الدرس الحادي والثلاثون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى وهو في بيان حال التقيّ عند الموت وبعده.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد فإن في أثناء حديث للرسول صلى الله عليه وسلم تأكيدًا بليغًا للعناية بتعلم أمور الدين فإن علم الدين لا يستغنى عنه إنسان وأهميته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عن الله يكره كل جعظري جواظ سخاب بالأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عارف بأمر الدنيا جاهر بأمر الآخرة»([i]). اهـ.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم ذم الإنسان الذي يكون عارفًا بأمر الدنيا ويكون جاهلًا بأمر الآخرة، رسول الله صلى الله عليه وسلم ذم من هذا حاله أي عارفًا بأمر الدنيا جاهلًا بأمر الآخرة وكفى ذلك نقصانًا فإن الإنسان في هذه الحياة الدنيا كمسافر يقصد الذهاب إلى وطنه ويكونُ فيما بينه وبين وطنه مسافاتٌ ومراحلُ ومنازلُ ينزل فيها منزلةً بعد منزلة، فشأن المسافر الذي يكون قاصدًا وطنه أن يكون بينه وبين وطنه مراحل ينزل في هذه المرحلة ثم ينتقل من هذه المرحلة إلى التي تليها حتى يصل إلى وطنه، كذلك الإنسان في هذه الحياة الدنيا كإنسان مسافر يكون مستقره في وطنه بعد أن يصل إليه. والإنسان الذي يكون مسافرًا إذا كان عاقلًا ينبغي أن يكون هَمُّه تهيئة مصالحه إذا وصل إلى وطنه أما ما دون الوصول إلى وطنه فلا يهمه، هَمُّه أن يصل إلى وطنه سالمًا وأن يقطع هذه المراحل بسلمة، كذلك العاقل همه في هذه الدنيا أن يُهَيّئَ زاده فيعتبرَ هذه الدنيا أي هذا العمر الذي يقضيه في الدنيا كهذه المنازل التي ينزل فيها ثم يرحل عنها إلى أن يصل إلى وطنه لذلك قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في غنًى بعده النار ولا فقرَ بفقرٍ بعده الجنة يعني العاقل همه في الدنيا أن يخرج منها سالمًا في دينه مُهَيِّئًا لآخرته مصالحَها فإن الذي يكون له في هذه الدنيا غنى يتمتع به في أنواع نعيم الدنيا ثم يكون مآله النكدَ في قبره ثم في ءاخرته فإن هذا النعيم الذي يتقلب فيه في الحياة الدنيا كلا شيء. وقال عليّ بن أبي طالب رَضِيَ الله عنه فيما رواه البخاريّ عنه في الصحيح ارتحلت الدنيا وهي مدبرة وارتحلت الآخرة وهي مقبلة فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا اليوم العمل وغدًا الحساب. اهـ.
فليعلم الإنسان أن هذه الجوارح التي أنعم الله بها عليه من لسانٍ وسمعٍ وبصرٍ ورجلٍ وغير ذلك نِعَمٌ أنعم الله بها عليه ثم يُسأل عنها في الآخرة فإن شكر الله تعالى بها أي بأن عمل بهذه النعم كلها ما يُرضي الله تعالى وحفظ نفسه من أن يستعمل هذه النعم فيما حرم الله كان له فوز كبير في ءاخرته، وهذا الإنسان المؤمن الذي استعمل هذه الجوارح فيما يُرضِي الله تعالى وصانها وحفظها مما حرم الله تعالى، الإنسانُ المؤمن التقِيُّ أي الذي يُؤَدّى الواجبات ويجتنب المحرمات يكون خروجه من هذه الدنيا كإنسان كان في قلٍّ وجدبٍ وقحطٍ ومجاعةٍ وفي سجنٍ ثم في موته صار طليقًا من الحبس وصار في رخاءٍ فارق المجاعة والـمَحْلَ.
ومن جملة الواجبات معرفة ما فرض الله فمن عرف ذلك وأدّى ما أوجب الله واجتنب ما حرم الله يحبّب الله إليه الموت قبل خروجه من الدنيا لما يرى مما أعد الله له بعد موته من الراحة، كان يكره الموت لكنه لما بُشِّرَ برحمة الله تعالى ورضوانه على لسان ملك الرحمة، وملائكةُ الرحمة جمع كثير يأتون إلى هذا المؤمن وهو على فراش موته ليُبَشّروهُ فيزول عنه كراهية الموت أي حتى يخرج من الدنيا وهو قد زال عنه الخوف من الموت كراهية الموت وصار الذهاب إلى القبر إلى هذا البرزخ يطمئن إليه قلب هذا العبد المؤمن فعندئذٍ يحبُّ الموت الذي كان يكرهه لأنه حين يبشره ملك الرحمة برحمة الله ورضوانه ثم يبشره بعده ملك الموت عزرائيل زال عنه كلُّ ما كان يجده في نفسه من كراهية لأنه علم أنه ليس عليه نكد في قبره، هؤلاء ملائكة الرحمة الله تبارك وتعالى جعل فيهم للمؤمن طمأنينة بال، لَمَّا يبشره هؤلاء ينقلب حالهن الإنسانُ لو كان تقيًّا يكره الموت من حيث الطبيعة من حيث طبيعته يكره الموت لكنه لما يبشره هؤلاء الملائكة ملائكة الرحمة وهم عباد الله المكرمون عباد الله أحباب الله المكرمون، عنده ينقلب حال هذا المؤمن من كراهية الموت إلى محبة الموت فسبحان القدير على كل شيء المتصرف في قلوب عباده يقلب القلوب كيف يشاء. ثم بعد ذلك تُقبض الروح ثم يَرَى من تعظيم الملائكة له ما يزيده سرورًا فإن ملائكة الرحمة يستلمون روحه من يد عزرائيل فيذهبون به إلى السماء وبين الأرض والسماء أفواج من الملائكة فيعرفون أن هذا العبد المؤمن من عباد الله الصالحين يجعل الله تبارك وتعالى لهذا الروح الطيب المؤمن رائحةً زكية كأزكى رائحة مسك فيقولون من فرحهم به ما هذا الروح فيقال لهم فلان بن فلان حتى ينتهوا إلى السماء الأُولى فيفتح له باب السماء ثم يشيعه من هذه السماء المقربون من ملائكتها إلى السماء التي فوقها وهكذا حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة ثم يؤمرون بأن يكتبوا كتابه في عليين وهو ديوان السعداء وبأن يردوه إلى الأرض وبأن يفتحوا له بابًا من قبره إلى الجنة، ثم يردونه إلى الأرض ثم يسير مع الجسد حين يحمل للدفن فيقول من شدة فرحه قدّموني قدّموني هذا لأنه يشتاق يصير في شوقٍ إلى هذا القبرِ ثم إذا دفن أعيد الروح إلى الجسد فيعود إليه عقله كهيئته قبل أن يموت، هذا الجسد يعود إليه الروح ويعود إليه عقله كهيئته قبل أن يموت ويعرض عليه مقعده في الجنة أول النهار وآخر النهار وهكذا يظل في القبر محفوظًا من الوحشة لا تسلط عليه وحشة ولا ظلمة بل ينور له قبره بنور كنور القمر ليلة البدر ويوسع عليه هذا القبر سبعين ذراعًا أي بذراع اليد وهي من الإصبع إلى المرفق حتى يبلى جسده، يظل في هذا النعيم من دون أدنى نكد لا يحس بوحشة ولا بظلمة ولا بضيق ولا بهامة من هوام الأرض لا نمل ولا ما هو أشد من ذلك ويظل محفوظًا ناعم البال أشدَّ راحة من راحته حين كان على وجه الأرض في بيته بين أهله ثم لَمَّا يأكل التراب جسده ولا يبقى من جسده إلا عجب الذنب أي العظم الذي كهيئة حبة خردل تعود الروح إلى الجنة ويكون طيرًا يأكل من ثمار الجنة إلى أن تقوم القيامة ويعيد الله جسده ولا يفارق الروح الجسد بعد ذلك أبد الآبدين هذا ما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وحديث أبي هريرة رضي الله عنه وكلا الحديثين صحيح.
انتهى والله تعالى أعلم.