بَابُ صَلاةِ الْمُسَافِرِ
أَيْ كَيْفِيَّتُهَا مِنْ حَيْثُ الْقَصْرُ وَالْجَمْعُ، (إِذَا سَافَرَ) الإِنْسَانُ (فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ سَفَرًا يَبْلُغُ) سَيْرُهُ ثَمَانِيَةً (وَأَرْبَعِينَ) مِيلاً (بِالْهَاشِمِيِّ)، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِمَرْحَلَتَيْنِ وَهُمَا سَيْرُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَعَ النُّزُولِ الْمُعْتَادِ لِلاِسْتِرَاحَةِ وَالأَكْلِ وَالصَّلاةِ وَنَحْوِهَا (فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: »فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاةِ الْحَضَرِ« وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يُصَلَّيَانِ رَكْعَتَيْنِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا لا يَكُونُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ فَامْتَنَعَ الْقَصْرُ فِيمَا دُونَهَا. وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيلُ أَرْبَعَةُ آلافِ خُطْوَةٍ وَالْخُطْوَةُ ثَلاثَةُ أَقْدَامٍ.
وَقَوْلُهُ بِالْهَاشِمِيِّ نِسْبَةٌ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ وَالنَّوَوِيُّ: فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ حِينَ أَفْضَتِ الْخِلافَةُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ تَقْرِيرِ بَنِي أُمَيَّةَ لَهَا بِأَمْيَالٍ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلِهَذَا قَدَّرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيْمِ بِأَرْبَعِينَ نَظَرًا إِلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ كَالْحَجِّ وَالْمَنْدُوبَ كَزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُبَاحَ كَالتِّجَارَةِ، وَالْمَكْرُوهَ كَسَفَرِ الْمُنْفَرِدِ عَنْ رَفِيقٍ، وَيُخْرِجُ الْمُحَرَّمَ كَالآبِقِ وَالنَّاشِزَةِ وَالْمُسَافِرِ لِمَظْلَمَةٍ، أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ زِنًا بِامْرَأَةٍ فَلا قَصْرَ فِيهِ لأِنَّهُ رُخْصَةٌ وَإِعَانَةٌ وَالْعَاصِي لا يُعَانُ. وَاخْتِصَاصُ الْقَصْرِ بِمَا عَدَا الصُّبْحَ وَالْمَغْرِبَ إِجْمَاعٌ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ (إِذَا فَارَقَ بُنْيَانَ الْبَلَدِ) إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَوْ سُورَهَا إِنْ كاَنَ لَهَا سُورٌ وَلا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ الْخَرَابِ الَّذِي لا عِمَارَةَ وَرَاءَهُ وَلا الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ، (أَوْ خِيَامَ قَوْمِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخِيَامِ) وَلا يَكْفِي مُفَارَقَةُ خَيْمَتِهِ وَلا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ خِيَامِ غَيْرِ قَوْمِهِ وَإِنْ تَقَارَبَا وَضَابِطُ الْقَوْمِ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَجْتَمِعُونَ لِلسَّمَرِ فِي نَادٍ وَاحِدٍ وَيَسْتَعِيرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَيُشْتَرَطُ مَعَ مُفَارَقَةِ الْخِيَامِ مُفَارَقَةُ مَرَافِقِهَا كَمَطْرَحِ الرَّمَادِ، وَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ وَالنَّادِي وَمَعَاطِنِ الإِبِلِ وَمرتكَضِ الْخَيْلِ، وَلا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ عَرْضِ الْوَادِي إِنْ سَافَرَ فِي عَرْضِهِ وَالْهَبُوطِ إِنْ كَانَ فِي رَبْوَةٍ، وَالصَّعُودِ إِنْ كَانَ فِي وِهْدَةٍ.
(وَالأَفْضَلُ أَنْ لا يَقْصُرَ إِلاَّ فِي سَفَرٍ يَبْلُغُ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) خُرُوجًا مِنْ خِلافِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْقَصْرَ فِيمَا دُونَهَا، (فَإِذَا بَلَغَ سَفَرُهُ ذَلِكَ كَانَ الْقَصْرُ أَفْضَلَ مِنَ الإِتْمَامِ) خُرُوجًا مِنْ خِلافِهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقَصْرَ حِينَئِذٍ وَيُسْتَثْنَى الْمَلاَّحُ الَّذِي يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَأَوْلادُهُ فِي سَفِينَةٍ فَالأَفْضَلُ لَهُ الإِتْمَامُ خُرُوجًا مِنْ خِلافِ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ لا يُجَوِّزُ لَهُ الْقَصْرَ لأِنَّهُ فِي وَطَنِهِ (فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ طَرِيقَانِ يُقْصَرُ فِي أَحَدِهِمَا) بِأَنْ كَانَ يَبْلُغُ مَسَافَةَ الْقَصْرِ (وَلا يُقْصَرُ فِي الآخَرِ) بِأَنْ كَانَ لا يَبْلُغُهَا (فَسَلَكَ الأَبْعَدَ لِغَيْرِ غَرَضٍ) بَلْ لِمُجَرَّدِ الْقَصْرِ (لَمْ يُقْصَرْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ) وَهُوَ الأَظْهَرُ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَمَا لَوْ سَلَكَ الْقَصِيرَ وَطَوَّلَهُ بِالذَّهَابِ يَمِينًا وَشِمَالاً (وَيُقْصَرُ فِي) الْقَوْلِ (الآخَرِ) نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ طَوِيلٌ مُبَاحٌ فَإِنْ سَلَكَ الأَبْعَدَ لِغَرَضٍ كَسُهُولَةٍ، أَوْ أَمْنٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ عِيَادَةٍ وَكَذَا تَنَزُّهٌ قَصَرَ جَزْمًا. وَكَذَا لَوْ بَلَغَ كُلٌّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَأَحَدُهُمَا أَطْوَلُ فَسَلَكَهُ لِغَيْرِ غَرَضٍ قَصَرَ جَزْمًا.
(فَإِنْ أَحْرَمَ) بِالصَّلاةِ (فِي الْبَلَدِ ثُمَّ سَافَرَ) فِي أَثْنَائِهَا بِأَنْ سَارَتْ سَفِينَتُهُ (أَوْ أَحْرَمَ) بِهَا (فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَقَامَ) فِي أَثْنَائِهَا بِأَنْ وَصَلَتْ سَفِينَتُهُ دَارَ إِقَامَتِهِ (أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ) أَيْ هَلْ أَحْرَمَ فِي الْبَلَدِ أَوْ لا أَوْ هَلْ أَقَامَ أَوْ لا (أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ) فِي الإِحْرَامِ أَوْ شَكَّ هَلْ نَوَاهُ أَوْ لا (أَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلاتِهِ) كَأَنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ سَلامِهِ أَوْ أَحْدَثَ عَقِبَ اقْتِدَائِهِ أَوِ ائْتَمَّ هُوَ (بِمَنْ لا يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ) فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا وَهِيَ سِتَّةٌ وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي الأَخِيرَةِ أَنَّ إِمَامَهُ مُسَافِرٌ قَاصِرٌ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الإِتْمَامِ الَّذِي هُوَ الأَصْلُ، وَكَذَا لَوِ ائْتَمَّ بِمُسَافِرٍ مُتِمٍّ أَوْ مُصَلٍّ صَلاةً تَامَّةً فِي نَفْسِهَا كَأَنِ اقْتَدَى فِي الظُّهْرِ بِمَنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ أَوِ الْمَغْرِبَ فَلَوْ قَالَ بِمُتِمٍّ، بَدَلَ بِمُقِيمٍ لَشَمَلَ ذَلِكَ الصُّورَةَ الأُولَى. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالْكِفَايَةِ: تَصْوِيرُهَا مُشْكِلٌ لأِنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ فِي الإِقَامَةِ لا يُمْكِنُهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ فَامْتِنَاعُ الْقَصْرِ لِفَقْدِ نِيَّتِهِ، ثُمَّ أَجَابَا بِأَنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا عِلَّةٌ عَلَى أَنَّ الإِمَامَ قَالَ لَيْسَ لِذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَيُضَمُّ إِلَى اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْقَصْرِ الْمَفْهُومِ مِمَّا تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُ التَّحَرُّرِ عَنْ مُنَافِيهَا إِلَى فَرَاغِ الصَّلاةِ فَلَوْ تَرَدَّدَ بَعْدَهَا أَيَقْصُرُ أَمْ يُتِمَّ لَزِمَهُ الإِتْمَامُ. (وَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) بِمَوْضِعٍ (غَيْرَ يَوْمِ الدُّخُولِ وَيَوْمِ الْخُرُوجِ أَتَمَّ) بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ إِنْ كَانَتِ النِّيَّةُ قَبْلَهُ وَبِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ إِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ وَنَوَى وَهُوَ مَاكِثٌ، فَلَوْ نَوَى وَهُوَ سَائِرٌ لَمْ يُؤَثِّرْ قَطْعًا كَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَكَذَا لَوْ نَوَى إِقَامَةَ مَا دُونَ الأَرْبَعَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلاثَةِ وَلَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِلا نِيَّةٍ لَزِمَهُ الإِتْيَانُ بِتَمَامِهَا. وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ »يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلاثًا« دَلَّ عَلَى التَّرَخُّصِ بِهَا فِي الإِقَامَةِ الَّتِي كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنَّهَا لا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ بِخِلافِ الأَرْبَعَةِ وَأُلْحِقَ بِإِقَامَتِهَا نِيَّةُ إِقَامَتِهَا وَيُعْتَبَرُ بِلَيَالِيهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْسَبْ مِنْهَا يَوْمُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ لأِنَّ فِيهِمَا الْحَطَّ وَالرَّحِيلَ وَهُمَا مِنْ أَشْغَالِ السَّفَرِ، وَلَوْ دَخَلَ لَيْلاً لَمْ يُحْسَبْ بَقِيَّةُ اللَّيْلِ وَيُحْسَبُ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِيهِ، وَلَوْ نَوَى إِقَامَةَ الأَرْبَعَةِ الْعَبْدُ وَالزَّوْجَةُ وَالْجَيْشُ وَلَمْ يَنْوِهَا السَّيِّدُ وَلا الزَّوْجُ وَلا الأَمِيرُ فَلَهُمُ الْقَصْرُ عَلَى الأَصَحِّ لأِنَّهُمْ لا يَسْتَقِلُّونَ فَنِيَّتُهُمْ كَالْعَدَمِ. وَلَوْ نَوَى الإِقَامَةَ مُطْلَقًا انْقَطَعَ سَفَرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْضِعُ صَالِحًا لَهَا كَالْمَفَازَةِ فِي الأَظْهَرِ.
(وَإِنْ أَقَامَ فِي بَلَدٍ) أَوْ قَرْيَةٍ (لِقَضَاءِ حَاجَةٍ) يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ (وَلَمْ يَنْوِ الإِقَامَةَ) بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَمَا فَوْقَهَا (قَصَرَ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ) وَهُوَ الأَظْهَرُ »لأِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلاةَ« رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ (وَيَقْصُرُ أَبَدًا) أَيْ إِلَى انْتِهَاءِ حَاجَتِهِ فِي الْقَوْلِ (الآخَرِ) لِظُهُورِ أَنَّهُ لَوْ زَادَتْ حَاجَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ لِقَصَرَ فِي الزَّائِدِ أَيْضًا وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُقَاتِلُ وَغَيْرُهُ وَلَوْ عَلِمَ ابْتِدَاءً بَقَاءَ حَاجَتِهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَمَا فَوْقَهَا لَمْ يَقْصُرْ أَصْلاً.
(وَإِنْ فَاتَتْهُ صَلاةٌ فِي الْحَضَرِ فَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَتَمَّ) لأِنَّهَا قَدْ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ تَامَّةً، وَكَذَا لَوْ شَكَّ هَلْ فَاتَتْ فِي الْحَضَرِ أَوِ السَّفَرِ لأِنَّ الأَصْلَ الإِتْمَامُ.
(وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ) أَوْ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ (فَفِيهِ قَوْلانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُتِمُّ) فِي الصُّوَرَتَيْنِ أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ إِذَا فَاتَتْهُ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِي الْحَضَرِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ، وَأَمَّا فِي الأُولَى فَلَهُ الْقَصْرُ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ خِلافَ مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ اعْتِبَارًا لِلأَدَاءِ فِي الْقَصْرِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْقَدِيْمُ يَقْصُرُ فِيهِمَا اعْتِبَارًا فِي الْقَضَاءِ بِمَا لَزِمَهُ فِي الأَدَاءِ وَصَحَّحَ الشَّيْخَانِ قَوْلاً ثَالِثًا وَهُوَ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ لِوُجُودِ السَّبَبِ فِي حَالَةِ الأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ دُونَ الثَّانِيَةِ لأِنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ مَحَلَّ قَصْرٍ وَقِيلَ فِي الثَّانِيَةِ إِنْ قَضَى ذَلِكَ فِي السَّفَرِ قَصَرَ وَإِلاَّ فَلا. (وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا) تَقْدِيْمًا وَتَأْخِيرًا (فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ. وَفِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ قَوْلانِ): أَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ كَالْقَصْرِ، وَالثَّانِي الْجَوَازُ لإِطْلاقِ السَّفَرِ فِي الأَحَادِيثِ الآتِيَةِ.
(وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ هُوَ فِي الْمَنْزِلِ فِي وَقْتِ الأَوَّلَةِ أَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ إِلَى الأَوَّلَةِ وَلِمَنْ هُوَ سَائِرٌ) فِي وَقْتِ الأَوَّلَةِ (أَنْ يُؤَخِّرَ الأَوَّلَةَ إِلَى الثَّانِيَةِ اقْتِدَاءً) فِي ذَلِكَ (بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ: »أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَرَكِبَ«. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ: »أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ«. رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ مُعَاذٍ: »أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ حَتَّى يَنْزِلَ الْعِشَاءُ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا« وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ الأَوَّلَةِ- بِالتَّاءِ – لُغَةً، وَالْفُصْحَى: الأُولَى. وَلا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَالْقَصْرِ وَلا جَمْعُ الصُّبْحِ إِلَى غَيْرِهَا وَلا الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ.
(وَإِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الأَوَّلَةِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ) أَحَدُهَا (أَنْ يُقَدِّمَ الأَوَّلَةَ مِنْهُمَا) لأِنَّ الْوَقْتَ لَهَا وَالثَّانِيَةُ تَبَعٌ، فَلَوْ قَدَّمَ الثَّانِيَةَ لَمْ يَصِحَّ وَيُعِيدُهَا بَعْدَ الأُولَى. وَالثَّانِي (أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ) لِيَتَمَيَّزَ التَّقْدِيْمُ الْمَشْرُوعُ عَلَى التَّقْدِيْمِ سَهْوًا وَمَحَلُّ النِّيَّةِ (عِنْدَ الإِحْرَامِ بِالأَوَّلَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ) فَلا يَكْفِي فِي أَثْنَائِهَا كَالْقَصْرِ (وَيَجُوزُ فِي الْقَوْلِ الآخَرِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الأَوَّلَةِ) وَلَوْ مَعَ التَّسْلِيمَةِ الأُولَى لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الأَظْهَرُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَصْرِ أَنَّ تَأَخُّرَ نِيَّتِهِ عَنِ الإِحْرَامِ يَقْتَضِي تَأَدِّيَ بَعْضِ الصَّلاةِ عَلَى التَّمَامِ بِخِلافِ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ ضَمُّ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ بَعْدَ النِّيَّةِ وَالثَّالِثُ: (أَنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا) تَفْرِيقًا طَوِيلاً لأِنَّهَا تَابِعَةٌ، وَالتَّابِعُ لا يُفْصَلُ عَنْ مَتْبُوعِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لا، وَلا يَضُرُّ التَّفْرِقُ الْقَلِيلُ، وَمَرْجِعُهُ الْعُرْفُ وَمِنْهُ قَدْرُ الإِقَامَةِ.
(وَإِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَفَاهُ نِيَّةُ الْجَمْعِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الأَوَّلَةِ بِقَدْرِ مَا يُصَلِّي فِيهِ فَرْضَ الْوَقْتِ) فَأَكْثَرَ فَإِنْ يَنْوِ أَصْلاً أَوْ نَوَاهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ بِزَمَنٍ لا يَسَعُهَا عَصَى وَإِنْ كَانَ يَسَعُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ نَعَمْ لَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ خَرَجَ الْوَقْتُ لَمْ يَعْصِ وَكَانَ جَامِعًا لأِنَّهُ مَعْذُورٌ صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا. (وَالأَفْضَلُ) لِمَنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ (أَنْ يُقَدِّمَ الأَوَّلَةَ وَأَنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا) وَأَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ، كَمَا زَادَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ خُرُوجًا مِنْ خِلافِ مَنْ أَوْجَبَ الثَّلاثَةَ كَمَا هُوَ وَجْهٌ قِيَاسًا عَلَى جَمْعِ التَّقْدِيْمِ، وَالْفَرْقُ عَلَى الأَوَّلِ أَنَّ الْوَقْتَ فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ لِلثَّانِيَةِ وَالأُولَى تَبَعٌ لَهَا عَلَى خِلافِهِ فِي جَمْعِ التَّقْدِيْمِ فَلا يَجِبُ التَّرْتِيبُ وَإِذَا انْتَفَى انْتَفَتِ الْمُوَالاةُ وَالنِّيَّةُ.
(وَيَجُوزُ لِلْمُقِيمِ الْجَمْعُ) بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (فِي الْمَطَرِ فِي وَقْتِ الأَوَّلَةِ مِنْهُمَا) لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: »أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا جَمِيعًا وَثَمَانِيًا جَمِيعًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ« وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: »مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ«. قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ بِعُذْرِ الْمَطَرِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِشُرُوطٍ زَائِدَةٍ عَلَى الثَّلاثَةِ السَّابِقَةِ (إِنْ كَانَ يُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَوْضِعٍ) بَعِيدٍ بِحَيْثُ (يُصِيبُهُ الْمَطَرُ) فِي طَرِيقِهِ (وَتَبْتَلُّ ثِيَابُهُ) قَوِيًّا كَانَ أَوْ ضَعِيفًا فَلا يَجُوزُ لِمَنْ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَسْجِدٍ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي مَسْجِدٍ عَلَى بَابِ دَارِهِ أَوْ بِطَرِيقِهِ سَابَاطٌ يَمْنَعُ إِصَابَةَ الْمَطَرِ لاِنْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ (وَيَكُونُ الْمَطَرُ مَوْجُودًا عِنْدَ افْتِتَاحِ الأَوَّلَةِ وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَعِنْدَ افْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ) لِيَتَحَقَّقَ مُقَارَنَةُ الْجَمْعِ الْعُذْرَ وَاتِّصَالُ الأُولَى بِأَوَّلِ الثَّانِيَةِ، وَلا يَضُرُّ انْقِطَاعُهُ فِي أَثْنَاءِ الأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا. (وَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ) بِالْمَطَرِ (فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَوْلانِ) أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيْمُ نَعَمْ كَالسَّفَرِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ الأَظْهَرُ الْمَنْعُ لأِنَّ الْمَطَرَ قَدْ يَنْقَطِعُ قَبْلَ أَنْ يَجْمَعَ.