ساعته. ولا خفاء بكفره وكفر تابعيه، ولما ظهر عن بيان هذا ما ظهر قتله خالد بن عبد الله القسريّ اهـ. الوافي بالوفيات، الصفديّ، 3/438.
[12] ) تاج العروس، الزَّبيدي، مادة أ و ل، 28/32.
[13] ) فتح الباري، ابن حجر، 13/526. البرهان في علوم القرآن، الزركشي، 2/149.
[14] ) ما يسمى العقيدة الحموية الكبرى، ابن تيمية، 1/77، 78.
[15] ) ما يسمى العقيدة الحموية الكبرى، ابن تيمية، 1/78. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 5/103، 13/3010. متابعة المعاصرين لابن تيمية في هذه النقطة في ما يسمّى كتاب تنبيهات في الرد على من تأول الصفات، عبد العزيز بن باز، 26، 30.
[16] ) بصائر ذوي التمييز، الفيروزأبادي، 1/144.
[17] ) البحر المحيط، أبو حيان الأندلسيّ، 1/134.
[18] ) إتحاف السادة المتقين، الزَّبيديّ، 2/106.
[19] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 5/129.
[20] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 5/505. ونحوه في شرح حديث النـزول، ابن تيمية، ص130. الكتاب المسمى الأجوبة المفيدة، عبد الرحمن الحُطَيْليّ، ص61.
[21] ) الكتاب المسمى الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، ابن تيمية، 4/412.
[22] ) البرهان المؤيد، أحمد الرفاعيّ، ص17، 18.
[23] ) أبكار الأفكار، الآمديّ، مخطوط، ص194، 195.
[24] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، 3/85.
[25] ) «الفِلْوُ بالكسر وكعَدُوّ وسُمُوّ: الجَحْشُ والمُهْرُ فُطِمَا أو بَلَغَا السَّنَةَ، ج: أفْلاءٌ وفَلاَوَى» اهـ.القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة ف ل و، ص 1704. «الفَصيلُ: ولَدُ الناقةِ إذا فُصِلَ عن أُمه، ج: فُصْلانٌ بالضم والكسر وككِتاب، والفَصِيلَةُ: أُنْثاهُ» اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة ف ص ل، ص 1347.
[26] ) شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز، ص314.
[27] ) شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز، ص314.
[28] ) محمد ناصر الدين بن نوح الألبانيّ، ت 1420هـ، ولد في ألبانيا وانتقل به أبوه إلى دمشق حيث تعرّف إلى بعض المجسمة كمحمد رشيد رضا، فتأثّر برؤوسهم أمثال ابن تيمية وابن القيم، ثم عارضه وحاربه علماء الشام المنـزّهون من أهل السّنة والجماعة وأسموه الوهابيَّ الضالّ، ثم انتقل إلى الأردن ولحق بالمجسم عبد العزيز ابن باز الذي انتدبه لينشر سمومه حيث حلّ، ومن كتبه: ـ ما يسمى ـ«إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل»، وغيره. محمد ناصر الدين الألباني. 16/4. ومن ضلالاته قوله في كتابه الذي أسماه مختصر العلو 1/52: «المذهب الآخر قول بعض غلاة النفاة للعلو: «الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا أمام ولا خلف لا داخل العالم ولا خارجه» ويزيد بعض فلاسفتهم: «لا متصلًا بالعالم ولا منفصلًا عنه» قلت ـ أي الألبانيّ ـ: وهذا النفي معناه ـ كما هو ظاهر ـ أن الله غير موجود وهذا هو التعطيل المطلق والجحد الأكبر تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا» اهـ. ويكفي في الردّ على هذا المجسم الضالّ ما ذُكر في العقيدة المرشدة التي كان يقرؤها الإمام فخر الدين بن عساكر ويعلّمها، وهي من الرسائل المهمة التي فيها بيان عقيدة أهل السّنة والجماعة، وقد أثنى عليها الحافظ صلاح الدين العلائيّ وسماها «العقيدة المرشدة»=
=كما تقدّم، ووافقه على ذلك تاج الدين السبكيّ وقال في آخرها: «هذا آخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سنيٌّ» اهـ، ومنها قوله عن الله تعالى: «موجودٌ قبل الخلقِ، ليس له قبلٌ ولا بعدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يَمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خلفٌ، ولا كل ولا بعضٌ، ولا يقالُ: متى كانَ ولا أينَ كانَ ولا كيفَ، كان ولا مكان، كوَّنَ الأكوانَ ودبَّر الزمانَ، لا يتقيَّدُ بالزمانِ ولا يتخصَّصُ بالمكان» اهـ.
[29] ) مجموع فتاوى ابن عثيمين، ابن عثيمين، 1/168.
[30] ) ولفظ الحديث القدسيّ أنَّ رسول الله ﷺ قال: «إنَّ الله عزَّ وجَلَّ يقولُ يومَ القيامةِ: يا ابنَ آدمَ مَرِضْتُ فلَمْ تَعُدْني؟ قال: يا ربّ كيفَ أعودُكَ وأنتَ رَبُّ العالمينَ؟ قال: أما علمتَ أنَّ عبدِي فلانًا مَرِضَ فلم تَعُدْهُ؟ أما علمتَ أنَّكَ لوْ عُدْتَهُ لوجدتَني عندَهُ، يا ابنَ آدمَ استَطعَمْتُك فلم تُطْعِمْنِي. قالَ: يا ربّ وكيفَ أُطْعِمُكَ وأنتَ ربُّ العالمينَ؟ قالَ: أمَا عَلِمْتَ أنهُ استَطْعَمَكَ عبدي فلانٌ فلمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنكَ لوْ أطعمتَهُ لوجدتَ ذلكَ عندِي؟ يا ابنَ آدمَ استسقيتُكَ فلمْ تَسْقِني. قالَ: يا ربّ كيفَ أَسقيكَ وأنتَ ربُّ العالمينَ؟ قال: استسقاكَ عبدِي فلانٌ فلمْ تَسْقِهِ، أما إنكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وجدتَ ذلكَ عندِي».صحيح مسلم، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، 8/13.
[31] ) شرح العقيدة الطحاوية، الألبانيّ، ص18. التنبيهات، ابن باز، ص34، 71.
[32] ) سنن ابن ماجه، ابن ماجه، المقدمة، فضل ابن عباس، 1/114.
[33] ) فتوى رقم ( 19606) تاريخ 24/4/1418 للهجرة.
ابن باز المجسم هو عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن، عَمِيَ وهو ابن 16 عامًا، وتلقى علومه من رؤوس المشبهة المجسمة في عصره، وبدأ بنشر سمومه وله الكثير من الرسائل التي تنضح بتشبيه الله تعالى، ومن كتبه: الكتاب المسمى «التحذير من البدع» وهو محشوّ بالبدع الغريبة، والكتاب المسمى «الفوائد الجلية في المباحثات الفرضية»، وغيرهما، توفي سنة 1420هـ. الكتاب المسمى المعجم الجامع في تراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين، إعداد ما يسمى ملتقى أهل الحديث، 1/167.
[34] ) المنهاج شرح صحيح مسلم، النوويّ، 5/24.
[35] ) ذكر هذا في مجلة الحج – جمادى الأولى، عام1415هـ، ص74.
[36] ) الفتاوى، الألبانيّ، ص523.
[37] ) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب التفسير، سورة القصص، 6/121.