الأحد ديسمبر 22, 2024

تأويل أهل الحق لقوله عليه الصلاة والسلام ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء

معنى هذا الحديث الذي رواه الترمذي: «الراحِمونَ يرحمهم الرحمنُ ارْحموا مَنْ في الأرض يرحمكم من في السماء» ، مفسَّر بالرواية الأخرى لهذا الحديث «ارحموا أهل الأرض يرحمْكُم أهلُ السّماءِ» رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم (بشواهده).

فهذه الرواية تُفسِّرُ الرواية الأولى لأنَّ خير ما يُفسر به الحديث الواردُ بالواردِ كما قال الحافظ العراقي في ألفيته: وخيرُ ما فسرته بالوارد.

ثم المرادُ بأهل السماء الملائكة، ذكر ذلك الحافظ العراقي في أماليهِ عقيبَ هذا الحديث، ونص عبارته: واستدلَّ بقوله: «أهل السماء» على أنَّ المرادَ بقوله تعالى في الآية: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الملائكة» اهـ، لأنه لا يقال لله «أهل السماء».

و«مَنْ» تصلحُ للمُفردِ وللجمعِ فلا حجةَ للمجسمة في الآية، ويقال مثلُ ذلك في الآية التي تليها وهي: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} فـ «من» في هذه الآية أيضًا أهل السماء، فإن الله يسلطُ على الكفار الملائكة إذا أرادَ أن يُحِلّ عليهم عقوبتَه في الدنيا كما أنهم في الآخرة هم الموكلون بتسليطِ العقوبة على الكفار لأنهم خزنةُ جهنم وهم يجرُّونَ عنقًا من جهنم إلى الموقفِ ليرتاعَ الكفارُ برؤيته.

وتلك الرواية التي أوردها الحافظ العراقي في أماليهِ هكذا لفظها: «الراحمون يرحمهم الرحيمُ ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء» . وإسنادها حسن، ولا يجوز أن يقال عن الله أهل السماء فتُحمَلُ رواية «من في السماء» على أن المراد بها أهلُ السماء أي الملائكة، وكذلك يُحملُ قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ… *} [سورة الملك] على الملائكة، ومعروفٌ في النحوِ إفرادُ ضميرِ الجمع، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ… *} [سورة الأنعام] وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ… *} [سورة يونس] .

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «ارحموا من في الأرض» معناه بإرشادهم إلى الخير بتعليمهم أمور الدين الضرورية التي هي سببٌ لإنقاذهم من النار وبإطعامِ جائِعِهم وكِسوةِ عاريهم ونحو ذلك. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «يرحمكم أهل السماء» ، فأهلُ السماء هم الملائكة وهم يرحمون من في الأرض أي أن الله يأمُرُهم بأن يستغفروا للمؤمنين، كما قال تعالى: {…وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [سورة الشُّورى] ، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *} [سورة غافر] ، ويُنـزلون لهم المطر وينفحونهم بنفحاتِ خيرٍ ويُمِدونهم بمدد خيرٍ وبركة، ويحفظونهم على حسبِ ما يأمرهم الله تعالى.

قال العلامة السندي (ت 1138هـ) في حاشيته على مسند أحمد[(691)]: (يَرْحَمْكُمْ) بالجزم على جواب الأمر، ويمكن الرفع على الاستئناف بمنـزلة التعليل على معنى: يرحمكم إن رحمتم، (أَهْلُ السّمَاءِ) أي: سكان السماء من الملائكة الكرام، ورحمتهم بالاستغفار لهم وللدعاء، وتفسيره بالله بعيد» اهـ

قلنا: كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا *} [سورة مريم] .

وقال الإمام النووي (ت 676): قال القاضي عياض المالكي (ت544): لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدِّثهم ومتكلِّمهم ونظَّارهم ومقلِّدهم أنَّ الظَّواهر الواردة بذكر الله في السَّماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ… *} [سورة الملك] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوّلة عند جميعهم اهـ ذكره في كتابه شرح صحيح مسلم[(692)].

قال الإمام القرطبي (ت671): في تفسيره في قول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} : وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. اهـ ثم قال: والمراد بها توقيره وتنـزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنـزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان» اهـ. انظر كتاب تفسير القرطبي[(693)].

قال الإمام الرَّازيُّ (ت604): واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، والجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين، لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطًا به من جميع الجوانب، فيكون أصغر من السماء، والسماء أصغر من العرش بكثير، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئًا حقيرًا بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال، ولأنه تعالى قال: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ… *} [سورة الأنعام] فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكًا لنفسه وهذا محال، فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل»[(694)].

وقال أيضا في كتابه التفسير الكبير[(695)]: «ولو تدبر الإنسان القرءان لوجده مملوءا من عدم جواز كونه في مكان» اهـ.

ويردُّ على المجسمة بإيراد الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ… *} [سورة الزمر] فيقال لهم: هل تزعمون أن الله يُصعق، وكذا يُردُّ عليهم بإيراد الآية: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ… *} [سورة الأنبياء] .

ثمَّ لو كانَ الله ساكنَ السماءِ كما يزعمُ المجسمة لكانَ الله يزاحِمُ الملائكةَ وهذا مُحال، فقد ثبتَ في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد «الحديث، وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني من حديث جابر مرفوعا «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد «وللطبراني نحوه من حديث عائشة. وفيه دليلٌ على أنه يستحيل على الله أن يكونَ ساكنَ السماءِ وإلا لكانَ مساويًا للملائكةِ مزاحِمًا لهم.

فائدة: كِلاَ اللَّفْظَيْنِ (أَهْلُ السَّمَاءِ، مَنْ فِي السَّمَاءِ) مَحْفُوظَانِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي قَابُوسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، مَرْفُوعًا.

فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ – أَيْ سُفْيَانَ – بِلَفْظِ (أَهْلُ السَّمَاءِ)، وَ هُمْ:

1- أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.

2- عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ.

3- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ.

4- مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ.

5- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ.

6- إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّالْقَانِيُّ.

7- مُحْمُودُ بْنُ آَدَمَ.

وَرَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ أَيْضًا بِلَفْظِ (مَنْ فِي السَّمَاءِ)، وَهُمْ:

1- أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

2- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ.

3- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ.

4- عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ.

5- مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْقُرَشِيُّ.

6- خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ.

وهذَا الحدِيثُ يُسمَّى «المُسَلسَلُ بِالأوَّلِـيَّةِ»، وهُو حديثٌ درجَ المُحدِّثون عَلَى الافْتِتاحِ بِهِ فِي سَمَاعِهِم وإسْمَاعِهِم لِمَا فِيهِ مِنْ تَسَلْسُلِ الأوَّلِـيَّة. وقد لَهجَتْ به ألسِنةُ المُحدِّثينَ (بِشَرْطِهِ) فافتتحُوا به مَجالِسَ التَّحدِيثِ والأمَالِي، وضمَّنُوه مَسمُوعَاتِهم وإجَازاتِهِم، بل صنَّفوا فيه المُصنفَات الكثِيرة، ونظمُوا فيه الأشْعَار الطَّريفة، واستخرجُوا منه الكثير من الفَوائد الإسناديَّة والمتنيَّة.

ومعنى مسلسل بالأولية أن يقول الراوى حدثنا فلان وهو أول حديث سمعته منه قال حدثنا فلان وهو أول حديث سمعته منه.. إلى ءاخره.

وقد قال الحافِظُ ابن ناصرالدِّين الدِّمشقِيُّ في كتابِهِ «مجالِسُ في تفسِير قول اللَّه تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم»: «هذا الحديثُ له ألقابٌ بحسَبِ الوجُوه الَّتي روينَاهُ منْهَا، فهُو حديثٌ صحيحٌ، حسنٌ، فردٌ، مُسلسلٌ من وجهين، مُعلٌّ من وجوهٍ، مُختلَفٌ في إسنادِهِ من وجُوهٍ، مرفُوعٌ، موقُوفٌ من وجْهٍ، مُنقطِعٌ على قولٍ مرجُوحٍ، مُعنعنٌ».

وقال في موضعٍ آخر: «هذا الحديث له ألقابٌ بحسَبِ طُرقِهِ الَّتي رويناها منه، فهو حديثٌ صحيحٌ، وحسنٌ، وضعيفُ الإسناد من وجه، وفردٌ، ومُعلٌّ من وجوهٍ، ومرفُوعٌ، وموقُوفٌ من وجْهٍ، ومُسلسلٌ بالأوَّليةِ: مقطُوعُ التسلسُلِ، وموصُول التسلسُلِ من غير انقطاعٍ، كما رويناهُ، ومُعنعنٌ، لقولِ سُفيانَ فيه: عن عمرِو بن دينار، عن أبي قابوسَ، عن عبداللَّه بن عَمرٍو».

ـ[691]       شرح صحيح مسلم (5/22).

ـ[692]       تفسير القرطبي (المجلد 9 الجزء 18 صحيفة 141).

ـ[693]       انظر كتاب التفسير الكبير(ج15 جزء30 ص61).

ـ[694]       التفسير الكبير (المجلد 13 الجزء 25 الصحيفة رقم 194).

ـ[695]       زاد المسير (الطبعة الرابعة 1407هـ الجزء الثامن ص341).