الجمعة مارس 29, 2024

بَيَانُ (مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ)

     (فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِجْمَالًا) أَىْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ (أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأَعْتَقِدُ وَأُذْعِنُ بِقَلْبِى) بِأَنْ تَقْبَلَ نَفْسِى وَتَعْتَقِدَ (أَنَّ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ) أَىْ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ أَىْ أَنْ يُتَذَلَّلَ لَهُ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ إِلَّا اللَّهُ وَفَسَّرَهَا الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ بِقَوْلِهِ لا خَالِقَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلَّا اللَّهُ وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَحْسَنُ ذَكَرَهُ الإِمَامُ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الِاعْتِقَادِ.

     (وَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأُذْعِنُ بِقَلْبِى أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا ﷺ) أَىْ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ (مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى كَافَّةِ الْعَالَمِينَ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَى كَافَّةِ الْبَشَرِ مِنْ عَرَبٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى كَافَّةِ الْجِنِّ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ وَيُبَشِّرَ مَنْ ءَامَنَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَيُنْذِرَ مَنْ كَفَرَ بِالْعَذَابِ الأَلِيمِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ وَالإِنْذَارُ هُوَ التَّخْوِيفُ بِالنَّارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا الإِنْذَارُ لِلإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَطْ أَمَّا الْمَلائِكَةُ فَلا يَعْصُونَ اللَّهَ أَبَدًا وَلا يَخْتَارُونَ إِلَّا الطَّاعَةَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلا يَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْذَارٍ. وَهُوَ ﷺ (صَادِقٌ فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى) كَأُمُورِ الآخِرَةِ أَوْ أَخْبَارِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ أَوْ تَحْلِيلِ شَىْءٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ فَيَجِبُ الإِيمَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ (لِيُؤْمِنُوا) أَىْ لِيَأْمُرَهُمْ بِالإِيمَانِ (بِشَرِيعَتِهِ وَيَتَّبِعُوهُ) فِى كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ.

     (وَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَتَيْنِ نَفْىُ الأُلُوهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ) أَىْ نَفْىُ أَنْ يَكُونَ شَىْءٌ سِوَى اللَّهِ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ (وَإِثْبَاتُهَا) أَىِ الأُلُوهِيَّةِ (لِلَّهِ تَعَالَى) وَحْدَهُ (مَعَ الإِقْرَارِ) أَىِ الِاعْتِرَافِ وَالإِيمَانِ (بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ) أَىْ فِى كَوْنِهِ مُرْسَلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ الإِيمَانَ بِمُحِمَّدٍ لا بُدَّ مِنْهُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾) أَىْ هَيَّأْنَا لَهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ لِكُفْرِهِمْ فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ فَإِنَّ الْقُرْءَانَ سَمَّاهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ وَسَمَّاهُمْ كَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ (فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ فِى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَمَنْ نَازَعَ) أَىْ عَارَضَ وَخَالَفَ (فِى هَذَا الْمَوْضُوعِ) فَأَنْكَرَ الإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ (يَكُونُ قَدْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ وَمَنْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ كَفَرَ) لِأَنَّهُ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِهِ.

     (وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ الإِسْلامِيُّونَ) أَىِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ (عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الإِسْلامِ) أَىْ مَنِ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ دِينًا غَيْرَ دِينِ الإِسْلامِ (وَ)اتَّفَقُوا (عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ) أَىْ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الإِسْلامِ (أَوْ شَكَّ) فِى كُفْرِهِ كَأَنْ يَقُولَ لَعَلَّهُ كَافِرٌ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ (أَوْ تَوَقَّفَ) فِى تَكْفِيرِهِ (كَأَنْ يَقُولَ أَنَا لا أَقُولُ إِنَّهُ كَافِرٌ أَوْ غَيْرُ كَافِرٍ) لِتَكْذِيبِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

     (وَاعْلَمْ بِاسْتِيقَانٍ) أَىْ جَازِمًا بِلا شَكٍّ (أَنَّهُ لا يَصِحُّ الإِيمَانُ وَالإِسْلامُ وَلا تُقْبَلُ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ) مِنَ الْكَافِرِ (بِدُونِ) اعْتِقَادِ مَعْنَى (الشَّهَادَتَيْنِ) وَالنُّطْقِ بِهِمَا (بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) أَوْ بِلَفْظِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (أَوْ مَا فِى مَعْنَاهُمَا) كَلَفْظِ لا رَبَّ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ نَبِىُّ اللَّهِ (وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ).

     (وَيَكْفِى لِصِحَّةِ الإِسْلامِ النُّطْقُ) بِالشَّهَادَتَيْنِ (مَرَّةً فِى الْعُمُرِ وَيَبْقَى وُجُوبُهَا) بَعْدَ تِلْكَ الْمَرَّةِ (فِى كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ) وَ(هَذَا) أَىِ اشْتِرَاطُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِصِحَّةِ الإِسْلامِ هُوَ (فِيمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَرَادَ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ وَأَمَّا مَنْ) وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَ(نَشَأَ عَلَى الإِسْلامِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ) مَعْنَى (الشَّهَادَتَيْنِ) عِنْدَ الْبُلُوغِ (فَلا يُشْتَرَطُ فِى حَقِّهِ النُّطْقُ بِهِمَا بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ) مُؤْمِنٌ (لَوْ لَمْ يَنْطِقْ) بِهِمَا بِلِسَانِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ لَكِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

     (وَ)اعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ أَدَاءُ فَرَائِضِ اللَّهِ (قَالَ) رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) وَهُوَ (حَدِيثٌ قُدْسِىٌّ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) صَدَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِقَالَ اللَّهُ (وَأَفْضَلُ وَأَوَّلُ فَرْضٍ هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) لِقَوْلِهِ ﷺ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. (وَاعْتِقَادُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَطْ لا يَكْفِى مَا لَمْ يُقْرَنْ بِاعْتِقَادِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ) اللَّهُ (تَعَالَى ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾) أَىْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاءِ الْكَافِرِينَ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ (﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾) أَىْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أَىْ) فَهُمْ كُفَّارٌ وَ(لا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ لِكُفْرِهِمْ) وَلَوْ أَحَبَّهُمْ أَىْ لَوْ أَرَادَ لَهُمُ الْخَيْرَ فِى الآخِرَةِ لَرَزَقَهُمُ الإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ لِقَوْلِهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ يُعْطِى الْمَالَ لِمَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لا يُحِبُّ وَلا يُعْطِى الإِيمَانَ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ (وَالْمُرَادُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِى هَذِهِ الآيَةِ الإِيمَانُ بِهِمَا) كَمَا تَقَدَّمَ (فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُحِبُّهُ لِكُفْرِهِ) مَهْمَا حَسُنَ خُلُقُهُ وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ (فَمَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لِأَنَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ) وَكَفَرَ (فَيُقَالُ لَهُ اللَّهُ) تَعَالَى (خَلَقَ الْجَمِيعَ لَكِنْ لا يُحِبُّ الْكُلَّ) كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ أَىْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ إِنَّ الَّذِى يُدَهْدِهُهُ أَىْ يُدَحْرِجُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْجُعَلُ يُدَحْرِجُ الْقَذَرَ الَّذِى يَخْرُجُ مِنْ بَنِى ءَادَمَ وَيَجْعَلُهُ حُبَيْبَاتٍ لِيَتَقَوَّتَ بِهِ. وَالْجُعَلُ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ سَوْدَاءُ.