الإثنين ديسمبر 23, 2024

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الْمُدَبِّرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى «بِسْمِ اللَّهِ» أَبْتَدِئُ بِاسْمِ اللَّهِ. وَلَفْظُ الْجَلالَةِ «اللَّهُ» عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْمُسْتَحِقِّ لِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ وَمَعْنَاهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ أَيْ إِبْرَازِ الْمَعْدُومِ إِلَى الْوُجُودِ. وَ«الرَّحْمٰنِ» أَيِ الْكَثِيرِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ وَ«الرَّحِيمِ» أَيِ الْكَثِيرِ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ  وَمَعْنَى «الْحَمْدُ لِلَّهِ» نُثْنِي عَلَى اللَّهِ وَنَمْدَحُهُ بِأَلْسِنَتِنَا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لا نُحْصِيهَا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ. وَ«رَبِّ الْعَالَمِينَ» مَعْنَاهُ مَالِكُ الْعَالَمِينَ أَيْ مَالِكُ كُلِّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ. وَ«الْمُدَبِّرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ» أَيِ الَّذِي قَدَّرَ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ.   

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ لِأَغْلَبِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لا يَجُوزُ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَهْلُهَا مِنَ الِاعْتِقَادِ وَمَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ مِنَ الطَّهَارَةِ إِلَى الْحَجِّ وَشَىْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلاتِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.

   الشَّرْحُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَغْلَبُ أُمُورِ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مَعْرِفَتُهَا فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَوَاجِبَاتِ الْقَلْبِ وَمَعَاصِي الْجَوَارِحِ وَالتَّوْبَةِ. وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مَعْرِفَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ فَمَعْرِفَةُ نَسَبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ مَنَافٍ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِ الْعَيْنِ بَلْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ أُخْرَى فِيهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاتِ.

   وَالْعِبَادَاتُ هِيَ الطَّهَارَةُ وَالصَّلاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ أَمَّا الْمُعَامَلاتُ فَهِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقَرْضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

   وَأَمَّا الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ وَهُوَ قُرَشِيٌّ مُطَّلِبِيٌّ وُلِدَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ لِلْهِجْرَةِ وَفِي أَجْدَادِهِ شَخْصٌ اسْمُهُ شَافِعٌ لِذَلِكَ لُقِّبَ بِالشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُهُ يُقَالُ لَهُ «الْمَذْهَبُ الشَّافِعِيُّ» وَمَنْ عَرَفَ مَذْهَبَهُ وَعَمِلَ بِهِ يُقَالُ لَهُ «شَافِعِيٌّ».

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ بَيَانِ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ كَاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ.

   الشَّرْحُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ مَعَاصِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ أَيْ بَيَانُ ذُنُوبِ الْقَلْبِ وَذُنُوبِ الْجَوَارِحِ السَّبْعَةِ. وَالْجَوَارِحُ جَمْعُ جَارِحَةٍ وَهِيَ أَعْضَاءُ الإِنْسَانِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَاللِّسَانِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الأَصْلُ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَضْرَمِيِّينَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرٍ ثُمَّ ضُمِّنَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ نَفَائِسِ الْمَسَائِلِ.

   الشَّرْحُ أَصْلُ هَذَا الْكِتَابِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرٍ الْعَلَوِيِّ الْحَضْرَمِيِّ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ لِلْهِجْرَةِ. وَالْعَلَوِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى عَلَوِيِّ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ. ثُمَّ زَادَ الْمُؤَلِّفُ عَلَى الأَصْلِ زِيَادَاتٍ جَيِّدَةً وَهَذَا هُوَ شَأْنُ الِاخْتِصَارِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِينَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُلْتَزَمًا عِنْدَهُمْ أَنْ لا يُبْدِلَ الْمُخْتَصِرُ فِي مُخْتَصَرِهِ بَعْضَ مَا فِي الأَصْلِ أَوْ أَنْ لا يَأْتِيَ بِزِيَادَةٍ.

   وَنَفَائِسُ الْمَسَائِلِ مَعْنَاهَا الْمَسَائِلُ الْحَسَنَةُ فَإِنَّ الشَّىْءَ الْحَسَنَ يُقَالُ لَهُ «نَفِيسٌ»

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعَ حَذْفِ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّصَوُّفِ وَتَغْيِيرٍ لِبَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِمَّا لا يُؤَدِّي إِلَى خِلافِ الْمَوْضُوعِ. وَقَدْ نَذْكُرُ مَا رَجَّحَهُ بَعْضٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ كَالْبُلْقِينِيِّ لِتَضْعِيفِ مَا فِي الأَصْلِ.

  الشَّرْحُ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَصْلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصَوُّفِ مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ وَضَعَّفَ بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي الأَصْلِ وَذَكَرَ مَا رَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ بنُ رَسْلانَ وَكَانَ فِي عَصْرِهِ عَالِمَ الدُّنْيَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَنْبَغِي عِنَايَتُهُ بِهِ لِيُقْبَلَ عَمَلُهُ أَسْمَيْنَاهُ مُخْتَصَرَ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِيِّ الْكَافِلَ بِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ.

   الشَّرْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ. وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِلمُ الدّينِ الضَّرُورِيُّ الشاملُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ ضَرُورِيَّاتِ الِاعْتِقَادِ وَالشَّامِلُ أَيْضًا لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الصَّلاةِ وَالطَّهَارَةِ شُرُوطًا وَأَرْكَانًا وَمُبْطِلاتٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ عِلْمِ الدِّينِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُخْتَصَرُ حَاوِيًا لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ مُشْتَمِلًا عَلَيْهَا كَانَ يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِتَحْصِيلِ مَا فِيهِ وَيُخْلِصَ النِّيَّةَ فِيهِ لِلَّهِ لِيَكُونَ عَمَلُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ.

   وَ«الْكَافِلَ بِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ» مَعْنَاهُ الْجَامِعُ لِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ.

ضَرُورِيَّاتُ الِاعْتِقَادِ

   الشَّرْحُ أَنَّ «ضَرُورِيَّاتُ» جَمْعُ ضَرُورِيٍّ وَهُوَ هُنَا مَا لا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ جَهْلُهُ أَيْ أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ مَا يَلْزَمُ وَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ) يَجِبُ عَلَى كَافَةِ الْمُكَلَّفِينَ الدُّخُولُ فِي دِينِ الإِسْلامِ وَالثُّبُوتُ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ وَالْتِزَامُ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ.

   الشَّرْحُ الْمُكَلَّفُ هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الَّذِي بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَيْ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي هُوَ مُلْزَمٌ بِأَنْ يَدِينَ بِدِينِ الإِسْلامِ وَيَعْمَلَ بِشَرِيعَتِهِ أَيْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَاتِ. أَمَّا مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَسْئُولِيَّةٌ فِي الآخِرَةِ وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّصَلَ جُنُونُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَمَاتَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَلَيْسَ مُكَلَّفًا وَكَذَلِكَ الَّذِي عَاشَ بَالِغًا وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَيْ أَصْلُ الدَّعْوَةِ. وَلَيْسَ شَرْطًا لِبُلُوغِ الدَّعْوَةِ أَنْ تَبْلُغَهُ تَفَاصِيلُ عَقَائِدِ الإِسْلامِ بِأَدِلَّتِهَا بَلْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِمُجَرَّدِ أَنْ يَبْلُغَهُ أَصْلُ الدَّعْوَةِ وَلا يَكُونُ لَهُ عُذْرًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَكَّرَ فِي حَقِيَّةِ الإِسْلامِ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ فِي الأَذَانِ الشَّهَادَتَيْنِ وَهُوَ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ فَهُوَ مُكَلَّفٌ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُسْلِمِ اسْتَحَقَّ عَذَابَ اللَّهِ الْمُؤَبَّدَ فِي النَّارِ.

   ثُمَّ إِنَّ نِيَّةَ الثُّبُوتِ عَلَى الإِسْلامِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْ أَنْ يَخْلُوَ قَلْبُهُ عَنْ أَيِّ عَزْمٍ عَلَى تَرْكِ الإِسْلامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ نَوَى الْكُفْرَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَفَرَ فِي الْحَالِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمِمَّا يَجِبُ عِلْمُهُ وَاعْتِقَادُهُ مُطْلَقًا وَالنُّطْقُ بِهِ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ كَافِرًا وَإِلَّا فَفِي الصَّلاةِ الشَّهَادَتَانِ وَهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

   الشَّرْحُ أَنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِلدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ ثُمَّ لا يَكْمُلُ إيِمَانُهُ وَإِسْلامُهُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ تِلْكَ الْمَرَّةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي كُلِّ صَلاةٍ. ثُمَّ إِنَّ النُّطْقَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ يَحْصُلُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبِتَرْجَمَتِهِ لِغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ فَمَنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا يَقُولُ (أَنَّ مُهَمَّدًا) بِالْهَاءِ يُقَالُ لَهُ قُلْ (أَبَا الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَأْتِي بِهَاءِ لَفْظِ الْجَلالَةِ (اللَّه) فَيَكْفِي تَرْجَمَتُهُ بِلُغَتِهِ. وَلا يُشْتَرَطُ خُصُوصُ هَذَا اللَّفْظِ بَلْ يَكْفِي مَا يُعْطِي مَعْنَاهُ كَأَنْ يَقُولَ لا رَبَّ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ وَيَكْفِي «مُحَمَّدٌ نَبِيُّ اللَّهِ» لَكِنْ لَفْظُ أَشْهَدُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الأَلْفَاظِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيَّ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالِاعْتِقَادَ وَالِاعْتِرَافَ. وَمَنْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ يَكْفِيهِ إيِمَانُهُ بِالْقَلْبِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأَعْتَرِفُ أَنْ لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ أَيْ أَنْ يُتَذَلَّلَ لَهُ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ بِذَلِكَ الإِمَامُ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ الْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ اهـ وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُطْلَقَ الطَّاعَةِ لِمَخْلُوقٍ فِي أَيِّ شَىْءٍ طَاعَةً كَانَ أَوْ مَعْصِيَةً لَكَانَ عُمَّالُ الْحُكَّامِ الْجَائِرِينَ كُفَّارًا فَهَلْ يَقُولُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ مُجَرَّدَ الطَّاعَةِ أَوِ التَّوَسُّلِ عِبَادَةٌ وَيُكَفِّرُونَ الْمُتَوَسِّلِينَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ إِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. أَلَيْسَ هَؤُلاءِ أَنْفُسُهُمْ يُطِيعُونَ الْحُكَّامَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي فَيَكُونُونَ كَفَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا. فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الْمُسْتَغِيثِينَ بِالأَوْلِيَاءِ وَالأَنْبِيَاءِ لِيَتَعَلَّمُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قَبْلَ إِطْلاقِ أَلْسِنَتِهِمْ بِالتَّكْفِيرِ.

   وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ الْمُرَادَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاءِ/25] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [سُورَةَ الْفَاتِحَةِ/5].

   وَهَذِهِ هِيَ الْعِبَادَةُ الْمُخْتَصَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى الَّتِي مَنْ صَرَفَهَا لِغَيْرِهِ صَارَ مُشْرِكًا وَلَيْسَ مَعْنَاهَا مُجَرَّدَ النِّدَاءِ أَوِ الِاسْتِعَانَةِ أَوِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَاحِدُ الأَحَدُ الأَوَّلُ الْقَديِمُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الدَّائِمُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى الْوَاحِدِ الَّذِي لا ثَانِيَ لَهُ أَيْ لا شَرِيكَ لَهُ فِي الأُلُوهِيَّةِ فَاللَّهُ وَاحِدٌ لا مِنْ طَرِيقِ الْعَدَدِ. وَأَمَّا الأَحَدُ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هُوَ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الأَحَدُ هُوَ الَّذِي لا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ وَالتَّجَزُّؤَ أَيْ لَيْسَ جِسْمًا لِأَنَّ الْجِسْمَ يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ عَقْلًا وَاللَّهُ لَيْسَ جِسْمًا. وَالْجِسْمُ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَسَمْكٌ.

   وَمَعْنَى الأَوَّلِ الَّذِي لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَهُوَ وَحْدَهُ الأَوَّلُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَبِمَعْنَاهُ الْقَديِمُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ قِدَمَ اللَّهِ ذَاتِيٌّ وَلَيْسَ زَمَنِيًّا. وَأَمَّا مَعْنَى الْحَيِّ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ وَعَصَبٍ وَمُخٍّ بَلْ حَيَاتُهُ صِفَةٌ قَديِمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ. وَمَعْنَى الْقَيُّومِ الدَّائِمُ الَّذِي لا يَزُولُ. وَأَمَّا الدَّائِمُ فَمَعْنَاهُ الَّذِي لا يَلْحَقُهُ وَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ وَبِمَعْنَاهُ الْبَاقِي فَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ عَقْلًا وَلا دَائِمَ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا اللَّهُ فَلا شَرِيكَ لِلَّهِ فِي الدَّيْمُومِيَّةِ لِأَنَّ دَيْمُومِيَّتَهُ اسْتَحَقَّهَا لِذَاتِهِ لا شَىْءَ غَيْرُهُ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَأَمَّا دَيْمُومِيَّةُ غَيْرِهِ كَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَهِيَ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً بَلْ هُمَا شَاءَ اللَّهُ لَهُمَا الْبَقَاءَ أَمَّا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُمَا فَيَجُوزُ عَلَيْهِمَا عَقْلًا الْفَنَاءُ لَكِنْ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ بَقَاؤُهُمَا بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِفَنَائِهِمَا أَوْ فَنَاءِ النَّارِ دُونَ الْجَنَّةِ كُفْرٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ بِفَنَاءِ النَّارِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى بَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنَّ جَهْمَ بنَ صَفْوَان خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بِفَنَائِهِمَا فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ جَهْمٍ فَكِلاهُمَا كَافِرٌ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْعَالِمُ الْقَدِيرُ الْفعَّالُ لِمَا يُرِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

   الشَّرْحُ مَعْنَى الْخَالِقِ الَّذِي أَبْدَعَ وَكَوَّنَ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَأَبْرَزَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَلا خَلْقَ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا لِلَّهِ فَمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى حَدَثَ بِخَلْقِهِ تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ وَإِبْدَاعِهِ فَالْخَلْقُ هُوَ الإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَلا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْدِ/16] وَالشَّىْءُ يَشْمَلُ الأَجْسَامَ وَالأَعْمَالَ وَقَالَ ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّاتِ/96] فَالآيَتَانِ صَريِحَتَانِ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الأَجْسَامِ وَالأَعْمَالِ. وَمَعْنَى الرَّازِقِ الَّذِي يُوصِلُ الأَرْزَاقَ إِلَى عِبَادِهِ.

   وَمَعْنَى الْعَالِمِ الْمُتَّصِفُ بِالْعِلْمِ فَاللَّهُ مَوْصُوفٌ بِعِلْمٍ أَزَلِيٍّ أَبَدِيٍّ لا يَتَغَيَّرُ لا يَزْدَادُ وَلا يَنْقُصُ فَهُوَ عَالِمٌ لا كَالْعُلَمَاءِ لِأَنَّ عِلْمَ غَيْرِهِ حَادِثٌ.

   وَمَعْنَى الْقَدِيرِ الْمُتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ وَهِيَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ يُؤَثِّرُ بِهَا فِي الْمُمْكِنَاتِ أَيْ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِهَا يُوجِدُ وَيُعْدِمُ وَبِمَعْنَاهُ الْقَادِرُ إِلَّا أَنَّ الْقَدِيرَ أَبْلَغُ.

   وَمَعْنَى الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَكْوِينِ مَا سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ [أَيْ مَا شَاءَ فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ] لا يُعْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ شَىْءٌ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِلا مَشَقَّةٍ وَلا يُمَانِعُهُ أَحَدٌ وَلا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْمَالِ ءَالَةٍ وَحَرَكَةٍ وَلا إِلَى اسْتِعَانَةٍ بِغَيْرِهِ، وَلا تَخَلُّفَ لِمُرَادِهِ [أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَلا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ].

   وَمَعْنَى مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ أَنَّ كُلَّ مَا شَاءَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ لا يَكُونُ وَلا تَتَغَيَّرُ مَشِيئَتُهُ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَشِيئَةِ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَالْحُدُوثُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ يُغَيِّرُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ مَشِيئَتُهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الَّذِي لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِهِ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فِي حَقِّهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

   الشَّرْحُ مَعْنَى لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبَزَّارُ.

   وَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِهِ وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ بِلَفْظِ يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ الْكَمَالَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَمَالًا فِي حَقِّ اللَّهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ كَالْعِلْمِ أَوْ لا كَالْوَصْفِ بِالْجَبَّارِ مَدْحٌ فِي حَقِّ اللَّهِ وَذَمٌّ فِي حَقِّ الإِنْسَانِ لِأَنَّ الْجَبَّارَ فِي حَقِّ اللَّهِ مَعْنَاهُ الْمُصْلِحُ لِأُمُورِ خَلْقِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَكَالْوَصْفِ بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ هُوَ مَدْحٌ فِي حَقِّ الإِنْسَانِ وَلا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِذَلِكَ فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ فِي حَقِّهِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ أَيْ مَا لا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَاللَّوْنِ وَالْحَدِّ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمُتَوَفَّى فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ «لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ» وَذَلِكَ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا بَيَانُ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَقِيدَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي وَمُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَكَ عِبَارَتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى أُسْلُوبِ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الثَّلاثَةِ لا لِأَنَّ مَا يَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةُ الثَّلاثَةُ وَمَعْنَى مَا قَالَهُ لا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَكُونَ مَحْدُودًا وَالْمَحْدُودُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَا لَهُ حَجْمٌ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَالشَّجَرِ أَوْ لَطِيفًا كَالنُّورِ وَالظَّلامِ فَإِذًا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْجُلُوسِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا وَالْمَحْدُودُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ وَلا يَجُوزُ أَنْ يَحُدَّ نَفْسَهُ بِحَدٍّ يَكُونُ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الشَّىْءَ لا يَخْلُقُ نَفْسَهُ.

   أَمَّا الآيَةُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] فَهِيَ أَصْرَحُ ءَايَةٍ فِي الْقُرْءَانِ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى التَّنْزِيهَ الْكُلِّيَّ وَتَفْسِيرُهَا أَنَّ اللَّهَ لا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْكَافُ فِي ﴿كَمِثْلِهِ﴾ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فَفِي الآيَةِ نَفْيُ مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فَفِيهِ إِثْبَاتُ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، السَّمْعُ صِفَةٌ لائِقَةٌ بِاللَّهِ وَالْبَصَرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ التَّنْزِيهَ حَتَّى لا يُتَوَهَّمَ أَنَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ كَسَمْعِ وَبَصَرِ غَيْرِهِ

 

 

فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ مِنَ اللَّطَائِفِ كَالنُّورِ وَالرُّوحِ وَالْهَوَاءِ وَمِنَ الْكَثَائِفِ كَالشَّجَرِ وَالإِنْسَانِ. وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مَا لا يُضْبَطُ بِالْيَدِ وَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ مَا يُضْبَطُ بِالْيَدِ أَيْ مَا يُجَسُّ بِالْيَدِ وَهُوَ تَعَالَى لا يُشْبِهُ الْعُلْوِيَّاتِ [أَيْ مَا كَانَ فِي السَّمَوَاتِ] وَلا السُّفْلِيَّاتِ [أَيْ مَا كَانَ فِي الأَرْضِ].

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهُوَ الْقَديِمُ وَمَا سِوَاهُ حَادِثٌ وَهُوَ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثُ الْجِنْسِ وَالأَفْرَادِ وَخَالَفَتِ الْفَلاسِفَةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قِسْمٌ مِنْهُمْ «الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ أَزَلِيٌّ بِمَادَّتِهِ وَأَفْرَادِهِ» وَمِنْ هَؤُلاءِ إِرَسْطُو وَتَبِعَهُ ابْنُ سِينَا وَالْفَارَابِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ «الْعَالَمُ قَديِمُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ حَادِثُ الأَفْرَادِ» وَهَؤُلاءِ مُتَأَخِّرُو الْفَلاسِفَةِ وَتَبِعَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ تَيْمِيَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْسُبَ نَفْسَهُ إِلَى اتِّبَاعِهِمْ بَلْ نَسَبَ ذَلِكَ زُورًا وَبُهْتَانًا إِلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. قَالَ الإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي «تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ» «وَضَلَّلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَكَفَّرُوهُمْ» مَعْنَاهُ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كُفَّارٌ بِالإِجْمَاعِ.

   وَذَكَرَ تِلْكَ الْعَقِيدَةَ الْفَاسِدَةَ أَيْ أَنَّ الْعَالَمَ أَزَلِيٌّ بِنَوْعِهِ حَادِثٌ بِأَفْرَادِهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي سَبْعَةٍ مِنْ كُتُبِهِ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَمُوَافَقَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَكِتَابِ شَرْحِ حَدِيثِ النُّزُولِ وَكِتَابِ شَرْحِ حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وَكِتَابِ نَقْدِ مَرَاتِبِ الإِجْمَاعِ وَكِتَابِ الْفَتَاوَى وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الأَعْلَى. قَالَ شَيْخُنَا الْعَبْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ بِعَيْنِي فِيهَا اهـ.

   وَالْقَوْلُ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ كَالْقَوْلِ بِنَفْيِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمَا مِنْ أَكْفَرِ الْكُفْرِ فَإِنَّ الأَوَّلَ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ نَفْيٌ لِخَالِقِيَّةِ اللَّهِ وَالْقَوْلُ بِنَفْيِ وُجُودِ ذَاتِ اللَّهِ أَشَدُّ وَهُوَ تَعْطِيلٌ لِلشَّرَائِعِ كُلِّهَا لِأَنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا جَاءَتْ بِإِثْبَاتِ ذَاتِ اللَّهِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَكُلُّ حَادِثٍ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْعَرْشِ وَمِنْ كُلِّ حَرَكَةٍ لِلْعِبَادِ وَسُكُونٍ [وَالنِّيَّاتِ] وَالْخَوَاطِرِ فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ.

   الشَّرْحُ الأَعْيَانُ هِيَ الأَشْيَاءُ الَّتِي لَهَا حَجْمٌ إِنَّ كَانَتْ صَغِيرَةً كَالذَّرَّةِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا أَوْ كَبِيرَةً كَالْعَرْشِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْمَخْلُوقَاتِ حَجْمًا وَأَوْسَعُهَا مِسَاحَةً. وَالذَّرَّةُ هِيَ أَصْغَرُ الأَجْرَامِ الَّتِي تَرَاهَا الْعَيْنُ وَتُسَمَّى أَيْضًا الْهَبَاءَ وَيُوجَدُ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْهَبَاءِ مِمَّا لا تَرَاهُ الْعُيُونُ وَلَهُ حَجْمٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَصْغَرُ حَجْمٍ خَلَقَهُ اللَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ «الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ» وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ، هَذَا وَمَا زَادَ عَلَيْهِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَوْجَدَهُ وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ وَعُلُومُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمُ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِمْ بِدُونِ إِرَادَتِهِمْ وَنَظَرُهُمْ بِقَصْدٍ إِلَى شَىْءٍ وَطَرْفُ أَعْيُنِهِمْ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ أَمَّا الْعِبَادُ فَلا يَخْلُقُونَ شَيْئًا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا طَبِيعَةٌ وَلا عِلَّةٌ.

   الشَّرْحُ الطَّبِيعَةُ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الأَجْرَامَ وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْعَادَةُ فَهَذِهِ لا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ خَالِقَةً لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ لا إِرَادَةَ لَهَا وَلا مَشِيئَةَ وَلا اخْتِيَارَ. وَالسَّبَبُ هُوَ حَادِثٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حَادِثٍ ءَاخَرَ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ مُسَبَّبُهُ عَنْهُ. أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ الِاصْطِلاحِ مَا يُوجَدُ الْمَعْلُولُ بِوُجُودِهِ وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهِ مِثْلُ حَرَكَةِ الإِصْبَعِ الَّذِي فِيهِ خَاتَمٌ فَحَرَكَةُ الإِصْبَعِ عِنْدَهُمْ عِلَّةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ لِأَنَّ حَرَكَةَ الْخَاتَمِ تَتْبَعُ حَرَكَةَ الإِصْبَعِ فَتُوجَدُ بِوُجُودِهَا وَتُعْدَمُ بِعَدَمِهَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلْ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/2] أَيْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَلا خَلْقَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/3].

   الشَّرْحُ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ أَيْ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا مِنَ الأَعْيَانِ أَيِ الأَجْسَامِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَقُومُ بِذَاتِهِ وَمِنَ الأَعْرَاضِ الَّتِي تَقُومُ بِغَيْرِهَا كَالأَعْمَالِ مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا وَمَا كَانَ مِنْهَا شَرًّا وَالنِّيَّاتِ وَالْخَوَاطِرِ الَّتِي لا نَمْلِكُ مَنْعَهَا مِنْ أَنْ تَرِدَ هُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَغَيْرُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْ فِي أَفْعَالِ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَقَالَتْ إِنَّ الْعَبْدَ هُوَ خَالِقُهَا فَكَفَّرَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ كَأَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ وَالإِمَامِ الْبُلْقِينِيِّ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ شِيثِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَالِكِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَكَذَّبَتْ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ وَقَوْلَهُ ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الآيَاتِ. وَمَعْنَى الْخَلْقِ هُنَا الإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَلَفْظَةُ شَىْءٍ فِي الآيَةِ الأُولَى شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ النَّسَفِيُّ فَإِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ زُجَاجًا بِحَجَرٍ فَكَسَرَهُ فَالضَّرْبُ وَالْكَسْرُ وَالِانْكِسَارُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلَّا الْكَسْبُ وَأَمَّا الْخَلْقُ فَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ/286].

   الشَّرْحُ الضَّرْبُ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ انْكِسَارٌ وَقَدْ لا يَحْصُلُ وَالْكَسْرُ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الزُّجَاجِ بِوَاسِطَةِ الرَّمْيِ بِالْحَجَرِ وَأَمَّا الِانْكِسَارُ فَمَا يَحْصُلُ مِنَ الأَثَرِ فِي الزُّجَاجِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَمَلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ إِلَّا الْكَسْبُ أَيْ تَوْجِيهُ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ نَحْوَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنَ الْخَيْرِ ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنَ الشَّرِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [سُورَةَ الأَنْفَالِ/17] فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ لِنَفْسِهِ وَتَمَدَّحَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ شَىْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ الْكَسْبَ. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَلامُهُ قَدِيْمٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

   الشَّرْحُ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَعِلْمَهُ وَبَقَاءَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ فَهِيَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لِأَنَّ الذَّاتَ الأَزَلِيَّ لا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ فَكَلامُهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لا ابْتِدَاءَ لَهُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلا يَكُونُ حَرْفًا وَصَوْتًا وَلُغَةً وَلا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ وَلِذَلِكَ لا يُقَالُ عَنِ اللَّهِ نَاطِقٌ لِأَنَّ النُّطْقَ لا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ وَاللَّهُ لا يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ بَلْ يُقَالُ مُتَكَلِّمٌ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ. الْقُرْءَانُ وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ إِنْ قُصِدَ بِهَا الْكَلامُ الذَّاتِيُّ فَهِيَ أَزَلِيَّةٌ لَيْسَتْ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَإِنْ قُصِدَ بِهَا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ الَّذِي بَعْضُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَبَعْضُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَبَعْضُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَهُوَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ تَصْنِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ وَهِيَ عِبَارَاتٌ عَنِ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الَّذِي لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَلا بِأَنَّهُ عِبْرَانِيٌّ وَلا بِأَنَّهُ سُرْيَانِيٌّ وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّهِ أَيْ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ يُقَالُ لَهَا كَلامُ اللَّهِ وَاللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْءَانَ لَهُ إِطْلاقَانِ أَيْ لَهُ مَعْنَيَانِ الأَوَّلُ إِطْلاقُهُ عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْرِهَا وَالثَّانِي إِطْلاقُهُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْجَلالَةِ (اللَّه) عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ أَزَلِيٍّ قَديِمٍ أَبَدِيٍّ فَإِذَا قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ فَذَلِكَ الذَّاتُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا كُتِبَ هَذَا اللَّفْظُ فَقِيلَ مَا هَذَا يُقَالُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الذَّاتِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ لا بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِيَ الذَّاتُ الَّذِي نَعْبُدُهُ.

   وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ أَيْ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الذَّاتِ أَيْ ذَاتُهُ لا يُشْبِهُ ذَوَاتَ الْمَخْلُوقَاتِ أَيْ حَقِيقَتُهُ لا تُشْبِهُ الْحَقَائِقَ وَالصِّفَاتِ أَيْ صِفَاتُهُ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْفِعْلِ أَيْ فِعْلُهُ لا يُشْبِهُ فِعْلَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ وَالْمَفْعُولُ حَادِثٌ. وَمَعْنَى سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى تَعَالَى تَنَزَّهَ وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَعَالٍ أَيْ مُتَنَزِّهٌ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ أَيِ الْكَافِرُونَ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ هُوَ أَعْلَى الظُّلْمِ وَأَكْبَرَهُ وَأَشَدَّهُ أَطْلَقَ اللَّهُ فِي الْقُرْءَانِ الظَّالِمِينَ وَأَرَادَ بِهِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ كُلَّ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْكُفْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفْرِ كَلا ظُلْمٍ. قَالَ تَعَالَى ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/254]. الْكُفَّارُ هُمْ أَكْبَرُ ظُلْمًا أَيْ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَكُلُّ الظُّلْمِ دُونَهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَتَلَخَّصُ مِنْ مَعْنَى مَا مَضَى إِثْبَاتُ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْءَانِ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى كَثِيرًا وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِدَمُ أَيِ الأَزَلِيَّةُ وَالْبَقَاءُ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلامُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ الْوَاجِبَةَ لِلَّهِ تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَلا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ أَلْفَاظِهَا بَلِ الْوَاجِبُ اعْتِقَادُ مَعَانِيهَا. وَيَتَلَخَّصُ مِنْ مَعْنَى مَا مَضَى اثْبِاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا إِمَّا بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ وَإِمَّا بِالْمَعْنَى الْوَارِدِ فِي النُّصُوصِ أَيْ فِي الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَهِيَ:

   (1) الْوُجُودُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ [سُورَةَ إِبْرَاهِيم/10]. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

   (2) وَالْوَحْدَانِيَّةُ أَيْ أَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/22] أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمَا أَيْ لِلسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ءَالِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتَا.

   (3) وَالْقِدَمُ أَيْ أَنَّهُ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3].

   (4) وَالْبَقَاءُ أَيْ أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ لا يَمُوتُ وَلا يَهْلِكُ وَلا يَتَغَيَّرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ الرَّحْمٰن/27] أَيْ ذَاتُهُ.

   (5) وَالْقِيَامُ بِالنَّفْسِ أَيْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَالْعَالَمُ لا يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/97].

   (6) وَالْقُدْرَةُ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ أَيْ كُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ مَا يَجُوزُ عَقْلًا وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ، فَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَا يُوجِدُ وَيُعْدِمُ. وَاللَّهُ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/2].

   (7) وَالإِرَادَةُ أَيِ الْمَشِيئَةُ وَهِيَ تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/29].

   (8) وَالْعِلْمُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ وَلا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ لِأَنَّ عِلْمَهُ عِلْمٌ وَاحِدٌ شَامِلٌ لِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ يَعْلَمُ بِهِ سُبْحَانَهُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾ [سُورَةَ الطَّلاق/12].

   (9،10) وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ كَسَمْعِ غَيْرِهِ وَيَرَى بِرُؤْيَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَرُؤْيَةِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].

   (11) وَالْحَيَاةُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/255].

   (12) وَالْكَلامُ أَيْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ وَاحِدٍ أَزَلِيٍّ أَبَدِيٍّ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/164] .

   (13) وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ أَيْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ أَيْ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ ذِكْرُهَا كَثِيرًا فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا.

   الشَّرْحُ تَجِبُ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ السَّنُوسِيُّ صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ السَّنُوسِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بنُ الْفَضَالِيِّ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَجِيدِ الشُّرْنُوبِيُّ الْمَالِكِيُّ وَقَبْلَهُمْ بِكَثِيرٍ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي «الْفِقْهِ الأَكْبَرِ» وَمِثْلَهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمَّا ثَبَتَتِ الأَزَلِيَّةُ لِذَاتِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً لِأَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الذَّاتِ.

   الشَّرْحُ :لَمَّا كَانَ ذَاتُ اللَّهِ أَزَلِيًّا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ أَزَلِيَّةً لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَحْدُثُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَوَادِثُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ حَادِثًا لِأَنَّ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْمُتَغَيِّرُ لا يَكُونُ إِلَهًا فَلَمَّا ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ قِدَمُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَزَلِيَّتُهُ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأَعْتَرِفُ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَبُعِثَ بِهَا وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِيهَا وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ فَمِنْ ذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ وَنَعِيمُهُ وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَالْبَعْثُ وَالْحَشْرُ وَالْقِيَامَةُ وَالْحِسَابُ وَالثَّوَابُ وَالْعَذَابُ وَالْمِيزَانُ وَالنَّارُ وَالصِّرَاطُ وَالْحَوْضُ وَالشَّفَاعَةُ وَالْجَنَّةُ وَالرُّؤْيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ [أَيْ] لا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوقُ وَالْخُلُودُ فِيهِمَا. وَالإِيمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ.

   الشَّرْحُ مَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأُصَدِّقُ وَأُؤْمِنُ وَأَعْتَرِفُ بِأَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ هُنَا الإِنْسُ وَالْجِنُّ قَالَ تَعَالَى ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَانِ/1]. إِذْ هَذَا الإِنْذَارُ لِلإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَطْ لا دُخُولَ لِلْمَلائِكَةِ فِيهِ لِأَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ أَيْ لا يَخْتَارُونَ إِلَّا الطَّاعَةَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلا يَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْذَارٍ وَأَمَّا مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ كَافَّةً فَالإِيمَانُ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَصْلُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ لَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَسَائِلَ كَثِيرَةً وَتَتْبَعُهَا أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا:

  • كَوْنُهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَشْرَفُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ لَهُمُ الصَّدَارَةُ بَيْنَ الْعَرَبِ.
  • وَوُجُوبُ مَعْرِفَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِد بِمَكَّةَ وَبُعِثَ أَيْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ بِهَا أَيْ مُسْتَوْطِنٌ بِهَا ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ فَدُفِنَ فِيهَا.
  • وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلا يُخْطِئُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأُمَمِ وَالأَنْبِيَاءِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ أَوْ مِنَ التَّحْلِيلِ أَوِ التَّحْرِيمِ لِبَعْضِ أَفْعَالِ وَأَقْوَالِ الْعِبَادِ أَوْ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ وَفِي الآخِرَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم] فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُخْطِئُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَذَّبَ الدِّينَ. أَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ وَحْيٍ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيهِ.

   وَيَدْخُلُ فِيمَا يَجِبُ تَصْدِيقُهُ بِهِ جَزْمًا عَذَابُ الْقَبْرِ وَهُوَ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمِنْهُ عَرْضُ النَّارِ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ يَتَعَذَّبُ بِنَظَرِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِمَقْعَدِهِ الَّذِي يَقْعُدُهُ فِي الآخِرَةِ وَتَضْيِيقُ الْقَبْرِ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ فَالأَضْلاعُ الَّتِي فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ تَدْخُلُ فِي الأَضْلاعِ الَّتِي فِي الْجِهَةِ الأُخْرَى. وَبَعْضُ النَّاسِ تُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الثَّعَابِينُ وَبَعْضُ النَّاسِ يَأْتِيهِمْ رِيحُ جَهَنَّمَ إِلَى الْقَبْرِ. وَكَذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الِانْزِعَاجُ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ وَضَرْبُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلْكَافِرِ بِمِطْرَقَةٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ لا لِجَمِيعِهِمْ مِمَّا هُوَ دُونَ مَا يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ كَضَغْطَةِ الْقَبْرِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ فَهَذِهِ الضَّغْطَةُ تَحْصُلُ لِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا الأَتْقِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالأَطْفَالُ فَلا تَحْصُلُ لَهُمْ، وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثُ «لَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا سَعْدٌ» كَمَا حَكَمَ بِضَعْفِهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.

   وَالإيمَانُ بِنَعِيمِ الْقَبْرِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ أَيْضًا وَمِنْهُ تَوْسِيعُ الْقَبْرِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعًا عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ الأَتْقِيَاءِ كَبَعْضِ الشُّهَدَاءِ مِمَّن ِاسْتُشْهِدُوا وَلَمْ يَكُونُوا أَتْقِيَاءَ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَّسِعُ قَبْرُهُمْ مَدَّ الْبَصَرِ. وَمِنْهُ تَنْوِيرُهُ بِنُورٍ يُشْبِهُ نُورَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَشَمِّ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ.

   وَالإِيْمَانُ بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَهُوَ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَيِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَالُ لَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ أُمَّةُ الإِجَابَةِ. ثُمَّ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لا يَلْحَقُهُ فَزَعٌ وَلا انْزِعَاجٌ مِنْ سُؤَالِهِمَا لِأَنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ قَلْبَهُ فَلا يَرْتَاعُ مِنْ مَنْظَرِهِمَا الْمُخِيفِ لِأَنَّهُمَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ بَلْ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُ بِرُؤْيَتِهِمَا وَسُؤَالِهِمَا. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا السُّؤَالِ النَّبِيُّ وَالطِّفْلُ وَشَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ. وَالْمُرَادُ بِالطِّفْلِ مَنْ مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ.

   وَالإِيْمَانُ بِالْبَعْثِ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِي أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِي يَأْكُلُهَا التُّرَابُ وَهِيَ أَجْسَادُ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ الأَوْلِيَاءِ لا يَأْكُلُ التُّرَابُ أَجْسَادَهُمْ لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ.

   وَالإِيْمَانُ بِالْحَشْرِ وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ النَّاسُ وَيُسَاقُوا بَعْدَ الْبَعْثِ إِلَى الْمَحْشَرِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ الشَّامُ ثُمَّ يُنْقَلُونَ عِنْدَ دَكِّ الأَرْضِ إِلَى ظُلْمَةٍ عِنْدَ الصِّرَاطِ ثُمَّ يُعَادُونَ إِلَى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ فَيَكُونُ الْحِسَابُ عَلَيْهَا.  

   وَالإِيْمَانُ بِالْقِيَامَةِ وَأَوَّلُهَا مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ وَقَدْ تُطْلَقُ الآخِرَةُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى مَا بَعْدَهُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ.

   وَالإِيْمَانُ بِالْحِسَابِ وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ مَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا.

   وَالإِيْمَانُ بِالثَّوَابِ وَالْعَذَابِ أَمَّا الثَّوَابُ فَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجَازَاهُ الْمُؤْمِنُ فِي الآخِرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا يَسُرُّهُ وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْمَعَاصِي.

   وَالإِيْمَانُ بِالْمِيزَانِ أَيْ مَا يُوزَنُ عَلَيْهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ فَالْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا تُوضَعُ سَيِّئَاتُهُ فِي كَفَّةٍ مِنَ الْكَفَّتَيْنِ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتُوضَعُ حَسَنَاتُهُ فِي كَفَّةٍ وَسَيِّئَاتُهُ فِي الْكَفَّةِ الأُخْرَى.

   وَالإِيْمَانُ بِالنَّارِ أَيْ جَهَنَّمَ أَيْ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلا تَزَالُ بَاقِيَةً إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَةَ إِنَّهَا تَفْنَى لا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ. وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ «مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ» اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَهَمُ بنُ صَفْوَانَ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ اهـ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّارُ تَفْنَى وَلا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ فَكَمَا كَفَّرَ هُوَ جَهْمًا لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ يُكَفَّرُ هُوَ لِقَوْلِهِ بِفَنَاءِ النَّارِ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلنَّصِّ الْقُرْءَانِيِّ وَلِلإِمَامِ السُّبْكِيِّ رَدٌّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ سَمَّاهُ «الِاعْتِبَارُ بِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ» وَجَهَنَّمُ دَارُ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِلْكَافِرِينَ لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا وَأَمَّا بَعْضُ الْعُصَاةِ فَيُعَذَّبُونَ فِيهَا مُدَّةً ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَلَذَّذُونَ بِالنَّارِ وَلا يَرْضَوْنَ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَهُوَ كُفْرٌ تَكْذِيبٌ لِلنُّصُوصِ.

   وَالإِيْمَانُ بِالصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ يُمَدُّ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ فَيَرِدُهُ النَّاسُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ بَعْدَ النَّارِ فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيمَا يُسَامِتُ الصِّرَاطَ فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ لا يَدُوسُونَ الصِّرَاطَ إِنَّمَا يَمُرُّونَ فِي هَوَائِهِ طَائِرِينَ وَهَؤُلاءِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَرَدُوهَا أَيْ وَرَدُوا النَّارَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ مِّنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/71] دُخُولُهَا وَقِسْمٌ يَدُوسُونَهُ ثُمَّ هَؤُلاءِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُوقَعُونَ فِي النَّارِ وَقِسْمٌ يُنْجِيهِمُ اللَّهُ فَيَخْلُصُونَ مِنْهَا.

   وَالإِيْمَانُ بِالْحَوْضِ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ وَإِنَّمَا يَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا.

   وَالإِيْمَانُ بِالشَّفَاعَةِ وَهِيَ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَطْ فَالأَنْبِيَاءُ يَشْفَعُونَ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَالْمَلائِكَةُ. وَالشَّفَاعَةُ هِيَ طَلَبُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ فَالشُّفَعَاءُ فِي الآخِرَةِ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ إِسْقَاطَ الْعِقَابِ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَهُ.

   وَالإِيْمَانُ بِالْجَنَّةِ وَهِيَ دَارُ السَّلامِ أَيْ دَارُ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الدَّائِمِ وَالنَّعِيمُ فِيهَا قِسْمَانِ نَعِيمٌ لا يَنَالُهُ إِلَّا الأَتْقِيَاءُ وَنَعِيمٌ يَنَالُهُ كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْ هَذَا النَّعِيمِ الْعَامِّ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ شَبَابٌ لا يَهْرَمُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ أَصِحَّاءُ لا يَسْقَمُونَ أَيْ لا يَمْرَضُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ فِي سُرُورٍ لا يُصِيبُهُمْ هَمٌّ وَحَزَنٌ وَنَكَدٌ وَكَرْبٌ وَكُلَّهُمْ يَبْقَوْنَ أَحْيَاءً فِي نَعِيمٍ دَائِمٍ لا يَمُوتُونَ أَبَدًا.

   وَالإِيْمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَهَذَا خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلا جِهَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لا يَكُونُ فِي جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ إِنَّمَا هُمْ فِي مَكَانِهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً لا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهَا اشْتِبَاهٌ لا يَشُكُّونَ هَلِ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا لا يَشُكُّ مُبْصِرُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ أَنَّ الَّذِي رَءَاهُ هُوَ الْقَمَرُ فَفِي ذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْ لا تَتَزَاحَمُونَ فِي رُؤْيَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ «لا تُضَامُون» أَيْ لا يَلْحَقُكُمْ ضَرَرٌ، شَبَّهَ رُؤْيَتَنَا لَهُ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الجُهَّالِ فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمِ التَّوْحِيدَ إِذَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعَوَامِّ بِذَلِكَ.

   وَالإِيْمَانُ بِالْخُلُودِ فِيهِمَا فَيَجِبُ الإِيْمَانُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يَخْلُدُونَ فِيهَا وَأَنَّهُ لا مَوْتَ بَعْدَ ذَلِكَ.

   وَالإِيْمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ أَيْ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ وَهُمْ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ لَطِيفَةٌ أَلْطَفُ مِنَ الْهَوَاءِ ذَوُو أَرْوَاحٍ مُشَرَّفَةٍ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَنَامُونَ وَلا يَتَوَالَدُونَ مُكَلَّفُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

   وَالإِيْمَانُ بِرُسُلِهِ أَيْ أَنْبِيَائِهِ مَنْ كَانَ رَسُولًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ هُوَ إِنْسَانٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ لا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ بَلْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِاتِّبَاعِ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ وَأَنْ يُبَلِّغَ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ الرَّسُولُ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ. وَمِنَ الْغَلَطِ الشَّنِيعِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ وَهَذَا كَلامٌ شَنِيعٌ كَيْفَ يُنبَّأُ ثُمَّ لا يُؤْمَرُ بِالتَّبْلِيغِ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُنَبَّأَ النَّبِيُّ لِنَفْسِهِ فَقَطْ فَمَا أَشْنَعَ هَذِهِ الْغَلْطَةَ وَهَذِهِ الْغَلْطَةُ مَوْجُودَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْجَلالَيْنِ وَفِي كُتُبٍ عَدِيدَةٍ. وَأَوَّلُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَى الْكُفَّارِ سَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ بَعْدَ حُدُوثِ الْكُفْرِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ نَبِيٌّ وَلا رَسُولٌ بَلْ كَانَ ءَادَمُ نَبِيًّا رَسُولًا كَمَا يَشْهَدُ لِنُبُوَّتِهِ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ ءَادَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَعُرِفَ هَذَا الأَمْرُ بَيْنَهُمْ بِالضَّرُورَةِ فَمَنْ نَفَى نُبُوَّتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِالإِجْمَاعِ كَمَا فِي مَرَاتِبِ الإِجْمَاعِ، فَالَّذِي يَشُكُّ فِي نُبُوَّةِ ءَادَمَ أَوْ فِي كُفْرِ الشَّاكِّ فِيهَا كَافِرٌ وَالَّذِي يَشُكُّ فِي رِسَالَتِهِ أَيْضًا كَافِرٌ.

   وَالإيِمَانُ بِالْكُتُبِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَكِنْ أَشْهَرُهَا هَؤُلاءِ الأَرْبَعُ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ أَيِ الْقُرْءَانُ. قَالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ قَرَأْتُ سَبْعِينَ كِتَابًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ.

   وَالإِيْمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِيْمَانِ السِّتَّةِ هُوَ الرِّضَا بِقَدَرِ اللَّهِ أَيْ تَقْدِيرِهِ وَأَمَّا الْمَقْدُورُ فَيَجِبُ الإِيْمَانُ بِأَنَّ كُلَّ الْمَقْدُورَاتِ أَيِ الْمَخْلُوقَاتِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَحْصُلُ مَا كَانَ خَيْرًا وَمَا كَانَ شَرًّا فَمَا كَانَ مِنَ الْمَقْدُورِ خَيْرًا يَجِبُ الرِّضَا بِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ شَرًّا يَجِبُ كَرَاهِيَتُهُ كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ فَالْخَيْرُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَالشَّرُّ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لا بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ لَفْظُ «وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي لَفْظٍ «وَالْقَدَرِ كُلِّهِ» وَيَتَضَمَّنُ الإِيْمَانُ بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِيْمَانَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لأِنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ» أَيْ لا أَقُولُ ذَلِكَ افْتِخَارًا إِنَّمَا أَقُولُ ذَلِكَ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفِي ذَلِكَ جَوَازُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالْفَطَانَةِ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَالرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْبَلادَةُ وَالْجُبْنُ وَكُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الأَخْلاقِ وَهِيَ الصِّدْقُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ يُنَافِي مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَأَمَّا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ زَوْجَتِهِ سَارَةَ «إِنَّهَا أُخْتِي» وَهِيَ لَيْسَتْ أُخْتَهُ فِي النَّسَبِ فَكَانَ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ لَيْسَ كَذِبًا مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ وَالْحَقِيقَةُ إِنَّمَا هُوَ صِدْقٌ. وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْقُرْءَانِ الْكَريِمِ أَنَّهُ قَالَ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/63]. وَلَيْسَ هَذَا كَذِبًا حَقِيقِيًّا بَلْ هَذَا صِدْقٌ مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ وَالْحَقِيقَةُ لِأَنَّ كَبِيرَ الأَصْنَامِ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الْفَتْكِ بِهِمْ أَيِ الأَصْنَامِ الأُخْرَى مِنْ شِدَّةِ اغْتِيَاظِهِ مِنْهُ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي تَعْظِيمِهِ بِتَجْمِيلِ هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُكَسِّرَ الصِّغَارَ وَيُهِينَ الْكَبِيرَ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْكَبِيرِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا فَلا كَذِبَ فِي ذَلِكَ أَيْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذِبًا وَأَمَّا حَدِيثُ «كَذَبَ إِبْرَاهِيمُ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ» فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ.

   وَالأَمَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ فَلا يَكْذِبُونَ عَلَى النَّاسِ إِنْ طَلَبُوا مِنْهُمُ النَّصِيحَةَ وَلا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

   وَالْفَطَانَةُ فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ أَذْكِيَاءُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْغَبَاوَةُ أَيْ أَنْ يَكُونُوا ضُعَفَاءَ الأَفْهَامِ لِأَنَّ الْغَبَاوَةَ تُنَافِي مَنْصِبَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَغْبِيَاءَ لَنَفَرَ مِنْهُمُ النَّاسُ لِغَبَاوَتِهِمْ وَاللَّهُ حَكِيمٌ لا يَجْعَلُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فِي الأَغْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِيُبَلِّغُوا النَّاسَ مَصَالِحَ ءَاخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالْبَلادَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ.

   وَيَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْبَلادَةُ فَلَيْسَ فِي الأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ رَذِيلٌ يَخْتَلِسُ النَّظَرَ إِلَى النِّسَاءِ الأَجْنَبِيَّاتِ بِشَهْوَةٍ مَثَلًا وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَسْرِقُ وَلَوْ حَبَّةَ عِنَبٍ وَلَيْسَ فِي الأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً تَسْتَقْبِحُهَا النَّفْسُ وَلَيْسَ فِي الأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ بَلِيدُ الذِّهْنِ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يُعَارِضُهُ بِالْبَيَانِ وَلا ضَعِيفُ الْفَهْمِ لا يَفْهَمُ الْكَلامَ مِنَ الْمَرَّةِ الأُولَى إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكَرَّرَ عَلَيْهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ.

   وَيَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ لَارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ فِي صِحَّةِ مَا يَقُولُونَهُ وَلَقَالَ قَائِلٌ عِنْدَمَا يَبْلُغُهُ كَلامٌ عَنِ النَّبِيِّ مَا يُدْرِينَا أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ لِذَلِكَ لا يَصْدُرُ مِنْ نَبِيٍّ كَلامٌ غَيْرُ الَّذِي يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلا يَصْدُرُ مِنْهُ كَلامٌ وَهُوَ لا يُرِيدُ الْكَلامَ بِالْمَرَّةِ كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ وَهُوَ نَائِمٌ. وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الأَمْرَاضُ الْمُنَفِّرَةُ كَخُرُوجِ الدُّودِ مِنَ الْجِسْمِ.

   وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْجُبْنُ أَمَّا الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ بَلِ الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ النُّفُورِ مِنَ الْحَيَّةِ فَإِنَّ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ تَقْتَضِي النُّفُورَ مِنَ الْحَيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلا يُقَالُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبَ لِأَنَّ هَرَبَ يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ أَمَّا فَرَّ مِنَ الأَذَى مَثَلًا فَلا يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ يُقَالُ هَاجَرَ فِرَارًا مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ هَذَا جَائِزٌ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَجِبُ لَهُمُ الْعِصْمَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا.

   الشَّرْحُ الأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ أَيْ مَحْفُوظُونَ مِنَ الْكُفْرِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا وَأَمَّا قَوْلُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْكَوْكَبِ حِينَ رَءَاهُ ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/76]. فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَهَذَا رَبِّي كَمَا تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمَّا غَابَ قَالَ ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/76]. أَيْ لا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رَبًّا فَكَيْفَ تَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ. وَلَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُ بَلْ بَقُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَالَ حِينَمَا رَأَى الْقَمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْهُمْ بُغْيَتَهُ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِ وَأَنَّهُ لا يَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَرَ مِنْهُمْ بُغْيَتَهُ قَالَ حِينَمَا ظَهَرَتِ الشَّمْسُ ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾ أَيْ عَلَى زَعْمِكُمْ فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ بُغْيَتَهُ أَيْضًا فَأَيِسَ مِنْهُمْ مِنْ عَدَمِ انْتِبَاهِهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِلْمُرَادِ أَيْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ لا تَصْلُحُ لِلأُلُوهِيَّةِ فَتَبَرَأَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ فِيهِمْ بَلْ ذَهَبَ إِلَى فِلَسْطِينَ فَأَقَامَ هُنَاكَ وَتُوُفِّيَ فِيهَا وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ فَكَانَ يَعْلَمُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ وَالأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ وَكَذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالذُّنُوبِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ فَإِنَّ هَذِهِ صَغِيرَةٌ لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ نَفْسٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي لَكِنْ يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ.

   الشَّرْحُ الصَّغَائِرُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ تَجُوزُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ وَلَكِنَّ الأَنْبِيَاءَ إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ شَىْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَلا دَنَاءَةٌ يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ فَيَتُوبُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي تِلْكَ الصَّغِيرَةِ غَيْرُهُمْ فَيَفْعَلَ مِثْلَمَا فَعَلُوا لِأَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ لا تَصِحُّ لإِخْوَةِ يُوسُفَ الَّذِينَ فَعَلُوا تِلْكَ الأَفَاعِيلَ الْخَسِيسَةَ وَهُمْ مَنْ سِوَى بِنْيَامِينَ.

   الشَّرْحُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لا تَصِحُّ النُّبُوَّةُ لإِخْوَةِ يُوسُفَ وَهُمُ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ فَعَلُوا تِلْكَ الأَفَاعِيلَ الْخَسِيسَةَ مِنْ ضَرْبِهِمْ يُوسُفَ وَرَمْيهِمْ لَهُ فِي الْبِئْرِ وَتَسْفِيهِهِمْ أَبَاهُمْ بِقَوْلِهِمْ ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيْمِ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/95] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُمْ مَنْ عَدا بِنْيَامِينَ أَيْ لَيْسَ بِنْيَامِينُ مِنْ هَؤُلاءِ الْعَشَرَةِ.    

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالأَسْبَاطُ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ هُمْ مَنْ نُبِّئَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ.

   الشَّرْحُ الأَسْبَاطُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي الْقُرْءَانِ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ هُمْ غَيْرُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ءَاذَوْا سَيِّدَنَا يُوسُفَ بَلْ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ لِأَنَّ ذُرِّيَّتَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ. وَالسِّبْطُ لُغَةً يُطْلَقُ عَلَى الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ. قَالَ تَعَالَى ﴿قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ/136].

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا فَصْلٌ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حِفْظُ إِسْلامِهِ وَصَوْنُهُ عَمَّا يُفْسِدُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيَقْطَعُهُ وَهُوَ الرِّدَّةُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الرِّدَّةُ أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الرِّدَّةَ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُذْهِبُ كُلَّ الْحَسَنَاتِ وَتَبْقَى السَّيِّئَاتُ. وَلَوْ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ بَعْدَ ذَلِكَ لا تَرْجِعُ لَهُ الْحَسَنَاتُ الَّتِي كَانَ عَمِلَهَا وَتَبْقَى السَّيِّئَاتُ فَإِنْ تَابَ مِنْهَا ذَهَبَتْ. وَلَيْسَ مَعْنَى «الرِّدَّةُ أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ» أَنَّ كُلَّ أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ أَشَدُّ مِنْ كُفْرِ الْكَافِرِ الأَصْلِيِّ لِأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ الأَصْلِيِّ قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ كُفْرِ الْمُرْتِّدِ فَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ النَّوَوِيِّ الْمَذْكُورِ أَنَّ الرِّدَّةَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كُفْرًا إِنَّمَا مُرَادُهُ شِدَّةُ قُبْحِهَا فِي أَنَّهَا خُرُوجٌ مِنَ الإِسْلامِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ التَّعْطِيلُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُلْحِدِ «لا إِلَهَ وَالْحَيَاةُ مَادَّةٌ» وَقَوْلُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ جُمْلَةُ الْعَالَمِ وَعَقِيدَةُ الْحُلُولِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَحُلُّ فِي غَيْرِهِ كَالْيَشْرُطِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْخُلُ فِي كُلِّ شَخْصٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ فِي بَعْضِ الأَشْخَاصِ أَنْتَ اللَّهُ وَهَذَا الْجِدَارُ اللَّهُ وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّاذِلِيَّةِ انْحَرَفُوا عَنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عَقِيدَةُ كُلِّ مَشَايِخِ أَهْلِ اللَّهِ الَّذِينَ عَمِلُوا الطُّرُقَ كَالسَّيِّدِ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيِّ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجَيْلانِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ شُعَيْبِ بنِ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ التَّسَاهُلُ فِي الْكَلامِ حَتَّى إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ تُخْرِجُهُمْ عَنِ الإِسْلامِ وَلا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كُفْرًا وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بِأْسًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» أَيْ مَسَافَةَ سَبْعِينَ عَامًا فِي النُّزُولِ وَذَلِكَ مُنْتَهَى جَهَنَّمَ وَهُوَ خَاصٌ بِالْكُفَّارِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

   الشَّرْحُ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُطْلِقُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكَلامِ الْفَاسِدِ الْمُخْرِجِ مِنَ الإِسْلامِ وَلا يَرَوْنَ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنَ الإِسْلامِ وَهَذَا الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» أَيْ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لا يَرَاهَا ضَارَّةً لَهُ وَلا يَعْتَبِرُهَا مَعْصِيَةً يَسْتَوْجِبُ بِهَا النُّزُولَ إِلَى قَعْرِ جَهَنَّمَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لا يَصِلُ إِلَى قَعْرِ جَهَنَّمَ الَّذِي هُوَ مَسَافَةُ سَبْعِينَ عَامًا فِي النُّزُولِ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

   الشَّرْحُ الْحَدِيثُ هُوَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ مُفَسِّرٌ لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِي الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ وَلا انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَلا اعْتِقَادُ مَعْنَى اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُ كِتَابُ «فِقْهِ السُّنَّةِ». وَكَذَلِكَ لا يُشْتَرَطُ فِي الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ عَدَمُ الْغَضَبِ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ النَّوَوِيُّ قَالَ «لَوْ غَضِبَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ غُلامِهِ فَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَلَسْتَ مُسْلِمًا فَقَالَ لا مُتَعَمِّدًا كَفَرَ» وَقَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ حَنَفِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ.

   الشَّرْحُ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ الْخُرُوجَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ دِينًا غَيْرَهُ كَمَا هُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ وَهُمْ يَتَخَبَّطُونَ فِي الْكُفْرِ أَيْ أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَتَلَفَّظُ بِالْكُفْرِ الصَّرِيحِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ سَوَاءٌ عَرَفَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ أَمْ لَمْ يَعْرِفْ إِنَّمَا الشَّرْطُ مَعْرِفَةُ مَعْنَى اللَّفْظِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِإِرَادَةٍ وَهُوَ يَفْهَمُ الْمَعْنَى كَفَرَ وَخَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ. وَقَدْ شَذَّ سَيِّدُ سَابِقٍ فَإِنَّ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ «فِقْهَ السُّنَّةِ» يَقُولُ فِيهِ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ إِنَّ الْمُسْلِمَ لا يُعْتَبَرُ خَارِجًا عَنَ الإِسْلامِ وَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ إِلَّا إِذَا انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ وَاطْمَأَنَ قَلْبُهُ وَدَخَلَ فِي دِينٍ غَيْرِ الإِسْلامِ بِالْفِعْلِ اهـ. وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُمَا ءَانِفًا وَمَوْضِعُ الشَّاهِدِ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَرَى بِهَا بَأْسًا» أَيْ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْكَلامِ مَا يُخْرِجُ الإِنْسَانَ مِنَ الإِسْلامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْشَرِحَ الْبَالِ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُنْشَرِحِ الْبَالِ لِذَلِكَ الْقَوْلِ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيْمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/106] دَلِيلٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ سَيِّدُ سَابِقٍ لِأَنَّ هَذَا وَرَدَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ إِنْ كَانَ نُطْقُهُ بِالْكُفْرِ بِدُونِ انْشِرَاحِ صَدْرٍ لِذَلِكَ الْكُفْرِ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ هَذَا الْمُكْرَهُ إِنِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ حَالَةَ النُّطْقِ بِالْكُفْرِ لِمَا قَالَهُ مِنَ الْكُفْرِ كَمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ «هَلْ كُنْتَ شَارِحًا صَدْرَكَ حِينَ قُلْتَ مَا قُلْتَ أَمْ لا» فَقَالَ لا رَوَاهُ الإِمَامُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الإِشْرَافِ فَحَرَّفَ هَذَا الرَّجُلُ سَيِّدُ سَابِقٍ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ مَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ قَطُّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالرِّدَّةُ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ كَمَا قَسَّمَهَا النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ شَافِعِيَّةٍ وَحَنَفِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ اعْتِقَادَاتٌ وَأَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ وَكُلٌّ يَتَشَعَّبُ شُعَبًا كَثِيرَةً.

   الشَّرْحُ الرِّدَّةُ هِيَ قَطْعُ الإِسْلامِ وَتَحْصُلُ تَارَةً بِالْقَوْلِ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ وَتَارَةً بِالِاعْتِقَادِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ بِالْقُرْءَانِ الْكَريْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/74]. فَإِنَّ هَذِهِ الآيَةَ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ قَوْلِيٌّ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [سُورَةَ الْحُجُرَات/15] أَيْ لَمْ يَشُكُّوا وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ اعْتِقَادِيٌّ لِأَنَّ الِارْتِيَابَ أَيِ الشَّكَّ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمِنْ ءَايَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ [سُورَةَ فُصِّلَتْ/37]. يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ فِعْلِيٌّ وَهَذَا التَّقْسِيمُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ بَلْ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ مَا إِذَا طَرَأَ لِلإِنْسَانِ يُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلامِ فَمِنْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْعَالَمَ أَزَلِيٌّ بِنَوْعِهِ وَتَرْكِيبِهِ أَوْ بِنَوْعِهِ فَقَطْ أَوِ اعْتِقَادُ مَا يُوجِبُ الْحُدُوثَ فِي اللَّهِ تَعَالَى كَاعْتِقَادِ أَنَّ مَشِيئَتَهُ حَادِثَةٌ تَحْدُثُ لَهُ أَوْ أَنَّهُ تَحْدُثُ لَهُ مَشِيئَةُ شَىْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَائِيًا لَهُ أَوْ أَنَّ عِلْمَهُ حَادِثٌ أَوْ أَنَّهُ يَحْدُثُ لَهُ عِلْمُ شَىْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ لِأَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ فِي اللَّهِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ ذَاتِهِ وَالْحُدُوثُ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ. وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ اللَّوْنِ فِي اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فِي اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَاكِنًا لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى وَلَوْ كَانَ مُتَحَرِّكًا لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى وَهَذَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى]. وَلْيُعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ مِنَ الأَفْعَالِ مَا يُخْرِجُ الإِنْسَانَ مِنَ الإِسْلامِ وَمِنْ ذَلِكَ إِلْقَاءُ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ وَالسُّجُودُ لِصَنَمٍ وَهُوَ مَا يَعْبُدُهُ الْكُفَّارُ مِنْ حَجَرٍ كَانَ أَوْ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَالسُّجُودُ لَهُ كُفْرٌ وَلَوْ كَانَ الشَّخْصُ مَازِحًا وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ مَنْ سَجَدَ لَهَا يَكْفُرُ وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ سَجَدَ لإِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ. وَمِنَ الأَفْعَالِ الْكُفْرِيَّةِ أَيْضًا كِتَابَةُ الْقُرْءَانِ بِالْبَوْلِ وَالدَّوْسُ عَمْدًا عَلَى الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا كُتُبُ شَرْعٍ. وَأَمَّا الأَقْوَالُ الَّتِي تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنَ الإِسْلامِ فَهِيَ أَكْثَرُ وَأَكْثَرُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ.

   وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ يُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ بِمُفْرَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ قِسْمٌ ءَاخَرُ أَيْ أَنَّ الأَقْوَالَ الْكُفْرِيَّةَ تُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ مِنْ دُونِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا اعْتِقَادٌ أَوْ فِعْلٌ، هَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلا الْتِفَاتَ إِلَى مَا خَالَفَ ذَلِكَ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمِنَ الأَوَّلِ الشَّكُّ فِي اللَّهِ أَوْ فِي رَسُولِهِ أَوِ الْقُرْءَانِ أَوِ الْيَوْمِ الآخِرِ أَوِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ أَوِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَوِ اعْتِقَادُ قِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ بِجِنْسِهِ وَتَرْكِيبِهِ أَوْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ أَوْ نَفْيُ صِفَةٍ مِنَ صِفَاتِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَكَوْنِهِ عَالِمًا.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ طَرَأَ لَهُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ اللَّهِ كَفَرَ وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ شَكَّ فِي رِسَالَةِ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ رِسَالَتُهُ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ شَكَّ فِي نُزُولِ الْقُرْءَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَكَّ فِي الْيَوْمِ الآخِرِ أَوِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ أَنَّ هَذَا هَلْ يَكُونُ أَوْ لا وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مُطْلَقَ التَّرَدُّدِ هَلِ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ مَوْجُودَتَانِ الآنَ كُفْرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَأَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ الآنَ. وَمِنَ الْكُفْرِ أَيْضًا اعْتِقَادُ قِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ بِجِنْسِهِ وَأَفْرَادِهِ كَمَا قَالَتْ قُدَمَاءُ الْفَلاسِفَةِ أَوْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَوَافَقَ فِيهِ الْفَلاسِفَةَ الْمُحْدَثِينَ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِ الْفَرِيقَيْنِ نَقَلَ ذَلِكَ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الأُصُولِيُّ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَصِفَةِ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَلا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهْلِ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: «مَنْ نَفَى قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ». أَيْ بِلا خِلافٍ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَوْ لَمْ يَرِدْ نَصٌ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ يُدْرِكُ ثُبُوتَ الْقُدْرَةِ الشَّامِلَةِ لِلَّهِ وَالْعِلْمِ الشَّامِلِ وَالإِرَادَةِ الشَّامِلَةِ وَوُجُوبَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ أَمَّا الْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ وَنَحْوُهَا مِمَّا وَرَدَ فِي النُّصُوصِ إِطْلاقُهُ عَلَى اللَّهِ صِفَاتٍ لا جَوَارِحَ فَإِنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فَلا يَكْفُرُ مُنْكِرُ هَذِهِ الصِّفَاتِ جَهْلًا وَلْنَضْرِبْ لِذَلِكَ مِثَالًا شَخْصٌ سَمِعَ إِضَافَةَ الْعَيْنِ وَالْيَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَنْكَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لا يُكَفَّرُ بَلْ يُعَلَّمُ أَنَّ هَذَا مِمَّا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ فَإِنْ أَنْكَرَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوُرُودِ النَّصِّ فِي ذَلِكَ كُفِّرَ وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي الْقُرْءَانِ تَسْمِيَةَ اللَّهِ بِذَلِكَ فَلا يَكْفُرُ بَلْ يُقَالُ لَهُ هَذَا وَرَدَ شَرْعًا تَسْمِيَتُهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ﴾ [سُورَةَ الْحَشْرِ]. الآيَهَ. فَإِذَا قِيلَ لِشَخْصٍ إِنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدًا وَعَيْنًا فَأَنْكَرَ وَقَالَ «لا يَجُوزُ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ» لِأَنَّهُ مَا عَلِمَ وُرُودَ إِضَافَةِ هَذَا فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى اللَّهِ فَلا يُكَفَّرُ إِنَّمَا يُكَفَّرُ مَنْ نَفَى ذَلِكَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِثُبُوتِهِ فِي النَّصِّ أَمَّا إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ هَذَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُصَدِّقَ بِذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْوَجْهَ لَيْسَ جَارِحَةً كَوَجْهِ الْخَلْقِ أَيْ لَيْسَ حَجْمًا وَعَلَى أَنَّ عَيْنَ اللَّهِ لَيْسَتْ جَارِحَةً كَعَيْنِ الْخَلْقِ وَعَلَى أَنَّ يَدَ اللَّهِ لَيْسَتْ جَارِحَةً كَيَدِ الْخَلْقِ فَيُعَلَّمُ بِأَنَّ وَجْهَ اللَّهِ وَيَدَهُ وَعَيْنَهُ لَيْسَتْ جَوَارِح لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَوَارِحِ وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا أَوْ عَيْنًا أَوْ يَدًا بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ كَافِرٌ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا عُلِمَ أَنَّهُ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي الْجَهْلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَنَحْوِهَا مِنْ صِفَاتِهِ مَهْمَا بَلَغَ الْجَهْلُ بِصَاحِبِهِ، وَكُنْ عَلَى ذُكْرٍ وَاسْتِحْضَارٍ لِنَقْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ نِسْبَةُ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ إِجْمَاعًا كَالْجِسْمِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ الْجِسْمِيَّةَ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ جِسْمٌ أَوْ قَالَ ذَلِكَ كَفَرَ. وَالْجِسْمُ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ كَبُرَ كَالْعَرْشِ أَوْ صَغُرَ كَالْخَرْدَلَةِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ دُونَ الْخَرْدَلَةِ كَالْهَبَاءِ وَهُوَ مَا يُرَى فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ النَّافِذِ مِنَ الْكَوَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْجِدَارِ وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ أَوْ قَالَ بِلِسَانِهِ إِنَّهُ جِسْمٌ فَقَدِ ارْتَدَّ لِأَنَّ اللَّهَ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا صَغِيرًا كَالْهَبَاءِ لَكَانَ لَهُ مِثْلٌ وَلَوْ كَانَ جِسْمًا كَبِيرًا كَالْعَرْشِ لَكَانَ مِثْلًا لَهُ فَلَمْ يَصْلُحْ لِلأُلُوهِيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِثْلَ شَىْءٍ مِمَّا بَيْنَهُمَا. وَلا عِبْرَةَ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ إِنَّ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لا يُكَفَّرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِسْمِيَّةَ تُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّهُ جِسْمًا لَطِيفًا كَالنُّورِ وَالظَّلامِ وَالرِّيحِ أَوْ جِسْمًا كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَالنَّجْمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لِهَذِهِ الأَجْسَامِ لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يَقْبَلُ أَنْ يَخْلُقَ الْجِسْمُ جِسْمًا وَلَوْ كَانَ يَصِحُّ أَنْ يَخْلُقَ الْجِسْمُ جِسْمًا لَصَحَّ لِلشَّمْسِ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لَكِنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَافِ]. وَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى احْتِجَاجِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الأُلُوهِيَّةِ لِلْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بِكَوْنِ الثَّلاثَةِ جِسْمًا يَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ أَوْصَافِ الْجِسْمِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ جِسْمًا وَلا يَكُونُ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْجِسْمِ كَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ كَتَحَوُّلِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ تَحْلِيلُ مُحَرَّمٍ بِالإِجْمَاعِ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِمَّا لا يَخْفَى عَلَيْهِ كَالزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ.

   الشَّرْحُ أَنَّهُ يَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ حِلَّ مُحَرَّمٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَعْلُومٍ ظَاهِرٍ بَيْنَهُمْ بِالضَّرُورَةِ أَيْ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ وَاسْتِدْلالٍ وَمِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الزِّنَى وَاللِّوَاطُ وَالْقَتْلُ وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّخْصُ مَعْذُورًا أَمَّا إِنْ كَانَ الشَّخْصُ مَعْذُورًا بِأَنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ كَأَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ قَرِيبٍ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُحَرِّمُونَ الزِّنَى وَقَالَ بَعْدَمَا أَسْلَمَ إِنَّ الزِّنَى لَيْسَ حَرَامًا فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نُعَلِّمُهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ تَحْريِمُ حَلالٍ ظَاهِرٍ كَذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ أَيْ جَعَلَ مُوجِبًا لِلْعَذَابِ فِي الآخِرَةِ شَيْئًا هُوَ حَلالٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَعْلُومٌ حِلُّهُ بَيْنَهُمْ عِلْمًا ظَاهِرًا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ أَيِ الزِّوَاجِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّحْريِمِ هُنَا أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ شَىْءٍ مَعَ اعْتِقَادِ حِلِّهِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ حَرَامٌ عَلَيَّ أَكْلُ اللَّحْمِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ عِنْدَئِذٍ .

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ نَفْيُ وُجُوبِ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ سَجْدَةٍ مِنْهَا وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْوُضُوءِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِمَّا يُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ نَفْيَ وُجُوبِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِهِ وَعُلِمَ بِظُهُورٍ وَوُضُوحٍ يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ كَإِنْكَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَإِنْكَارِ سَجْدَةٍ مِنْهَا وَإِنْكَارِ الزَّكَاةِ وَإِنْكَارِ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَإِنْكَارِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ وَإِنْكَارِ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهَذَا رِدَّةٌ وَكُفْرٌ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ إيِجَابُ مَا لَمْ يَجِبْ إِجْمَاعًا كَذَلِكَ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَمْرًا ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَهُوَ كَافِرٌ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ نَفْيُ مَشْرُوعِيَّةِ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنَ الْكُفْرِ الِاعْتِقَادِيِّ النَّفْيَ بِالْقَلْبِ مَشْرُوعِيَّةَ أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مِمَّا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَيْ مَعْرِفَةً ظَاهِرَةً يَشْتَرِكُ فِيهَا الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ كَرَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ وَالْوِتْرِ.

   فَائِدَةٌ الإِجْمَاعُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ فَلا يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّفَاقُ الْعَامَّةِ وَلا الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُجْتَهِدِينَ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ عَلَى فِعْلِ شَىْءٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ عَزَمَ فِي قَلْبِهِ عَلَى أَنْ يَكْفُرَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ عَلَى فِعْلِ شَىْءٍ مِنَ الأُمُورِ الْكُفْرِيَّةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْحَالِ كَذَلِكَ مَنْ تَرَدَّدَ هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوْ لا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْحَالِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا خُطُورُهُ فِي الْبَالِ بِدُونِ إِرَادَةٍ

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ خَطَرَ لَهُ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي بَالِهِ أَيْ قَلْبِهِ خُطُورًا أَيْ بِلا إِرَادَةٍ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَلَوْ تَكَرَّرَ هَذَا الْخَاطِرُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ مَنْعَهُ وَاللَّهُ لا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ إِلَّا مَا هُوَ فِي وُسْعِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ شَىْءٍ فَمَنْ خَطَرَ لَهُ خَاطِرٌ مِمَّا يُنَافِي إِثْبَاتَ وُجُودِ اللَّهِ أَوِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ الْحَقَّ اعْتِقَادًا جَازِمًا فَلا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْخُطُورِ فِي صِحَّةِ إيِمَانِهِ بَلْ يَزْدَادُ ثَوَابًا بِكَرَاهِيَّتِهِ لِهَذَا الَّذِي يَخْطُرُ لَهُ فَالْمُرَادُ بِالْخَاطِرِ غَيْرُ الشَّكِّ وَالِاعْتِقَاِد .

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ بِالْقَلْبِ أَيِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَيْسَ صَاحِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى صُحْبَتِهِ فِي الْقُرْءَانِ فَقَالَ تَعَالَى ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [سُورَةَ التَّوْبَةِ]. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ هُنَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ فَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ وَفَسَّرَ هَذَا الصَّاحِبَ بِغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَخْوِينَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَضْلِيلَهُمْ وَفِي ذَلِكَ هَدْمٌ لِلدِّينِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ رِسَالَةَ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ الْمُجْمَعِ عَلَى رِسَالَتِهِ

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ رِسَالَةَ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ وَالْمُرَادُ بِالرِّسَالَةِ هُنَا مَا يَعُمُّ النُّبُوَّةَ فَمَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ وَاحِدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَقَدِ ارْتَدَّ وَكَفَرَ إِلَّا أَنْ كَانَ لا يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ عِنْدَهُ فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نُعَلِّمُهُ لِأَنَّ هَذَا لا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ إِنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ طَرِيقِ النَّقْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ شَخْصٌ فِي الْقُرْءَانِ أَنَّ هَارُونَ وَإِلْيَاسَ وَالْيَسَعَ أَنْبِيَاءُ ثُمَّ نَسِيَ لِطُولِ عَهْدِهِ بِالْقِرَاءَةِ لِلْقُرْءَانِ فَقَالَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ فَلا يَكْفُرُ. وَأَمَّا مَنِ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ رَسُولٌ أَوْ هُوَ نَبِيٌّ فَقَطْ أَوْ هُوَ وَلِيٌّ فَقَطْ كَالْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَمَنْ قَالَ بِوَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ فِي الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ إِنَّهُ نَبِيٌّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْءَانِ أَوْ زَادَ حَرْفًا فِيهِ مُجْمَعًا عَلَى نَفْيِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْهُ عِنَادًا.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ حَرْفًا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْءَانِ فَقَدِ ارْتَدَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِنْكَارُهُ جَهْلًا مِنْهُ لا عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَكَانَتْ زِيَادَتُهُ لِذَلِكَ الْحَرْفِ عِنَادًا لا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْءَانِ فَهَذَا أَيْضًا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ أَمَّا مَنْ زَادَ حَرْفًا فِي الْقِرَاءَةِ جَهْلًا مِنْهُ أَوْ مِنْ أَجْلِ الصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ قُرْءَانٌ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا أَوْ نَقَّصَهُ أَوْ صَغَّرَ اسْمَهُ بِقَصْدِ تَحْقِيرِهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فَقَدِ ارْتَّدَ وَكَذَلِكَ الَّذِي نَقَّصَهُ أَيْ نَسَبَ إِلَيْهِ نَقْصًا أَوْ صَغَّرَ اسْمَهُ بِقَصْدِ التَّحْقِيرِ وَذَلِكَ كَأَنْ يُسَمِّيَ عِيسَى عُيَيْسَى أَوْ يَقُولَ عَنْ مُوسَى مَوَيْسَى عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ أَمَّا مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ إِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فَلا نُكَفِّرُهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ حَرَامٌ أَنْ تُصَغِّرَ اسْمَ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ جَوَّزَ نُبُوَّةَ أَحَدٍ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ نَبِيٌّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَنْ يَنْزِلَ وَحْيٌّ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى شَخْصٍ لَمْ يُنَبَّأْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ كَفَرَ وَكَذَا لَوْ شَكَّ بِأَنْ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فُلانٌ نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ. وَقَدْ ظَهَرَ جَمَاعَةٌ يُقَالُ لَهَا الأَحْمَدِيَّةُ وَالْقَادِيَانِيَةُ ءَامَنُوا بِرَجُلٍ اسْمُهُ غُلامُ أَحْمَد كَانَ فِي الْهِنْدِ تُوُفِّيَ مُنْذُ نَحْوِ قَرْنٍ وَنِصْفٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُجَدِّدٌ وَأَحْيَانًا يَقُولُونَ نُبُوَّتُهُ نُبُوَّةٌ ظِلِّيَّةٌ أَيْ تَحْتَ ظِلِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لَيْسَ مُسْتَقِّلًا إِنَّمَا هُوَ مُنْتَسِبٌ إِلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُنَبَّأَ شَخْصٌ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا اسْتِقْلالًا وَلا تَجْدِيدًا لِنُبُوَّتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ «وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ (أَيْ تَحْكُمُهُمْ) كُلَّمَا هَلَكَ (أَيْ مَاتَ) نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنِّي خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَلا نَبِيَّ بَعْدِي».  

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْقِسْمُ الثَّانِي الأَفْعَالُ كَسُجُودٍ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ [إِنْ قَصَدَ عِبَادَتَهُمَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْ] وَالسُّجُودِ لإِنْسَانٍ إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ كَسُجُودِ بَعْضِ الْجَهَلَةِ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمُتَصَوَّفِينَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَئِذٍ كُفْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ لا يَكُونُ كُفْرًا لَكِنَّهُ حَرَامٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الْقِسْمَ الثَّانِيَ مِنَ الرِّدَّةِ الرِّدَّةُ الْفِعْلِيَّةُ وَذَلِكَ كَسُجُودٍ لِصَنَمٍ وَهُوَ مَا اتُّخِذَ لِيُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ جَوْهَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ اعْتِقَادًا أَوْ بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ فَقَدْ كَفَرَ كَذَلِكَ الَّذِي يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ عِبَادَتَهَا أَوْ يَسْجُدُ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ ءَاخَرَ لِعِبَادَتِهِ أَمَّا مَنْ يَسْجُدُ لِمَلِكٍ أَوْ نَحْوِهِ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ لا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ فَلا يَكْفُرُ لَكِنْ ذَلِكَ حَرَامٌ فِي شَرْعِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِطْلاقِ وَكَانَ جَائِزًا فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ السُّجُودُ لِلإِنْسَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ وَالتَّعْظِيمِ.

   وَمِنَ الْكُفْرِ الْفِعْلِيِّ إِلْقَاءُ الْمُصْحَفِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا فِيهِ شَىْءٌ مِنَ الْقُرْءَانِ أَوْ رَمْيُ اسْمٍ مُعْظَّمٍ أَيْ كَاسْمِ مُحَمَّدٍ مُرَادًا بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمِ عِيسَى مُرَادًا بِهِ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَوْ مَا فِيهِ شَىْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ أَوْ مِنْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ بِقَاذُورَةٍ أَوْ قَذَرٍ طَاهِرٍ كَمُخَاطٍ أَوْ بُزَاقٍ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ وَمُمَاسَّتُهُ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُفْرٌ أَيْضًا وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ هَذَا الِاسْمُ مِنْ نَحْوِ مُحَمَّدٍ مُرَادًا بِهِ غَيْرُ اسْمِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ إِلْقَاؤُهُ فِي الْقَاذُورَةِ كُفْرًا وَلا حَرَامًا إِلَّا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ فِيهِ امْتِهَانًا لِحُرُوفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ الأَقْوَالُ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا لا تَنْحَصِرُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ أَوْ يَا يَهُودِيُّ أَوْ يَا نَصْرَانِيُّ أَوْ يَا عَديِمَ الدِّينِ مُرِيدًا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ مِنَ الدِّينِ كُفْرٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ لَيْسَ بِدِينٍ لا عَلَى قَصْدِ التَّشْبِيهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الأَلْفَاظَ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ قَالَهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا مَعَانِيَ تِلْكَ الأَلْفَاظِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِ الشَّخْصِ لِمُسْلِمٍ يَعْرِفُهُ مُسْلِمًا يَا كَافِرُ أَوْ يَا نَصْرَانِيُّ أَوْ يَا يَهُودِيُّ أَوْ يَا عَديِمَ الدِّينِ مُرِيدًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى دِينِ الإِسْلامِ فَذَلِكَ رِدَّةٌ تُخْرِجُ قَائِلَهَا مِنَ الدِّينِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الأَرْبَعَ مُتَأَوِّلًا أَيْ أَنَّكَ تُشْبِهُ الْكَافِرَ فِي خَسَاسَةِ أَعْمَالِكِ أَوْ أَنَّكَ تُشْبِهُ الْيَهُودَ أَوِ النَّصَارَى لِسُوءِ عَمَلِكَ أَوْ أَنَّكَ تُعَامِلُ الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّكَ كَافِرٌ أَوْ أَنَّكَ كَمَنْ لا دِينَ لَهُ أَيْ أَنَّكَ لَسْتَ عَامِلًا بِالدِّينِ كَمَا يَنْبَغِي لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْكَامِلَ هُوَ الَّذِي سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ فَلا يَكْفُرُ لَكِنَّ هَذَا حَرَامٌ يَفْسُقُ قَائِلُهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَالسُّخْرِيَّةِ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ مِمَّنْ لا يَخْفَى عَلَيْهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَيِ اسْتَهْزَأَ أَوْ سَخِرَ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ وَمَا أُعِدَّ فِيهَا مَثَلًا أَوْ سَخِرَ بِوَعِيدِ اللَّهِ لِلْكَافِرِينَ وَالْعُصَاةِ بِعَذَابِ الآخِرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ الْوَعْدُ أَوِ الْوَعِيدُ الَّذِي سَخِرَ بِهِ شَيْئًا لَيْسَ خَافِيًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِوُرُودِهِ فِي دِينِ الإِسْلامِ فَقَدْ كَفَرَ وَذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ جَهَنَّمَ نَتَدَفَّأُ بِهَا فِي الآخِرَةِ لِأَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ نَارِ جَهَنَّمَ. وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ أَوْ سَخِرَ بِنَوْعٍ مِنَ الْوَعِيدِ يَجْهَلُ وُرُودَهُ فِي الشَّرْعِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فَلا نُكَفِّرُهُ كَأَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ عَقَارِبَ فِي جَهَنَّمَ.

وَكَذَلِكَ لا يَكْفُرُ مَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ فَأَنْكَرَ جَهَنَّمَ أَيْ مَا كَانَ يَسْمَعُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ بِوُجُودِ جَهَنَّمَ دِينًا لَهُمْ أَمَّا الَّذِي كَانَ يَسْمَعُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ بِوُجُودِ جَهَنَّمَ وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَهَا فَهَذَا يَكْفُرُ.

   تَنْبِيهٌ لَيْسَ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِوَعِيدِ اللَّهِ سَبُّ جَهَنَّمَ لِأَنَّ جَهَنَّمَ لَيْسَتْ مُعَظَّمَةً إِنَّمَا هِيَ شَىْءٌ شَدِيدٌ وَلَوْ كَانَتْ مُعَظَّمَةً مَا كُنَّا نَقُولُ اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنْ جَهَنَّمَ إِنَّهَا خَبِيثَةٌ إِنَّمَا الْكُفْرُ أَنْ يُقَالَ عَنْهَا لَيْسَتْ بِشَىْءٍ أَوْ هِيَ شَىْءٌ خَفِيفٌ. جَهَنَّمُ يُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهَا فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَّمَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ أَنْ يَقُولُوهُ فِي الصَّلاةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَمَّ جَهَنَّمَ بِقَوْلِهِ ﴿وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ وَبِقَوْلِهِ ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاءِ]. فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا وَحَقِّ جَهَنَّمَ لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا شَرَفٌ وَكَلِمَةُ «وَحَقِّ كَذَا» تُشْعِرُ بِشَرَفِ الشَّىْءِ الْمَذْكُورِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَأَنْ يَقُولَ لَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْهُ أَوْ لَوْ صَارَتِ الْقِبْلَةُ فِي جِهَةِ كَذَا مَا صَلَّيْتُ إِلَيْهَا أَوْ لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا مُسْتَخِفًّا أَوْ مُظْهِرًا لِلْعِنَادِ فِي الْكُلِّ.

   الشَّرْحُ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الأَلْفَاظِ يَكْفُرُ إِنْ قَالَهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ أَوْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقِبْلَةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْجَنَّةِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ أَيْ عَدَمِ الِاسْتِسْلامِ لِلَّهِ. وَفِي الْغَالِبِ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِخْفَافِ لَكِنْ قَدْ يَقُولُهَا بَعْضُهُمْ وَلا يَفْهَمُ مِنْهَا الِاسْتِخْفَافَ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا لا بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ وَلا الْعِنَادِ إِنَّمَا يُرِيدُ مَثَلًا لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ أَكُونُ رَاضِيًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ أَدْخُلَهَا فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَكَذَلِكَ مَنْ قِيلَ لَهُ افْعَلْ كَذَا فَقَالَ أَنَا لا أَفْعَلُ لِأَجْلِ قَوْلِ فُلانٍ لِي افْعَلْهُ إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الأَمْرُ وَاجِبًا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ أَنَا مَا كُنْتُ أَفْعَلُهُ يُرِيدُ مِنْ تَقْصِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْفَافٍ وَلا عِنَادٍ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَمَرَهُ شَخْصٌ بِالصَّلاةِ فَقَالَ لَوْ كَانَتِ الْقِبْلَةُ فِي جِهَةِ كَذَا مَا صَلَّيْتُ إِلَيْهَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ كَسَلِهِ لا يُصَلِّي مَهْمَا كَانَ ذَلِكَ سَهْلًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ وَلا الْعِنَادِ وَمَعَ كَوْنِهِ يُحِبُّ أَمْرَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ أَيَّ لَفْظٍ مِنْ هَذِهِ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ اسْتِخْفَافًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ أَوْ عِنَادًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِلا شَكٍّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَأَنْ يَقُولَ لَوْ ءَاخَذَنِي اللَّهُ بِتَرْكِ الصَّلاةِ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمَرَضِ ظَلَمَنِي.

   الشَّرْحُ لَوْ أَنَّ شَخْصًا مَرِيضًا ضَجِرَ مِنْ مَرَضِهِ فَقِيلَ لَهُ صَلِّ لا تَتْرُكِ الصَّلاةَ فَإِنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْكَ فَقَالَ لَوْ ءَاخَذَنِي اللَّهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ لَكَانَ ظَالِمًا كَفَرَ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَكْذِيبًا لِقَوْلِ اللَّهِ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ قَالَ لِفْعِلٍ حَدَثَ هَذَا بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ أَوْ لَوْ شَهِدَ عِنْدِي الأَنْبِيَاءُ أَوِ الْمَلائِكَةُ أَوْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بِكَذَا مَا قَبِلْتُهُمْ أَوْ قَالَ لا أَفْعَلُ كَذَا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً بِقَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ أَوْ لَوْ كَانَ فُلانٌ نَبِيًّا مَا ءَامَنْتُ بِهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِشَخْصٍ «حَدَثَ هَذَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ كُلُّ شَىْءٍ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ» فَقَالَ «أَنَا فَعَلْتُهُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ أَنَا فَعَلْتُهُ وَلَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ تَعَالَى» فَقَدْ كَفَرَ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَالَّذِي هُوَ شَرٌّ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقْدِيرُ اللَّهِ لِلشَّرِّ لَيْسَ شَرًّا إِنَّمَا الشَّرُّ هَذَا الْمُقَدَّرُ وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ لِمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَالْعَبْدُ يُلامُ وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلا يُلامُ لِأَنَّ الْعَبْدَ فَعَلَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ أَمَّا اللَّهُ فَلا ءَامِرَ لَهُ وَلا نَاهِيَ. وَلا يُعْتَرَضُ عَلَى اللَّهِ لِتَقْدِيرِهِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَخَلْقُ اللَّهِ لِلشَّرِّ لَيْسَ شَرًّا قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا فِعْلُ الْقَبِيحِ قَبِيحٌ مِنَ الْعَبْدِ. خَلْقُ اللَّهِ لِلشَّرِّ كَخَلْقِهِ لِلْخَيْرِ إِنَّمَا الْمَقْدُورُ أَيِ الْمَخْلُوقُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَخَلَقَهُ الَّذِي هُوَ شَرٌّ أَيْ مَعْصِيَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ قَبِيحٌ مِنَ الْعَبْدِ فِعْلُهُ. خَلْقُ الْمُتَقَابِلاتِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ فَخَلْقُهُ لِلأَدْوِيَةِ وَالسُّمُومِ الْقَتَّالَةِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنْهُ بَلْ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فَتَقْدِيرُ اللَّهِ لِلشَّرِّ لَيْسَ قَبِيحًا بَلْ حَسَنٌ كَمَا أَنَّ تَقْدِيرَهُ لِعَمَلِ الْخَيْرِ حَسَنٌ.

   وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لَوْ شَهِدَ عِنْدِي الأَنْبِيَاءُ أَوِ الْمَلائِكَةُ أَوْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بِكَذَا مَا قَبِلْتُهُمْ هُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِلا تَفْصِيلٍ.

   وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ لا أَفْعَلُ كَذَا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ بِالسُّنَّةِ بَلْ يَقْصِدُ أَنَّهُ لا يَفْعَلُ لِأَجْلِ قَوْلِ شَخْصٍ لَهُ افْعَلْ كَذَا أَيْ أَنَّهُ لا يُنَفِّذُ أَمْرَ هَذَا الشَّخْصِ فَلا يَكْفُرُ كَمَا لَوْ قِيلَ لِشَخْصٍ لِمَ تَتْرُكُ رَوَاتِبَ الْفَرَائِضِ وَلا تُصَلِّيهَا وَتَقْتَصِرُ عَلَى الْفَرَائِضِ فَقَالَ لا أُصَلِّيهَا وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ الِاسْتِخْفَافَ بِهَا فَلا يَكْفُرُ كَمَا تَقَدَّمَ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ.

   وَيَكْفُرُ مَنْ قَالَ «لَوْ كَانَ فُلانٌ نَبِيًّا مَا ءَامَنْتُ بِهِ» لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ أَعْطَاهُ عَالِمٌ فَتْوَى فَقَالَ أَيْشٍ هَذَا الشَّرْعُ مُرِيدًا الِاسْتِخْفَافَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَفَرَ أَمَّا مَنْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ إِنَّمَا قَصَدَ الإِنْكَارَ عَلَى هَذَا الْمُفْتِي الَّذِي أَفْتَى فَتْوًى بَاطِلَةً لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِشَرْعِ اللَّهِ فِي فَتْوَاهُ فَقَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِكَلامِ هَذَا الْمُفْتِيِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ أَيْشٍ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُهُ شَرْعًا وَلَيْسَ بِشَرْعٍ فَلا يَكْفُرُ وَبَاطِنُ كَلامِهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ شَرْعَ اللَّهِ إِنَّمَا رَأْيُكَ يَا أَيُّهَا الْمُفْتِيُّ. وَكَلِمَةُ أَيْشٍ أَصْلُهَا أَيُّ شَىْءٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ قَالَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ مُرِيدًا الِاسْتِغْرَاقَ الشَّامِلَ أَمَّا مَنْ لَمْ يُرِدِ الِاسْتِغْرَاقَ الشَّامِلَ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ بَلْ أَرَادَ لَعْنَ عُلَمَاءَ مَخْصُوصِينَ وَكَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا يَظُنُّ بِهِمْ مِنْ فَسَادِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَإِنْ كَانَ كَلامُهُ لا يَخْلُو مِنَ الْمَعْصِيَةِ.

   الشَّرْحُ كَلِمَةُ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ رِدَّةٌ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الشُّمُولُ وَالِاسْتِغْرَاقُ لِكُلِّ الْعُلَمَاءِ وَالِاسْتِغْرَاقُ مَعْنَاهُ التَّعْمِيمُ أَمَّا مَنْ لَمْ يُرِدِ الِاسْتِغْرَاقَ الشَّامِلَ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ بَلْ أَرَادَ لَعْنَ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ أَوْ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لا يَعْلَمُ فِيهِمْ خَيْرًا وَكَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ كَمَا لَوْ قَالَ «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ فِي هَذَا الزَّمَنِ» لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُمْ فَاسِدِينَ وَإِنْ كَانَ كَلامُهُ لا يَخْلُو مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَالَّذِي يَقُولُ «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ» مَعَ وُجُودِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ الشُّمُولَ كَأَنْ كَانَ ذَكَرَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ عُلَمَاءَ فَاسِدِينَ فَقَالَ «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ» فَيُحْمَلُ كَلامُهُ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ يَكُونُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَلا يَكْفُرُ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ الِاسْتِغْرَاقَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَالْقَصْدُ وَحْدَهُ عِنْدَئِذٍ بِلا قَرِينَةٍ لا يَدْفَعُ عَنْهُ التَّكْفِيرَ وَالَّذِي لا يُكَفِّرُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ يَكْفُرُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنَ الْمَلائِكَةِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَوْ مِنَ الإِسْلامِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَكْفُرُ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ لِأَنَّ الْغَضَبَ لَيْسَ عُذْرًا كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنْ مَنْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنَ النَّبِيِّ إِذَا قَالَ أَنَا أَرَدْتُ الأَرْضَ الْمُرْتَفِعَةَ مَا أَرَدْتُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا لا يَكْفُرُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا يَقُولُ.

   وَالشَّرِيعَةُ هِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِلأَنْبِيَاءِ وَهِيَ الأَحْكَامُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْوَحْيِ، وَأَمَّا الدِّينُ فَهُوَ الْعَقِيدَةُ ، وَدِينُ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ هُوَ الإِسْلامُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ قَالَ لا أَعْرِفُ الْحُكْمَ مُسْتَهْزِئًا بِحُكْمِ اللَّهِ.

   الشَّرْحُ :أَنَّ مَنْ قَالَ لا أَعْرِفُ الْحُكْمَ بَعْدَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ قَاضٍ شَرْعِيٌّ مَثَلًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَكَانَ قَصْدُهُ الِاسْتِخْفَافَ بِالشَّرْعِ وَأَنَّهُ لا يَعْتَبِرُ هَذَا الْحُكْمَ فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ قَالَ وَقَدْ مَلأَ وِعَاءً ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ [سُورَةَ النَّبَأ].

   الشَّرْحُ :أَنَّ مَنْ قَالَ وَهُوَ يَمْلاُ وِعَاءً شَرَابًا ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْكَأْسِ الْمُمْتَلِىءِ شَرَابًا هَنِيئًا فَقَدْ كَفَرَ كَأَنْ يَعْنِيَ بِكَلامِهِ أَنَّ ذَاكَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مِثْلُ هَذَا الَّذِي أَنَا أَمْلَؤُهُ. وَمَعْنَى ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ أَيْ كَأْسًا مُمْتَلِئَةً بِالشَّرَابِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ أَفْرَغَ شَرَابًا فَقَالَ ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ [سُورَةَ النَّبَأ].

   الشَّرْحُ :أَنَّ مَنْ أَفْرَغَ شَرَابًا كَأَنْ كَانَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ حَوَّلَهُ إِلَى إِنَاءٍ ءَاخَرَ فَقَالَ ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ اسْتِخْفَافًا بِالآيَةِ كَفَرَ. وَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا أَنَّ الْجِبَالَ حِينَ تُسَيَّرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكُونُ كَالسَّرَابِ مَعْنَاهُ تَمُرُّ مُرُورًا سَرِيعًا كَمَا أَنَّ السَّرَابَ كُلَّمَا اقْتَرَبْتَ مِنْهُ يَبْعُدُ فَمَنْ أَوْرَدَ هَذِهِ الآيَةَ عِنْدَ إِفْرَاغِ الشَّرَابِ وَقَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَهُ شَأْنٌ يَكْفُرُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ عِنْدَ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [سُورَةَ الْمُطَفِّفِينَ].

   الشَّرْحُ :أَنَّ مَنْ قَالَ عِنْدَمَا يَزِنُ شَيْئًا أَوْ يَكِيلُ شَيْئًا ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِمَعْنَى الآيَةِ كَفَرَ. وَهَذِهِ الآيَةُ مَعْنَاهَا ذَمٌّ لِلَّذِينَ إِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ يَنْقُصُونَ عَلَيْهِمْ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ عِنْدَ رُؤْيَةِ جَمْعٍ ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِّنْهُمْ أَحَدًا﴾ [سُورَةَ الْكَهْفِ].

   الشَّرْحُ :أَنَّ الَّذِي يَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَةِ جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٍ ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِّنْهُمْ أَحَدًا﴾ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقَدْ كَفَرَ. وَهَذِهِ الآيَةُ وَرَدَتْ فِي حَشْرِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَلا يُتْرَكُ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَيْ يُحْشَرُونَ كُلُّهُمْ بِلا اسْتِثْنَاءٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ فِي الْكُلِّ بِمَعْنَى هَذِهِ الآيَاتِ وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ فَلا يَكْفُرُ لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ لا تَبْعُدُ حُرْمَتُهُ.

   الشَّرْحُ :يَقُولُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ إِيرَادُ الآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ لا يَبْعُدُ أَنْ نَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ أَيْ هُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ إِسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَ الْقُرْءَانِ فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ فَهُوَ كُفْرٌ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا أَوْ قَالَ أَكُونُ قَوَّادًا إِنْ صَلَّيْتُ أَوْ مَا أَصَبْتُ خَيْرًا مُنْذُ صَلَّيْتُ أَوِ الصَّلاةُ لا تَصْلُحُ لِي بِقَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ.

   الشَّرْحُ :أَنَّ مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ وَلا فَرْقَ فِي سَبِّ الْمَلَكِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَلَكُ جِبْرِيلَ أَوْ عَزْرَائِيلَ أَوْ غَيْرَهُمَا. وَمِثْلَهُ الَّذِي يَقُولُ أَكُونُ قَوَّادًا إِنْ صَلَّيْتُ فَإِنَّهُ اسْتَهْزَأَ بِالصَّلاةِ وَاسْتَخَفَّ بِهَا وَلِذَلِكَ يَكْفُرُ، وَالْقَوَّادُ هُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الزَّبَائِنَ لِلزَّانِيَاتِ. وَكَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ مَا أَصَبْتُ خَيْرًا مُنْذُ صَلَّيْتُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْعَوَامِّ صُمْ وَصَلِّ تَرْكَبُكَ الْقِلَّةُ. وَكَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ الصَّلاةُ لا تَصْلُحُ لِي بِقَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ. أَمَّا لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ حَائِضٌ الصَّلاةُ لا تَصْلُحُ لِي وَقَصْدُهَا أَنَّهُ لا تَجُوزُ لَهَا الصَّلاةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ رِدَّةً وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ إِنْسَانٌ مُبْتَلًى بِسَلَسِ الْبَوْلِ جَاهِلٌ لا يَعْرِفُ أَحْكَامَ السَّلَسِ يَظُنُّ أَنَّهُ لا يُصَلِّي فِي حُكْمِ الشَّرْعِ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ السَّلَسُ فَلا نُكَفِّرُهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ قَالَ لِمُسْلِمٍ أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ نَبِيِّكَ أَوْ لِشَرِيفٍ أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ جَدِّكَ مُرِيدًا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَقُولَ شَيْئًا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأَلْفَاظِ الْبَشِعَةِ الشَّنِيعَةِ.

   الشَّرْحُ :أَنَّ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ الْمُثْبِتَةِ لِلرِّدَّةِ أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لِمُسْلِمٍ أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ نَبِيِّكَ وَالِاسْتِخْفَافُ فِي هَذَا ظَاهِرٌ فَلِذَلِكَ يُكَفَّرُ قَائِلُهُ. وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي بِكُفْرِ مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ سُحْنُون الْمَالِكِيُّ «مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَعَذَابِهِ كَفَرَ» فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي سَابِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ فِي سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ الَّذِي قَالَ لِشَرِيفٍ أَيْ لإِنْسَانٍ حَسَنِيٍّ أَوْ حُسَيْنِيٍّ أَيْ مَنْسُوبٍ إِلَى الْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا سِبْطَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيِ ابْنَا بِنْتِهِ فَاطِمَةَ أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ جَدِّكَ هَذَا إِذَا أَرَادَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ جَدِّكَ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا كُفْرًا أَمَّا إِذَا أَرَادَ جَدًّا لَهُ أَدْنَى وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا نُكَفِّرُهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالنَّبِيِّ أَوْ إِلْحَاقِ نَقْصٍ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَوْ بِاللَّهِ كَالأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ الأَزَلِيَّةِ كَأَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ شَاءَ فِي الأَزَلِ حُدُوثَ شَىْءٍ ثُمَّ غَيَّرَ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ وَكَأَنَّ يَعْتَقِدَ بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ كَذَا ثُمَّ عَلِمَهُ عَلَى خِلافِ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ فَمِنَ الأَلْفَاظِ الْكُفْرِيَّةِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ فُلانَةَ ذَكَرًا ثُمَّ خَلَقَهَا أُنْثَى وَعَكْسُهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ نِسْبَةَ الْجَهْلِ إِلَى اللَّهِ وَنِسْبَةَ تَغَيُّرِ الْمَشِيئَةِ الأَزَلِيَّةِ وَاللَّهُ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ عَلامَةُ الْحُدُوثِ وَالْحُدُوثُ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ. وَمَا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ مِنَ النُّصُوصِ خِلافَ ذَلِكَ هُوَ مُتَأَوَّلٌ لا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ الظَّاهِرُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِيِّ بَدْرِ الرَّشِيدِ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ الْمَالِكِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَيَنْبَغِي الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعُ فِيهِ.

   الشَّرْحُ :أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ مِنْ شَافِعِيِّينَ وَمَالِكِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ ذَكَرُوا كَثِيرًا مِمَّا هُوَ رِدَّةٌ وَأَكْثَرُهُمْ تَعْدَادًا الْحَنَفِيَّةُ. أَمَّا بَدْرُ الرَّشِيدِ فَهُوَ فَقِيهٌ حَنَفِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِيِّ أَلَّفَ رِسَالَةً فِي أَلْفَاظِ الْكُفْرِ وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَهُوَ مَالِكِيٌّ تُوُفِّيَ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ. كُلٌ مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ أَلَّفَ بَعْضُ فُقَهَائِهِ رَسَائِلَ فِي بَيَانِ الْكُفْرِيَّاتِ لِأَنَّهُ كَانَ ظَهَرَ فِي عُصُورِهِمْ كَلِمَاتٌ بَيْنَ النَّاسِ هِيَ كُفْرٌ فَأَرَادُوا إِنْقَاذَ النَّاسِ مِنْ خَطَرِهَا فَأَلَّفُوا تِلْكَ الرَّسَائِلَ وَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِنْقَاذًا لِمَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الإِيْمَانِ وَتَحْذِيرًا لِمَنْ لَمْ يَقَعْ فِيهَا حَتَّى لا يَقَعْ فِيهَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِاللَّهِ أَوْ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوْ مَلائِكَتِهِ أَوْ شَعَائِرِهِ أَوْ مَعَالِمِ دِينِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ كُفْرٌ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ.

   الشَّرْحُ :أَنَّ مَا كَانَ دَالًّا عَلَى الِاسْتِخْفَافِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِاللَّهِ وَأُمُورِ الدِّينِ هُوَ كُفْرٌ أَمَّا مَا كَانَ فِيهِ إِخْلالٌ بِالتَّعْظِيمِ وَالأَدَبِ مِمَّا هُوَ دُونَ الِاسْتِخْفَافِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءِ.

   وَالْعَقْدُ مَعْنَاهُ الِاعْتِقَادُ. وَالْمَعَالِمُ جَمْعُ مَعْلَمٍ وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَالْمَعْلَمُ بِمَعْنَى الشَّعِيرَةِ وَهُوَ مَا كَانَ مَشْهُورًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالأذَانِ وَالْمَسَاجِدِ وَعِيدِ الأَضْحَى وَعِيدِ الْفِطْرِ، كُلُّ ذَلِكَ يُسَمَّى شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَمَعْلَمًا مِنْ مَعَالِمِهِ.

   وَقَالَ الْفُقَهَاءُ يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ الْقَوْلِيِّ حَالَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ أَيْ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّخْصُ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ بَلْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ قَوْلَهُ بِالْمَرَّةِ، وَحَالَةُ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ أَيْ عَدَمِ صَحْوِ الْعَقْلِ، وَحَالَةُ الإِكْرَاهِ فَمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيْمَانِ غَيْرَ شَارِحٍ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ فَلا يَكْفُرُ، وَحَالَةُ الْحِكَايَةِ لِكُفْرِ الْغَيْرِ فَلا يَكْفُرُ الْحَاكِي كُفْرَ غَيْرِهِ. ثُمَّ الْحِكَايَةُ الْمَانِعَةُ لِكُفْرِ حَاكِي الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ الَّتِي يَحْكِيهَا عَمَّنْ كَفَرَ أَوْ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْكَلِمَةَ عَقِبَهَا أَيْ وَكَانَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَدَاةَ الْحِكَايَةِ مِنَ الِابْتِدَاءِ فَلَوْ قَالَ اللَّهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ قَوْلُ الْمُجَسِّمَةِ أَوْ قَالَتْهُ الْمِجَسِّمَةُ فَهِيَ حِكَايَةٌ مَانِعَةٌ لِلْكُفْرِ عَنِ الْحَاكِي. وَإِنْ قُدِّمَتْ أَدَاةُ الْحِكَايَةِ لِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَهِيَ أَحْسَنُ.

وَتُسْتَثْنَى حَالَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُتَأَوِّلًا بِاجْتِهَادِهِ فِي فَهْمِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ الْمُتَأَوِّلُ أَيْ فِي غَيْرِ الْقَطْعِيَّاتِ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ صَلاتَهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ كَانَتْ سَكَنًا لَهُمْ وَطُهْرَةً وَأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ لِذَلِكَ. وَلَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ لِأَنَّ التَّأَوُّلَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ عَنْ صَاحِبِهِ وَإِلَّا لِلَزِمَ تَرْكُ تَكْفِيرِ الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ عَلَى حَسَبِ زَعْمِهِمِ اجْتَهَدُوا فَالَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ يُعْذَرُ مَهْمَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فَقَدْ كَذَّبَ الشَّرِيعَةَ.

   وَمَعْنَى «فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ» أَيْ لِيَعْمَلِ الإِنْسَانُ عَلَى تَجَنُّبِ ذَلِكَ كُلِّهِ غَايَةَ مُسْتَطَاعِهِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ.

   الشَّرْحُ :أَنَّ هَذَا فَصْلٌ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي الرِّدَّةِ الْعَوْدُ فَوْرًا إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالإِقْلاعِ عَمَّا وَقَعَتْ بِهِ الرِّدَّةُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ النَّدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ لِمِثْلِهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لِمَنْ وَقَعَ فِي رِدَّةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِ مَا هُوَ سَبَبُ الرِّدَّةِ أَيِ الأَمْرِ الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ الرِّدَّةُ. وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى الإِسْلامِ أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلا يَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى أَنْ يَعُودَ إِلَى الْكُفْرِ أَوْ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ لَمْ تَنْفَعْهُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُفْرٌ فِي الْحَالِ. فَلَوْ لَمْ يَنْوِ الرُّجُوعَ إِلَى الْكُفْرِ وَلا تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرِ النَّدَمَ إِنَّمَا تَرَكَ الشَّىْءَ الَّذِي هُوَ رِدَّةٌ وَتَشَهَّدَ صَحَّ إِسْلامُهُ لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْدَمَ لِأَنَّ شَأْنَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ الإِقْلاعُ عَنْهَا وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ كُفْرِهِ بِالشَّهَادَةِ وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ وَلا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الإِسْلامُ أَوِ الْقَتْلُ بِهِ يُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ. وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ عَلَى اعْتِرَافِهِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ وَلَمْ يُتْبِعْهَا بِالتَّوْبَةِ أَيْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رِدَّتِهِ وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ أَيْ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ فَيَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أَيِ الْخَلِيفَةِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ ثُمَّ لا يَقْبَلُ مِنْهُ الإِمَامُ إِلَّا الإِسْلامَ فَإِنْ أَسْلَمَ تَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَإِلَّا قَتَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ فَاقْتُلُوهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ. وَلا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ وَمَنْ قَتَلَهُ قَبْلَهَا فَعَلَيْهِ ذَنْبٌ لَكِنَّهُ لا يُقْتَصُّ مِنْهُ أَيْ لا يُقْتَلُ بِهَذَا الْمُرْتَدِّ. وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُرْتَدِّ بِالرِّدَّةِ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ هُوَ بِأَنَّهُ قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ أَوْ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفْرِ وَإِمَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ رَجُلانِ عَدْلانِ فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لا يُحْكَمُ عَلَى الشَّخْصِ بِالرِّدَّةِ لِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ عَدْلًا وَكَذَلِكَ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِذَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتَانِ

   وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ يَكُونُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ كَالنَّوَوِيِّ فِي «رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ» وَالْبُهُوتِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي «كَشَّافِ الْقِنَاعِ» وَغَيْرِهِمَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَبْطُلُ بِهَا صَوْمُهُ وَتَيَمُّمُهُ وَنِكَاحُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِسْلامِ فِي الْعِدَّةِ وَلا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَغَيْرِهَا.

   الشَّرْحُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ مِنَ الأَحْكَامِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الصِّيَامَ وَالتَّيَمُّمَ أَمَّا الْوُضُوءُ فَلا يَنْتَقِضُ بِالرِّدَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَهُ بَطَلَ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ فَالرِّدَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقْطَعُ النِّكَاحَ وَلا تَحِلُّ لَهُ وَلَوْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ أَوْ عَادَتْ هِيَ إِلَى الإِسْلامِ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلا يَجُوزُ لَهُمَا الِاسْتِمْرَارُ فِي الْمُعَاشَرَةِ كَالزَّوْجَيْنِ بَلْ يَكُونُ نِكَاحُهُمَا مَوْقُوفًا وَيَبْدَأُ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ وَقْتُ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ وَهِيَ ثَلاثَةُ أَطْهَارٍ لِذَوَاتِ الْحَيْضِ وَثَلاثَةُ أَشْهُرٍ لِمَنْ لا تَحِيضُ وَلِلْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا تَبَيَّنَ بَقَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِلا تَجْدِيدٍ وَإِنِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ عَوْدِ الَّذِي ارْتَدَّ مِنْهُمَا إِلَى الإِسْلامِ تَبَيَّنَ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ وَلا يَعُودُ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ لِمُرْتَدٍّ لا عَلَى مُرْتَدَّةٍ مِثْلِهِ وَلا عَلَى مُسْلِمَةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ وَثَنِيَّةٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ وَلا يَرِثُ وَلا يُورِثُ وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلا يُغَسَّلُ وَلا يُكَفَّنُ وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُهُ فَىْءٌ أَيْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ تَمَكَّنَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ.

   الشَّرْحُ :أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ تَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ فَلَوْ ذَبَحَ ذَبِيحَةً فَهِيَ مَيْتَةٌ يَحْرُمُ أَكْلُهَا. وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يَرِثُ أَيْ لا يَرِثُ قَرِيبَهُ الْمُسْلِمَ إِذَا مَاتَ بِالإِجْمَاعِ وَلا يُورَثُ أَيْ لا يَرِثُهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ إِذَا مَاتَ هَذَا الْمُرْتَدُّ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ وَلا يُغَسَّلُ أَيْ لا يَجِبُ غَسْلُهُ فَلَوْ غُسِّلَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ. وَلا يُكَفَّنُ فَلَوْ كُفِّنَ لَمْ يَحْرُمْ. وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ فَمَنْ دَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَثِمَ. وَمِنْهَا أَنَّ مَالَهُ فَىْءٌ أَيْ أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَىْءٌ يَكُونُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ قَالَ الْفُقَهَاءُ أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ مُسْتَقِيمٌ فَيَتَوَلَّى رَجُلٌ صَالِحٌ صَرْفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَثْبُتُ الرِّدَّةُ إِمَّا بِالِاعْتِرَافِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ أَيْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَمَّا إِذَا شَهِدَ وَاحِدٌ فَقَطْ فَلا تُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا فَصْلٌ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَدَاءُ جَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.

   الشَّرْحُ قَالَ الْعُلَمَاءُ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ أَدَاءَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَيْ أَوَّلَ مَا يَبْلُغُ يَنْوِي فِي قَلْبِهِ يَقُولُ أَعْمَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيَّ فَأُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَأَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ وَيَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ.

   الشَّرْحُ يَجِبُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ تُفْعَلَ هَذِهِ الْفَرَائِضُ مِنْ تَطْبِيقِ الأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ.

وَقَوْلُهُ «وَيَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ» يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْفَرَائِضَ حَتَّى يَجْتَنِبَهَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرُ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْهَا أَوْ يَأْتِي بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا بِالإِتْيَانِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا.

   الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ بِأَدَائِهَا وَيَأْمُرَ مَنْ رَءَاهُ يَأْتِي بِشَىْءٍ مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ هَذَا إِنْ كَانَ يُخِلُّ بِفَرْضٍ أَوْ يَأْتِي بِمُبْطِلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الأَئِمَّةِ أَمَّا مَنْ رَءَاهُ يُخِلُّ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ فَرْضًا أَوْ مُبْطِلًا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَهْرُهُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.

   الشَّرْحُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ إِنْسَانًا لا يُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ صَحِيحَةً أَوْ يَتْرُكُهَا بِالْمَرَّةِ وَكَانَ لا يَمْتَثِلُ إِلَّا بِالْقَهْرِ يَجِبُ أَنْ يَقْهَرَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْ أَنْ يُرْغِمَهُ إِنِ اسْتَطَاع.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ بِقَلْبِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقَهْرِ وَالأَمْرِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ أَيْ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ عِنْدَ الْعَجْزِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْهَرَ أَوْ أَنْ يَأْمُرَ الشَّخْصَ الَّذِي يَتْرُكُ بَعْضَ الْفَرَائِضِ أَوْ يَأْتِي بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي صَلاةً فَاسِدَةً أَوْ يَصُومُ صِيَامًا فَاسِدًا أَوْ يَحُجُّ حَجًّا فَاسِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ أَيِ الْكَرَاهِيَةُ لِفِعْلِ هَذَا الإِنْسَانِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ بِقَلْبِهِ فَإِنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ سَلِمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا أَضْعَفُ الإِيْمَانِ أَيْ أَقَلُّهُ ثَمَرَةً. وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَدِيثِ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِرْهُ بِيَدِهِ» إِلَى ءَاخِرِه الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ لا خُصُوصُ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ. أَمَّا إِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الإِنْكَارَ بِالْيَدِ أَوِ الْقَوْلِ فَلا يَكْفِيهِ الإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ فَهَذِهِ الْكَرَاهِيَةُ لا تُخَلِّصُهُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالسَّالِمُ مَنْ أَنْكَرَ إِنِ اسْتَطَاعَ بِيَدِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ تَرْكُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَهيُ مُرْتَكِبِهَا وَمَنْعُهُ قَهْرًا مِنْهَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُنْكَرَاتُ نَحْوَ ءَالاتِ الطَّرَبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ فَبِتَكْسِيرِهَا لِمَنِ اسْتَطَاعَ وَإِنْ كَانَتْ خُمُورًا فَبِإِرَاقَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ لا يُؤَدِّيَ فِعْلُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا فَلا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الْفَسَادِ إِلَى الأَفْسَدِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ».

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحَرَامُ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ مُرْتِكِبَهُ بِالْعِقَابِ وَوَعَدَ تَارِكَهُ بِالثَّوَابِ وَعَكْسُهُ الْوَاجِبُ.

   الشَّرْحُ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْحَرَامِ وَالْوَاجِبِ أَيْ أَنَّ الْحَرَامَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَجْتَنِبُوهُ مَعْنَاهُ مَا فِي ارْتِكَابِهِ عِقَابٌ فِي الآخِرَةِ وَفِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ، وَالْوَاجِبُ بِمَعْنَى الْفَرْضِ مَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ وَفِي تَرْكِهِ عِقَابٌ.