تأويل حديث النزول والرد على الوهابية المجسمة
إن قال المجسم الوهابي أو غيره من الذين يعتقدون أن الله ذات يسكن ويتحرك دليلنا على ذلك حديث ينـزل ربُّنا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثُلُثُ الليلِ الآخرُ فيقولُ مَن يدعوني فاستجيبَ ومن يسألُني فأعطيَهُ ومن يستغفرُني فأغفِرَ لـه؟
قلنا:
الحديث صحيح، لكن لا يجوز تفسيره بالنزول الحسي من ذات الله تعالى لأنه يلزم على ذلك بشاعة ومحال وذلك لأن الليل والنهار وأجزاءهما كالنصف والثلث يختلف باختلاف البلدان فإن قلتم أن الله ينـزل بالنسبة لبلد واحدة كمكة فقط فمن أين هذا التخصيص ليس عندكم دليل وإن قلتم إنه بالنسبة لكل الدنيا فليل بلد نهار بلد ءاخر ونصف الليل في بلد يكون نصف النهار في بلد ءاخر فيلزم على معتقدكم أن يكون الله نازلا وطالعا كل ساعة من ساعات الليل والنهار وهذا ينافي قولكم إنه مختص بالعرش فبطل عليكم ذلك المعتقد، ثم إن العرش أكبر العوالم بحيث أن الكرسي بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة وأن السموات بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض وعلى هذا تكون سماء الدنيا بالنسبة للعرش أقل من خردلة ملقاة في فلاة فكيف تسع الله الذي هو في معتقدكم بقدر العرش أو أوسع من العرش، إن قلتم هو ينزل إلى السماء الدنيا وهي على حالها وهو على حاله فهذا محال وإن قلتم أن الله يصير أقل من قدر خردلة حتى تسعه السماء الدنيا فهذا أيضا محال، وإن قلتم أن الكرسي والسموات تكون بقدر العرش أو أوسع منه، فمن أين الدليل على ذلك من القرءان أو الحديث؟
قال الإمام الحافظ الحجة أبو بكر بن فورك شيخ البيهقي رحمهما الله في كتابه مشكل الحديث وبيانه ما نصه: وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يؤيد هذا الباب وهو بضم الياء من ينـزل وذكر أنه ضبطه عمـن سمعه من الثقات الضابطين وإذا كان ذلك محفوظا مضبوطا كما قال فوجهه ظاهر.اهـ
فهذه الرواية الصحيحة تـفسر رواية «ينـزل ربنا..».
لأن نزول الملائكة لما كان بأمر الله ليبلغوا عنه عبَّرَ الرسول عن ذلك بوحي من الله بعبارة «ينـزل ربنا».. ولذلك نظير في الـقرءان قال الله تعالى في حق ءادم وحواء: {…وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ *} [سورة الأعراف] فيه دليل على صـحـة رواية النسائي: إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول فيأمر مناديا… فكما أن الله تعالى نسب نداء المَلَك لآدم وحواء إلى نفسه لكونه بأمره فكذلك صح إسنادُ نزول المَلَـك إلى السماء الدنيا ليبلغ عن الله: هل من داع فيستجيبَ الله لـه وهل من سائل فيعطى وهل من مستغفر فيغفر له الله.
وفي الآية أيضا دليل على أن نداء الملك لبعض خلق الله بأمر الله يُسند إلى الله من غير أن يكون هناك صوت يخرج من الله، فمن هنا يؤخذ رد اعتراض بعض المجسمة رواية النسائي لحديث النـزول حيث إنه قال: إن هذه الرواية تستلزم حصول قول المـلك: هل من مستغفر فأغفر لـه وهل من داع فأستجيب له. فنقول كما أن الله جعل نداء الملك لآدم وحواء بأن الله يقول لكما: «ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقُل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين».
كذلك يُحمـل حديـث النـزول على الرواية المشهورة على أن الله يأمر الملك بالنـزول إلى السـمـاء الدنيا ويبلغ عن الله بأن يقول: إن الله يقول لعباده الداعين والسائلين: من يدعوني فأستجيبَ له ومن يسألني فأعطيه إلى ءاخر ما ورد فيه وليس المعنى أن الملك يقول عن نفسه من يستغفرني فأغفر له ومن يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه.
ونظير هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *} [سورة القيامة] معناه فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا ومعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقـرأ القرءان على رسول الله كما يقرأ المعلم على التلميذ فبـهذا ينـحل الإشكال الذي يخطر لبعض الناس والذي يورده ابن تيمية ومن نهج منهجه في التشبيه من وهابية وغيرهم. وقد قال رئيس القضاة الشافعية في مصر في زمانه بدر الدين ابن جماعة في إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل.