الخميس نوفمبر 21, 2024

أولًا: تأويل السلف:

نذكر في هذا السياق بعض الأمثلة لنصوص تأَوَّلهَا السلفُ([1])، منها تأويل ابن عباس رضي الله عنهما كما هو ثابت عنه بسندين حسَّنهما الحافظ ابن حجر قال([2]): «وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ {42}  (القلم) قال: عن شدة من الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه: [مشطور السريع]

قد     سَنَّ  أصحابُك   ضَرْبَ الأَعْنَاقْ

 

وقامتِ الحربُ بنا على ساقْ

وجاء عن أبي موسى الأشعريّ في تفسيرها: عن نور عظيم. قال ابن فورك: معناه ما يتجدَّد للمؤمنين من الفوائد والألطاف. وقال الحافظ الخطابيّ: تهيّب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة. وأسند البيهقيّ الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن، وزاد: إذا خفي عليكم شىء من القرآن فابتغوه من الشعر. وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابيّ في إطلاق الساق على الأمر الشديد: [الرجز]

في سنة قد كشفت عن ساقها

وأسند البيهقيّ من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد يوم القيامة» اهـ.

ومنه تأويل الإمام أحمد، فقد أخرج الحافظ البيهقيّ في كتابه مناقب الإمام أحمد: «عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك([3]) عن حنبل([4]) أن أحمد ابن حنبل تأوّل قول الله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا {22} (الفجر)، أنه: جاء ثوابه. ثم قال البيهقيّ: وهذا إسناد لا غبار عليه»([5]) اهـ.

 وقال صالح الفوزان ـ وهو من رؤوس مشبهة هذا العصر ـ تعليقًا على ذلك([6]): «ما نسبه البيهقيّ إلى الإمام أحمد لم يثبت عنه ولم يوثقه من كتبه أو كتب بعض أصحابه، وذِكْرُ البيهقيّ لذلك لا يُعتمد لأن البيهقيّ عنده شىء من تأويل الصفات فلا يوثق بنقله في هذا الباب لأنه ربما يتساهل في النقل» اهـ.

فتأمّل كيف أن الحافظ البيهقيّ نقله بسند صحيح لا غبار عليه، فلا يُحتاج مع هذا الإسناد إلى توثيقه من كتبه أو كتب بعض أصحابه، ولم نسمع يومًا أن هذا التوثيق من شرائط صحة النقل المعتبرة عند المحدّثين. وانظر إلى قوله هذا الذي ضعَّف به ثبوتَ هذا النقل عن الإمام أحمد وهو احتمال تساهل البيهقيّ. فأي قيمة لهذا الاحتمال مع تصريحه بأنّ سنده لا غبار عليه؟ وتأمل كيف يغيب الحد الأدنى من المنهج العلميّ في جوابهم! على أن محاكمةً لعالم نِحْرير من حُفَّاظ الحديث كالبيهقي من رجل متعالم يناقش بلا دليل وإنما بمجرد هوى النفس، هذا وحده يستدعي التوقّف والاستغراب وتأمل ذلك أيضًا في قول الفوزان([7]): «الحافظ ابن حجر أوَّل الضحك بالرضا، والحافظ متأثر بمذهب الأشاعرة فلا عبرة بقوله في هذا!» وقوله([8]): «الخطابيّ  ممن يتأولون الصفات فلا اعتبار بقوله ولا حجة برأيه، وله تأويلات كثيرة، والله يعفو عنا وعنه!» وكلام الفوزان هذا دليل تشبّع قلبه بالتجسيم لدرجة الطعن بعلماء الأمة لأجل التشبيه والتجسيم الذي يتبع فيه شيخه ابن تيمية مما لا يقع به طالب علم. فما أقبح هذا التجرُّؤ الذي يقوده هوى النفس وعمى البصيرة.

وماذا يقول هذا الفوزان بتأويل الإمام البخاريّ الضحك بالرحمة؟([9]) ففي صحيح البخاريّ([10]) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبيَّ ﷺ فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله ﷺ «من يضمّ؟» أو: «من يضيف هذا؟» فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني! فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيّأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ﷺ فقال: «ضحكَ اللهُ الليلةَ» أو «عَجبَ مِنْ فِعَالِكُما»، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} (الحشر)، قال ابن حجر([11]): «ونسبة الضحك والتعجّب إلى الله مجازية، والمراد بهما الرضا بصنيعهما» اهـ.

وقد أوّل البخاريّ الضحك الوارد في الحديث بالرحمة، نقل ذلك عنه الخطّابيّ([12]) فقال([13]): «وقد تأوَّل البخاريّ الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة وهو قريب وتأويله على معنى الرضا أقرب» اهـ.

كما أوّل البخاريّ([14]) كذلك الآية: مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا {56} (هود)، بقوله: «أي في مُلكه وسلطانه» اهـ.

وما قول هذا الفوزان أيضًا في ما نقله البخاريّ في خلق أفعال العباد عن سفيان الثوريّ أنه قال في قوله عزّ وجلّ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {4} (الحديد) قال([15]): «علمه» اهـ. وما قوله في اختيار البخاريّ في صحيحه تأويل الوجه بالملك في قوله تعالى: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} (القصص): «إلا ملكه» اهـ. ومن طريق سفيان الثوري قال([16]): «إلا ما ابتغي به وجه الله من الأعمال الصالحة» اهـ. فهذا شيخ الحديث الإمام البخاري قد أوّل، فماذا يقول هذا الفوزان ومن كان على شاكلته هل الإمام البخاري هو المخطئ أوهم؟!

وقال البيهقيّ([17]) رحمه الله: «قال رسول الله ﷺ([18]): «لا يتوضّأُ أحدُكُمْ فيحسنُ وضوءَهُ ويُسبغُهُ ثمَّ يأتي المسجدَ لا يريدُ إلا الصلاةَ فيهِ إلا تَبَشْبَشَ اللهُ به كما يتَبَشْبَشُ أهلُ الغائبِ بطَلْعَتِهِ»، ثم قال: «وللعرب استعارات في الكلام، ألا ترى في قوله سبحانه: فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {112} (النحل) بمعنى الاختبار وإن كان أصل الذوق في الفم، والعرب تقول: ناظِرْ فلانًا وذُقْ ما عنده أي تعرّف واختبر، واركب الفرس وذقْهُ، قال الشيخ: وقد مضى في حديث أبي الدرداء: «يستبشر»، وروي ذلك أيضًا في حديث أبي ذَرّ، ومعناه يرضى أفعالهم ويقبل نيتهم فيها، والله أعلم» اهـ.

وقال الزَّبيديّ([19]): «التَّبَشْبُشُ من الله تعالى الرضا والإكرام وتلقّيه بالبِرّ وتقريبه إيّاه، عن ابن الأنباريّ وهو مَجَازٌ، وبه فُسّرَ الحَديثُ: «لا يُوطِنُ الرّجُلُ المسَاجِدَ للصَّلاةِ والذّكْرِ إلا تَبَشْبَشَ اللهُ بهِ كما يَتَبَشْبَشُ الرّجالُ بغائِبِهِم إذا قَدِمَ علَيْهم» اهـ.

ونصّ الإمام الحافظ المفسر عبد الرحمن بن الجوزيّ الحنبليّ (ت 597هـ) على نفي التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى، وردّ في كتابه دفع شبه التشبيه([20]) على ابن الزاغونيّ المجسّم الذي قال: «فلما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ {54} (الأعراف) علمنا اختصاصه بتلك الجهة!»، وقال ابن الزاغونيّ أيضًا: «ولا بد أن يكون لذاته نهاية وغاية يعلمها!»، وقال ابن الجوزي في الرد عليه ما نصه: «قلت: هذا رجل لا يدري ما يقول، لأنه إذا قدَّر غاية وفصلًا بين الخالق والمخلوق فقد حدَّده وأقرَّ بأنه جسم، وهو يقول في كتابه: إنه ليس بجوهر، لأن الجوهر ما تحيز، ثم يثبت له مكانًا يتحيز فيه. قلت: ـ أي ابن الجوزي ـ وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض، فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق وما يستحيل عليه، فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيّز، والتحت والفوق إنما يكون في ما يقابل ويحاذي، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله، وإن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها للمباينة والمماسة، فإذا أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدوثه، وإن منعوا جواز هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر، ومتى قدَّرنا مستغنيًا عن المحل والحيّز ومحتاجًا إلى الحيز ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالًا، فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات.

وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم المتحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز، لأنه لو كان متحيزًا لم يخلُ إما أن يكون ساكنًا في حيزه أو متحركًا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاور أو باين فقد تناهى ذاتًا، والتناهي يختص بمقدار فيستدعي مخصِصًا، وكذا ينبغي أن يقال: ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات، فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختصُّ بالأجرام.

وأما قولهم: خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها! قلنا: ذاته تعالى لا تقبل أن يخلق فيه شىء ولا أن يحل فيه شىء»، ثم قال: «وقد حملهم الحسّ على التشبيه والتخليط، حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضًا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في حقّ الجسم، وقال بعضهم: جهة العرش تحاذي ما يقابله من الذات ولا تحاذي جميع الذات، وهذا صريح في التجسيم والتبعيض. ويعزُّ علينا كيف ينسب هذا القائل إلى مذهبنا.

واحتج بعضهم بأنه ـ أي الله سبحانه ـ على العرش بقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ {10}  (فاطر)، وبقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ {18}  (الأنعام)، وجعلوا ذلك فوقيَّة حسيَّة، ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال: فَوْقَ عِبَادِهِ {18} (الأنعام) قال: وَهُوَ مَعَكُمْ {4} (الحديد)، فمن حملها على العلم حمل خصمه الاستواء على القهر، وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأه، والأشبه ـ أي على زعم هذه الطائفة المجسمة ـ أنه مماسّ للعرش، والكرسيّ موضع قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم بقية». انتهى كلام الحافظ ابن الجوزي، ولقد أجاد وشفى وكفى رحمه الله.

[1] ) جمع ابن المعلم في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي بابًا سرد فيه جماهير المؤولين =
=من الصحابة والتابعين وغيرهم. تعليق الكوثري على دفع شبه التشبيه ص66. وهناك أمثلة منثورة في كتاب الأسماء والصفات للبيهقيّ ودفع شبه التشبيه لابن الجوزيّ وغيرها.

 

[2] ) فتح الباري، ابن حجر، 13/428. راجع أيضًا: الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص 436. إيضاح الدليل، ابن جماعة، ص 135.

 

[3] ) قال الذهبيّ في سير أعلام النبلاء، 15/444: «الشيخ الإمام المحدث المكثر الصادق مسند العراق أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك» اهـ.

 

[4] ) هو حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيبانيّ ابن عم الإمام أحمد، قال الخطيب في تاريخ بغداد، 8/ 286: «كان ثقة ثبتًا» اهـ. وانظر ترجمته في المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، ابن مفلح، 1/365.

 

[5] ) دفع شبه التشبيه، ابن الجوزيّ، ص 13. البداية والنهاية، ابن كثير، 10/327. وأورده الكوثريّ تعليقًا على السيف الصقيل للحافظ السبكيّ، ص 120، 121.

 

[6] ) الكتاب المسمى تعقيبات على كتاب السلفية للبوطيّ، صالح الفوزان، ص33.

 

[7] ) الكتاب المسمى تعقيبات على كتاب السلفية للبوطيّ، صالح الفوزان، ص 34.

 

[8] ) الكتاب المسمى تعقيبات على كتاب السلفية للبوطيّ، صالح الفوزان، ص 36.

 

[9] ) الأسماء والصفات، البيهقي، ص 378.

 

[10] ) صحيح البخاري، البخاري، كتاب المناقب، باب قوله عزَّ وجلَّ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ {9} الحشر، 5/689.

 

[11] ) فتح الباري، ابن حجر، 7/120.

 

[12] ) الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص 470.

 

[13] ) فتح الباري، ابن حجر، 6/470.

 

[14] ) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء {7} (هود)، 6/92.

 

[15] ) ضمن مجموعة عقائد السلف، ص 122.

 

[16] ) فتح الباري، ابن حجر، 8/505.

 

[17] ) الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص 478.

 

[18] ) مسند أبي داود، أبو داود الطيالسيّ، ص307. صحيح ابن حبان، ابن حبان، 3/67.

 

[19] ) تاج العروس، الزَّبيديّ، مادة ب ش ش، 17/81.

 

[20] ) دفع شبه التشبيه، ابن الجوزي، ص129.