بَابُ الْمِيَاهِ
هُوَ جَمْعٌ لِمَاءٍ وَإِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ لاِخْتِلافِ أَنْوَاعِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَأَتَى بِجَمْعِ الْكَثْرَةِ لِزِيَادَةِ أَنْوَاعِهِ عَلَى الْعَشَرَةِ وَافْتَتَحَ الْبَابَ كَغَيْرِهِ بِآيَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمَقْصُودِ وَتَبَرُّكًا فَقَالَ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾) أَيْ مُطَهِّرًا وَيُسَمَّى الْمُطْلَقَ (وَلا يَجُوزُ رَفْعُ حَدَثٍ وَلا إِزَالَةُ نَجَسٍ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا﴾ إِلَى ءَاخِرِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ حِينَ بَالَ الأَعْرَابِيُّ فِي الْمَسْجِدِ «صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ» وَالأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْمَاءُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُطْلَقِ لِتَبَادُرِهِ إِلَى الأَذْهَانِ، فَلَوْ رَفَعَ مَائِعٌ غَيْرُهُ لَمَا وَجَبَ غَسْلُ الْبَوْلِ بِهِ وَلا التَّيَمُّمُ عِنْدَ فَقْدِهِ، وَنَفْيُ الْجَوَازِ نَفْيٌ لِلصِحَّةِ وَالْحِلِّ مَعًا بِنَاءً عَلَى الأَصَحِّ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ كَمَا وَجَّهَ بِهِ النَّوَوِيُّ عِبَارَةَ الْمُهَذَّبِ فِي شَرْحِهِ: وَلا يَجُوزُ أَيْضًا غَسْلُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْغُسْلُ الْمَسْنُونُ وَالْوُضُوءُ الْمُجَدَّدُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَلا يُزِيلُ النَّجَسَ كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِيهِمَا إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ (وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ نَبَعَ مِنَ الأَرْضِ، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ) مِنْ بَيَاضٍ وَسَوَادٍ وَعُذُوبَةٍ وَمُلُوحَةٍ أَيْ مَا بَقِيَ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا بِخِلافِ مَا تَغَيَّرَ عَنْهَا مِمَّا سَيَأْتِي وَمَا عَرَضَ لَهُ وَصْفٌ لازِمٌ كَالْمُسْتَعْمَلِ فَلَيْسَ بِمُطْلَقٍ، وَقِيلَ: هُوَ مُطْلَقٌ مُنِعَ اسْتِعْمَالُهُ تَعَبُّدًا (وَتُكْرَهُ الطَّهَارَةُ) فِي الْبَدَنِ (بِمَاءٍ قُصِدَ إِلَى تَشْمِيسِهِ) لِخَوْفِ الْبَرَصِ بِأَنْ يَكُونَ بِقُطْرٍ حَارٍّ كَالْحِجَازِ فِي إِنَاءٍ مُنْطَبِعٍ كَالْحَدِيدِ لأِنَّ الشَّمْسَ بِحِدَّتِهَا تَفْصِلُ مِنْهُ زُهُومَةً تَعْلُو الْمَاءَ فَإِذَا لاقَتِ الْبَدَنَ بِسُخُونَتِهَا خِيفَ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ فَيُحْبَسَ الدَّمُ فَيَحْصُلُ الْبَرَصُ، وَالأَصَحُّ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى تَشْمِيسِهِ لا يُشْتَرَطُ. فَيَكْفِي تَشْمِيسُهُ بِنَفْسِهِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى وَيُكْرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ كَالشُّرْبِ لِوُجُودِهِ أَيِ الْمَعْنَى كَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَفِيهِ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَّانِيِّ فِي الطَّبْخِ إِنْ بَقِيَ مَائِعًا كُرِهَ. وَلا يُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْبَدَنِ كَالثَّوْبِ وَلا إِذَا بَرَدَ عَلَى الأَصَحِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ لِفَقْدِ الْمَعْنَى فِيهِمَا (وَإِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ) تَغَيُّرًا كَثِيرًا (بِمُخَالَطَةِ طَاهِرٍ يَسْتَغْنِي الْمَاءُ عَنْهُ كَالزَّعْفَرَانِ وَالأُشْنَانِ) – بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- (لَمْ تَجُزِ الطَّهَارَةُ بِهِ) لأِنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ بِخِلافِ مَا إِذَا تَغَيَّرَ تَغَيُّرًا يَسِيرًا أَوْ بِالْمُكْثِ أَوْ بِمَا لا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، كَمَا فِي مَقَرِّهِ وَمَمَرِّهِ مِنْ كِبْرِيتٍ وَزِرْنِيخٍ وَطُحْلُبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ لِقِلَّتِهِ فِي الأَوَّلِ وَتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَنْهُ فِي الْبَاقِي (وَإِنْ تَغَيَّرَ بِمَا لا يَخْتَلِطُ بِهِ) بِأَنْ أَمْكَنَ فَصْلُهُ (كَالدُّهْنِ وَالْعُودِ) الْمُطَيَّبَيْنِ أَوْ لا (جَازَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ) وَهُوَ الأَظْهَرُ لِبَقَاءِ إِطْلاقِ الاِسْمِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي لا كَالْمُتَغَيِّرِ بِنَجِسٍ مُجَاوِرٍ وَفَرَقَ الأَوَّلُ بِغِلَظِ أَمْرِ النَّجَسِ (وَإِذَا وَقَعَ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مِنْهُ نَجَاسَةٌ لا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ) أَيِ الْبَصَرُ لِقِلَّتِهَا كَنُقْطَةِ بَوْلٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِرِجْلِ الذُّبَابِ مِنْ نَجَسٍ (لَمْ تُنَجِّسْهُ) قَطْعًا لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهَا، وَأُلْحِقَ بِالْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْمَائِعُ وَالثَّوْبُ وَالْبَدَنُ (وَقِيلَ تُنَجِّسُهُ) قَطْعًا كَغَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ (وَقِيلَ فِيهِ قَوْلانِ) وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَصَحُّ وَالأَظْهَرُ مِنْ قَوْلَيْهَا عَدَمُ التَّنْجِيسِ، (وَإِنْ كَانَتِ) النَّجَاسَةُ الْوَاقِعَةُ فِيهِ (مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً لا نَفْسَ لَهَا سَائِلَةٌ) أَيْ لا دَمَ لَهَا يَسِيلُ إِذَا شُقَّ عُضْوٌ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا كَالزُّنْبُورِ وَالْخُنْفُسَاءِ (لَمْ تُنَجِّسْهُ) إِذَا مَاتَتْ فِيهِ (فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الأَصْلَحُ لِلنَّاسِ) لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (وَتُنَجِّسُهُ فِي) الْقَوْلِ (الآخَرِ وَهُوَ الْقِيَاسُ) كَغَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ وَالْمَائِعُ كَالْمَاءِ فِي ذَلِكَ وَمَحَلُّ الْخِلافِ فِيمَا لَيْسَ نُشُوؤُهَا مِنْهُ كَالْعَلَقِ وَدُودِ الْخَلِّ فَلا تُنَجِّسُهُ إِذَا مَاتَتْ فِيهِ جَزْمًا، وَلَوْ غَيَّرَتْهُ لِكَثْرَتِهَا أَوْ طُرِحَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا نَجَّسَتْهُ جَزْمًا (وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ النَّجَاسَاتِ نَجَّسَهُ) أَيِ الْمَاءَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ الآتِي (وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ) وَهُمَا خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بِالْبَغْدَادِيِّ تَقْرِيبًا، وَرِطْلُ بَغْدَادَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ فِي الأَصَحِّ (وَلَمْ يَتَغَيَّرْ) بِهَا (فَهُوَ طَاهِرٌ) لِحَدِيثِ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لأِبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «فَإِنَّهُ لا يَنْجُسُ» (وَإِنْ تَغَيَّرَ فَهُوَ نَجِسٌ) لِحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ «الْمَاءُ لا يُنَجِّسُهُ شَىْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى ريِحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» (وَإِنْ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ) مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ شَىْءٍ إِلَيْهِ (أَوْ بِمَاءٍ) انْضَمَّ إِلَيْهِ (طَهُرَ وَإِنْ زَالَ بِالتُّرَابِ) أَيْ طُرِحَ فِيهِ تُرَابٌ فَلَمْ يُرَ التَّغَيُّرُ (فَفِيهِ قَوْلانِ أَصَّحُهُمَا أَنَّهُ يَطْهُرُ) وَالثَّانِي لا، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ لِلشَّكِّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ زَالَ أَوِ اسْتَتَرَ بَلِ الظَّاهِرُ الاِسْتِتَارُ لِتَكْدِيرِهِ الْمَاءَ، فَإِنْ صَفَا وَلا تَغَيُّرَ بِهِ طَهُرَ جَزْمًا: قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِالْمُلاقَاةِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ سَوَاءٌ فِيهِ الرَّاكِدُ وَالْجَارِي عَلَى الأَظْهَرِ الْجَدِيدِ (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (فِي الْقَديِمِ) وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي صَنَّفَهُ بِالْعِرَاقِ، وَالْجَدِيدُ مَا صَنَّفَهُ بِمِصْرَ، (إِنْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا لَمْ يَنْجُسْ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ) لِقُوَّتِهِ، وَالْجِرْيَةُ الدُّفْعَةُ بَيْنَ حَافَتَيِ النَّهْرِ فِي الْعَرْضِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَالَّتِي لاقَاهَا النَّجَسُ عَلَى الْجَدِيدِ تَنْجُسُ وَإِنْ كَانَ مَاءُ النَّهْرِ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ وَلا تُنَجِّسُ غَيْرَهَا، وَإِنْ كَانَ مَاءُ النَّهْرِ دُونَ قُلَّتَيْنِ لأِنَّ الْجِرِيَاتِ وَإِنْ تَوَاصَلَتْ حِسًّا مُتَفَاصِلَةٌ حُكْمًا (وَمَا تُطُهِّرَ بِهِ مِنْ حَدَثٍ) كَالْغَسْلَةِ الأُولَى فِيهِ وَلَوْ مِنْ صَبِيٍّ (فَهُوَ طَاهِرٌ) لأِنَّهُ لَمْ يَلْقَ مَحَلاًّ نَجِسًا (غَيْرُ مُطَهِّرٍ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ) لأِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَجْمَعُوا الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي أَسْفَارِهِمُ الْقَلِيلَةِ الْمَاءِ لِيَتَطَهَّرُوا بِهِ، بَلْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْقَديِمُ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِوَصْفِ الْمَاءِ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ بِطَهُورٍ الْمُقْتَضِي لِتَكَرُّرِ الطَّهَارَةِ بِهِ لُغَةً وَأُجِيبَ بِتَكْرِيرِهَا فِيمَا يَتَرَدَّدُ عَلَى الْمَحَلِّ دُونَ الْمُنْفَصِلِ، وَخَرَجَ بِمَا تُطُهِّرَ بِهِ مِنْ حَدَثٍ مَا تُطُهِّرَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالْوُضُوءِ الْمُجَدَّدِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مُطَهِّرٌ وَقِيلَ: لا، وَهُمَا مَبْنِيَانِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ إِزَالَةُ الْمَانِعِ أَوْ تَأَدِّي الْعِبَادَةِ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُبْنَى عَلَيْهِمَا أَيْضًا مَا اغْتَسَلَتْ بِهِ الذِّمِيَّةُ لِتَحِلَّ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ عَلَى الأَصَحِّ وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ تَشْمَلُهُ، أَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَاسَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي فِي بَابِهَا (فَإِنْ بَلَغَ) الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ (قُلَّتَيْنِ جَازَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ) كَمَا لَوْ بَلَغَ النَّجِسُ قُلَّتَيْنِ بِلا تَغَيُّرٍ (وَقِيلَ لا يَجُوزُ) وَهُوَ بَاقٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجِسِ أَنَّهُ لا يَخْرُجُ بِالْبُلُوغِ عَنْ وَصْفِهِ بِالاِسْتِعْمَالِ، بِخِلافِ النَّجِسِ.