بيان في تمييز الكبائر
اعلم أن أهل الحق اتفقوا على أن الذنوب كبائر وصغائر قال الله تعالى ﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة﴾ [سورة النجم/32]، وقال تعالى ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ [سورة النساء/31] والمراد هنا بالسيئات الذنوب الصغائر معناه من تجنب الكبائر لا يؤاخذ في الآخرة بالصغائر، وفي الصحيح [أي صحيح مسلم]: »الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر« أي ما لم ترتكب الكبائر. ومعنى اللمم في الآية المار ذكرها الصغائر كما دل على ذلك حديث البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما رأيت أشبه باللمم بما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال »إن الله كتب على ابن ءادم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر واليد تزني وزناها البطش« وفي رواية ابن حبان [في صحيحه]» والرجل زناؤها المشي واللسان زناؤه الكلام« وفي رواية »الكلام والفم يزني وزناه القبل والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه «رواه أبو داود [في سننه].
شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمور بالزنى لأنها مقدمات للزنى وقوله صلى الله عليه وسلم »والفرج يصدق ذلك أو يكذبه« بيان لذلك.
ولم يثبت بحديث حصر الكبائر في عدد معين، وروى عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قيل لابن عباس: كم الكبائر أهي سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وورد مما ثبت أنها تسعة وليس المراد بذلك الحصر، روى البخاري في الأدب المفرد بسنده إلى ابن عمر موقوفًا: »إنما هي تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة [يعني بغير حق]، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والذي يستسحر، والإلحاد في المسجد [يعني الحرام]، وبكاء الوالدين من العقوق«. ومعنى الإلحاد في الحرم استحلال البيت الحرام أي الاسترسال في المعاصي الكبيرة في حرم مكة، والحرم هو المسافة التي حددها إبراهيم عليه السلام بوحي من الله حول الكعبة من جميع جهاتها.
وليعلم أن السيئات لا يضاعف شىء منها في المسجد الحرام أو مسجد الرسول إلا من عمل ظلمًا كبيرًا في الحرم المكي كقتل نفس مؤمنة بغير حق أو قطع الطرف ظلمًا وعدوانًا وما أشبه ذلك وهذا الذي قال الله فيه ﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم﴾ [سورة الحج/25] يعني أن الذي يجني جنايةً أي يظلم ظلمًا كبيرًا في المسجد الحرام [أي في الحرم المكي] حتى لو لم ينفذ لكنه أراد، الله تعالى جعل جزاءه عذابًا أليمًا.
وأما ما اشتهر عند بعض الناس أن حسنة الحرم بمائة ألف وسيئة الحرم بمائة ألف فهو غير صحيح إنما الصحيح الثابت عن رسول الله أن الصلاة في المسجد الأقصى تضاعف إلى خمسمائة بالنسبة لغيره من المساجد وأن الصلاة في مسجد الرسول بألف صلاة في غيره أي المسجد الأقصى وأن الصلاة بمكة بمائة ألف صلاة في غيره أي مسجد الرسول المعنى أن الصلاة في المدينة بخمسمائة ألف صلاة وفي المسجد الحرام مع ضربها بمائة ألف فتكون المضاعفة بلغت خمسين ألف مليون ومضاعفة الثواب تحصل لمن صلى في المسجد الحرام في القدر الذي يصح الطواف فيه مع الزيادة التي أضيفت من زمن النبي إلى أيامنا للصلاة فيها وعند كثير من الفقهاء تحصل المضاعفة في كل الحرم الذي حدده إبراهيم عليه السلام وهو مساحة واسعة. وروى البخاري ومسلم [في صحيحيهما] من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال »اجتنبوا السبع الموبقات «قيل وما هن يا رسول الله؟ قال» الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وأكل الربا وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات« ومعنى المحصنات الحرائر، ومعنى الغافلات العفيفات. وأخرج أبو داود [في سننه] هذا الحديث بلفظ »إن أولياء الله المصلون ومن يجتنب الكبائر« قالوا وما الكبائر؟ قال» هن تسع أعظمهن الإشراك« فذكر مثل ذلك إلا أن فيه التعبير باستحلال البيت الحرام بدل الإلحاد في المسجد، وورد في أحاديث أخر بعضها مرفوع وبعضها موقوف ذكر الانتقال عن الهجرة [الانتقال عن الهجرة أي الانتقال إلى أرض المشركين وكان ذلك من الكبائر في تلك الأيام أي في الوقت الذي كانت الهجرة فيه إلى المدينة واجبةً لأن فيه كسر عزائم المهاجرين كالذي يفر من القتال هذا يشبه هذا لأن اجتماع المسلمين في المدينة تقوية للإسلام، لذلك فرضها الله، ثم بعد الفتح نسخ هذا الحكم]، والزنى، والسرقة، واليمين الغموس [كأن يكون لشخص مسلم على شخص ءاخر مال فأنكره فقال له الحاكم احلف أن هذا المال ليس له عليك فحلف، وسمي بالغموس لأنه يغمس صاحبه بالذنب. وفيه نزل قوله تعالى ﴿إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم﴾ [سورة ءال عمران/77] قال الواحدي نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ضيعة فهم المدعى عليه أن يحلف فأنزل الله هذه الآية فنكل المدعى عليه من اليمين وأقر للمدعي بحقه. وروى الترمذي وغيره من حديث عبد الله أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان«]، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والنميمة، وترك التنزه من البول، والغلول، ونكث الصفقة [أي نقض البيعة مع الخليفة كما فعل بنو أمية مع علي]، وفراق الجماعة [فراق الجماعة معناه الخروج عن مذهب أهل السنة]، والغيبة.
وصح من الموقوف ما رواه عبد الرزاق [في مصنفه] عن ابن مسعود من قوله» أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله« [أي رحمة الله]، وورد من قول عبد الله بن عمرو ذكر البهتان، وثبت من قول المغيرة بن مقسم» الإضرار في الوصية من الكبائر« [وذلك كأن أوصى بحرمان بعض أولاده من الإرث وحصره في واحد منهم فهذه الوصية لا تنفذ لأنها معصية وهو يكون عاصيًا من أهل الكبائر بوصيته هذه لأن هذا قطيعة رحم وهي من أكبر الكبائر. أما الهبة والتمليك في الحياة لواحد من أبنائه دون غيره بغير سبب شرعي فهو حرام عند بعض الأئمة وعند بعضهم مكروه هذا إذا كان لا يحصل منه قطيعة الرحم أما إن علم أنه يؤدي إلى قطيعة الرحم فحرام أيضًا عند الأئمة الآخرين.
أما إذا كان أحد أبنائه بارا والآخرون عاقين له فخص هذا البار بهبة في حياته فهذا لا بأس به لأن هذا لا يؤدي إلى القطيعة لأنهم يعرفون السبب فيقولون أبونا ملك هذا من بيننا ولم يملكنا شيئًا لأنه كان بارا به ونحن كنا عاقين له، كذلك إن كان بعضهم فقيرًا وبعضهم غنيا فخص هذا الفقير من بينهم بالتمليك في حياته فلا بأس بهذا أيضًا لأن له سببًا شرعيا.
كذلك إن كان بعضهم من ذوي العاهات فخص الذين هم من ذوي العاهات بالهبة فملكهم في حياته قسمًا من أملاكه فلا بأس بذلك أيضًا، كذلك لو أعطى الذين هم دينون وحرم الذين هم غير دينين فلا بأس، أما الوصية أي إسناد ذلك إلى ما بعد وفاته فهو باطل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث« رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. معناه لا توصوا للوارث لأن الله تعالى قسم الميراث في كتابه في القرءان الكريم قال ﴿فللذكر مثل حظ الأنثيين﴾ [سورة النساء/176] وقال عن الزوجة إن حصتها الثمن في حال والربع في حال وكذلك سائر الورثة الذين ذكرهم الله في القرءان، وأن الزوج حصته في حال النصف وفي حال الربع، وأن الأم حصتها في حال الثلث وفي حال السدس، وأن الأب حصته في حال السدس، إلى غير ذلك من تفاصيل المواريث]، وعنه مرفوعًا »الجمع بين الصلاتين من غير عذر«، وثبت أيضًا عن عمر من قوله أخرجه ابن أبي حاتم، وثبت عند البزار [في مسنده] من حديث بريدة» منع فضل الماء [كأن أخذ حاجته من الماء العام من بئر أو غيره ومنع الناس من أن يأخذوا بعده حاجتهم منه] ومنع طروق الفحل« [هذا إن كان يؤدي إلى الإضرار بصاحب النوق كأن كانت عيشته متوقفةً على هذا. وإلا فلا يكون من الكبائر مجرد تمنعه عن إعارته الفحل الذي عنده لكن من كان عنده نوق وليس عنده فحل يطرق هذه النوق إن طلب من صاحب الفحل أن يعيره إياه ليطرق له نوقه ليحملن فتمنع عليه فهو حرام] وثبت عند الحاكم [في المستدرك] »الصلوات كفارات إلا من ثلاث الإشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة «أي معتقد أهل السنة وهو من حديث أبي هريرة، وروى ابن مردويه: »أكبر الكبائر سوء الظن بالله«، وروى الطبراني عن أبي أمامة »أنهم تذاكروا الكبائر فقالوا: الشرك، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والسحر، والعقوق وقول الزور، والغلول، والزنى«، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا«.
وأما عد نسيان القرءان من الكبائر فلا يصح لأن حديث »نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرءان أوتيها رجل فنسيها« [أخرجه الترمذي في سننه] ضعيف [ضعفه الحافظ ابن حجر في فتح الباري] وهو مشكل معنًى أي لا يصح إلا أن يحمل على ما جاء عن أبي يوسف القاضي وغيره من تفسير ذلك بترك العمل به. ومعنى ترك العمل به إضاعة الفرائض وارتكاب المعاصي.
وكل ما ذكر لا يبلغ عدده السبعين بل أقل بكثير، وقد تكلف الشيخ ابن حجر الهيتمي تعديدها إلى أن أوصلها إلى أربعمائة وزيادة فليس ذلك منه بجيد لأن في خلال ما عده ما يبعد أن يكون كبيرةً.
ثم إنه عرفت الكبيرة بألفاظ متعددة ومن أحسن ما قيل في ذلك: كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدة العقاب أو علق عليه الحد وشدد النكير عليه فهو كبيرة [انظر فتح الباري] وكذا كل ذنب ورد في القرءان أو الحديث أن فاعله ملعون أو شبه فاعله بالكافر. وقد أوصل عددها تاج الدين السبكي إلى خمسة وثلاثين من غير ادعاء حصر في ذلك، نظم ذلك السيوطي في ثمانية أبيات وهي هذه: [الرجز]
كالقتل والزنى وشرب الخمر *** ومطلق المسكر ثم السحر
والقذف واللواط ثم الفطر *** ويأس رحمة وأمن المكر
والغصب والسرقة والشهادة *** بالزور والرشوة والقيادة
منع زكاة ودياثة فرار *** خيانة في الكيل والوزن ظهار
نميمة كتم شهادة يمين *** فاجرة على نبينا يمين [أي يكذب على الرسول من مان يمين بمعنى كذب]
وسب صحبه وضرب المسلم *** سعاية عق وقطع الرحم
حرابة [أي قطع الطريق] تقديـمه الصلاة أو *** تأخيرها ومال أيتام رأوا
وأكل خنزير وميت والربا *** والغل أو صغيرة قد واظبا
ومن الأحاديث الحسان الواردة في هذا الباب حديث: »ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء« رواه الحاكم [في المستدرك] وغيره، ويحسن عد الجماع للحائض في الكبائر.
تنبيه المعروف عند الشافعية عد اليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله في الكبائر التي دون الكفر، والمعروف عند الحنفية عدهما ردةً خروجًا من الإسلام ويزول الإشكال في ذلك بأن يقال معناهما عند الشافعية غير معناهما عند الحنفية كما تقدم.
ومن الكبائر القيام بصورة الصلاة من غير وضوء عمدًا وقال أبو حنيفة بكفر من يفعل ذلك [رد المحتار على الدر المختار].
ومن الكبائر النياحة والطعن في الأنساب فقد ثبت في الحديث [أخرجه مسلم في صحيحه] أن الرسول سمى النياحة والطعن في الأنساب كفرًا أي يشبهان الكفر.
ومعنى الطعن في الأنساب كقول بعض الناس فلان ابن زنًى.
ومن الكبائر أن يقول الشخص رأيت في المنام كذا وهو لم ير كالذي يزعم أنه رأى رسول الله في المنام وقال له كذا وكذا وهو لم ير ففي الحديث» من تحلم بما لم ير كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وما هو بعاقد« رواه البخاري [في صحيحه].
هذا وبعض الناس يأكلون أموال الناس بالباطل بقولهم لهم رأيت رسول الله في المنام وهو يأمرك أن تعطيني كذا وكذا من المال كما فعل بعض أدعياء التصوف.
ويكذب بعضهم فيقول لشخص رأيت رسول الله في المنام وهو يأمرك بأن تزوجني بنتك فيصدقه ويزوجه بنته.
ومن الكبائر تحريف لفظ الجلالة «الله» إلى ءاه كما يفعل كثير من المتصوفة. مع أن ءاه من ألفاظ الشكاية والتوجع كما ذكر علماء اللغة ومن تعمده في الصلاة بطلت صلاته كما ذكر الفقهاء. فلو كان من أسماء الله لم يبطل الصلاة، ولو كان من أسماء الله ما نهى رسول الله المتثائب عن قولها عند التثاؤب [أخرجه الترمذي في سننه]. وكذلك يحرم تحريف لفظ الجلالة الله إلى اللا كما يفعل أكثر الناس اليوم وكذلك قولهم عن الرزاق الرزاء.
ومن الكبائر أن نحكم على شخص بالكفر لقول ثقة واحد بأنه كفر، أما لو ظننا ظنا لقول هذا الثقة الواحد فيجوز.