الأحد ديسمبر 22, 2024

 

بيان نعم الله الظاهرة والباطنة وأن العمل
الصالح لا يقبل إلا من المؤمن إن وافق
عمله الشرع وخلصت نيته لله

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي أواخر القرن الرابع عشر من الهجرة، أي: فِي السبعينات من سِني القرن العشرين الرومية. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد له ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى ءاله الطيبين.

أمَّا بعدُ: فإن الله تبارك وتعالى قال: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان: 20] اللهُ تبارك وتعالى أنعم على عباده نعمتين ظاهرة وباطنة فمن النعم الظاهرة صحة الجسد من الحواس الخمس وغيرِها فسلامة الجسد نعمة كبيرة يجب على العباد أن يشكروا الله تعالى عليها. والثانية: هي نعمة باطنة وهي الإيمان بالله وما يتبع ذلك من التسليم لله تعالى ومحبته والشوق إليه ومحبة أوليائه، والعلمُ الذي محله القلب مع صحة الدماغ فالعلم يتوقف على أمرين؛ صحة القلب والدماغ فهما كنور الشمس مع العين؛ لأن العين من حيث الرؤية والنظر تحتاج إلى النور والانتفاع به يتوقف على صحة العين فكذلك القلب والدماغ. وأعظم هاتين النعمتين هي النعمة الباطنة التي هي الإيمان. والإخلاصُ يتبع الإيمان وإنما ذكر الله تعالى النعمة الظاهرة قبل الباطنة؛ لأن النعمة الظاهرة هي التي يعرفها أكثر الناس. ومن الأدلة على أفضلية النعمة الباطنة على النعمة الظاهرة ما أخرجه الإمام أحمد بالسند الصحيح وغيرُهُ أن رسول الله r قال: «إن الله يُعْطِي الدنيا لمن يُحِبُّ ولمن لا يُحِبُّ ولا يُعْطِي الإيمانَ إلا لمن يُحِبُّ»([i]).اهـ. وما رواه البخاريّ([ii])، والترمذيّ([iii]) وغيرهما عن النبيّ r أنه قال: «أشَدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأمْثَلُ فالأمْثَلُ يُبْتَلَى الرجلُ على حَسَب دِينِه فإن كان دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بلاؤه وإن كان فِي دِينِهِ رِقَّةٌ كان بلاؤه على حَسَبِ ذلك فلا يَزَالُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَمْشِيَ على الأرض وقد حُطَّتْ عنه خطاياه».اهـ.

ثم النعم الدنيوية كنعمة المال قسمان: إحداهما: محمودة العاقبة والأخرى عاقبتها وبال على العبد؛ كالنعم التي أنعم الله بها على الكفار، فإنهم وإن تَنَعَّمُوا بها فِي الدنيا لكنها فِي الآخرة وبال عليهم فإنهم يسألون عنها يُسألون عن الشكر عليها وهم لم يَشكروا عليها فيُعاقبون عليها حتى إنهم يُسألون لِـمَ لَـمْ يسلموا فَيُزَكُّوا فإنهم لو أسلموا فِي الدنيا وزَكَّوا وعملوا فيها الصالحات لوجه الله تعالى كان لهم ذلك ذُخرًا كبيرًا فيعاقبون على أنهم تركوا ذلك، أيْ: لم يؤدوا حق الله الذي هو الزكاة بشرطه الذي أمر الله به وهو الإسلامُ والنيةُ؛ لأن النية بلا إسلام لاغية وصور الأعمال لا تُعتبر عند الله إنما يُعتبر عند الله ما عمله العبد على وِفاق تعاليم الأنبياء وهكذا يُسألون عن سائر الفروض التي فرضها الله على العباد مما لو عملوه على الطريقة التي يَعْمَلُها المسلم مع الإسلام والإيمان كان لهم أجر كما يؤجر المسلم فِي الآخرة على حسناته من فريضة الزكاة وغيرها فلما كان الكفارُ فاتهم هذا العملُ فيما رزقهم الله من الأموال كانت نهايةُ تلك الأموال عليهم فِي الآخرة حسرةً وندامةً فيتمنَّونَ أن لو كانوا مسلمين فعملوا كما يعمل المسلمون فنالوا ثواب ذلك العمل، ثم هم يُعاقبون فيعذبون حيث إنهم لم يشكروا الله لأن شكر الله الذي افترضه على عباده هو صرف المال حيث أمر الله أن يُنفَق فيه بإيمان وإخلاص فِي النية لله تعالى كما أمر المرسَلون. ومن الدليل على ذلك ما جاء فِي مسلم أن عائشة رَضِيَ الله عنها قالت: يا رسول الله إن ابن عَمِّي عبدَ الله بنَ جُدْعَانَ كان يَقْرِي الضيفَ ويَصلُ الرحم فهل ينفعه ذلك قال: «لا إنه لم يقل رَبِّي اغفر لِي خطيئتي يومَ الدين»([iv]).اهـ. أيْ: إنه لم يكن على الإيمان فكل أعمال ذلك الرجل التي كان عُرف بها من الإحسان إلى الأقارب والأرحام وإكرام الغريب الذي كان يَشتهر به كل ذلك ضائعٌ هذا مع احتمال أنَّ هذا الرجل عبد الله بن جُدعان مع احتمال أنه كان من أهل الفترة الذين لم يسمعوا بدعوة الرسل فيُعْفَوْنَ من العذاب ليس له ثواب على أعماله تلك فكيف هؤلاء الكفار الذين سمعوا بدعوة محمد r فعاندوا وقابلوها بالتكذيب والإنكار. جاء فِي تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [سورة الغاشية: 2، 3] قال هؤلاء أصحاب الصوامع.اهـ. يعني: الرهبان النصارى الذين ترهبوا وانقطعوا عن الزواج وعكفوا فِي صوامعهم منعزلين عن الناس بنية التعبد لله؛ لأن أولئك وإن كانا أتعبوا أنفسهم فِي الدنيا بنية التقرب وإعداد الذخر للآخرة فإن ذلك لا ينفعهم؛ بل هم من أهل العذاب الأليم الذين لا يرحمهم الله فِي ذلك اليوم فإن أولئك تكون وجوههم ذلك اليومَ بائسةً مسودةً من شدة الخوف والفزع من أهوال ذلك اليوم وشدائده، وكذلك هؤلاء الهنود الذين يستعملون الرياضيات والخلوات فيُجيعون أنفسهم ويعذبونها بالسهر وغير ذلك لا ينفعهم ذلك فِي الآخرة فإنهم تعبوا تلك الأتعاب من غير أن يدخلوا فِي ملة الإسلام التي أمر الله بها عبادَهُ من إنس وجن وملائكة فلا عذر لهم ينجيهم ذلك اليومَ من عذاب الله فضلًا عن أن يدخلوا الجنة ثوابًا على أعمالهم، وإن الله تعالى بعث الرسل ليقتدِي بهم العباد فمن لم يَقْتَدِ بهم وشقَّ طريقًا لنفسه برأيه فهو غير مقبول عند الله فلا يلومَنَّ إلَّا نفسه أما مَن تدارك نفسه منهم بالإسلام فإنه إن مات على الإسلام، فإنه لا بد أن تناله رحمةُ الله فيدخل الجنة وكلُّ ما عمله قبل إسلامه من الكفر والمعاصِي هدمه الإسلامُ فمن جدَّ منهم بعد دخوله فِي الإسلام بالعمل الصالح فأدَّى الواجبات واجتنب المحرمات كان من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هذا الأمر يشمل مَنْ كان مِنَ المؤمنين أتباع الأنبياء الذين أسلموا بتوحيد الله تعالى من النصارى الذين كانوا على دين المسيح الذي هو الإسلام وممن كان على دين موسى وغيرهم من كل المسلمين الذين اتبعوا الأنبياء واستقاموا بطاعة الله فكل أولئك يدخلهم الله تعالى فِي رحمته بلا عذاب لأن أتباع الأنبياء عيسى وموسى وغيرِهما من صَدَقَ منهم فِي طاعة الله تعالى فلزمها فهم ءامنون من الفزع الأكبر وأما من كذَّب النبيَّ الذي أرسل لزمن من الأزمان الماضية فلا ينفعه أيُّ عمل يعمله فِي الآخرة؛ بل هو من الخاسرين، فممن أدرك بعثة محمد r ممن كان على اليهودية ثم أسلم وءَامَنَ واتَّبع محمدًا r عبدُ الله بن سلام عالم اليهود وأصحمةُ النجاشِي ملكُ الحبشة الذي كان نصرانيًّا ثم أسلم واتبع سيدنا محمدًا r وبعث وفدًا مِن عنده فاتبعوا الرسول r، هؤلاء مثل المسلمين الذين ولدوا فِي الإسلام.

وقد كان فِي زمن رسول الله r أربعةَ عشر رئيسًا فِي الدنيا فكتب رسول الله r إليهم جميعًا فمنهم: من صدقه فأسلم وءامن، ومنهم: من كذّب. فالنجاشِي t ملك الحبشة كان من الذين أسلموا وءامنوا واتبعوا الرسول، سماه رسول الله r أخًا للمؤمنين فإنه لما مات وهو بأرض الحبشة عَلِمَ رسول الله r بموته بالوَحْيِ وقال لأصحابه: «صَلُّوا على أخيكم النجاشِي فإنه قد مات»([v]).اهـ. وأما هرقل فكان معترفًا فِي قلبه بأن محمدًا رسول الله r لكنه لم يسلم بل ظل على نصرانيته من أجل الدنيا فسماه رسول الله r عدوَّ الله. ويكفِي النجاشِي شرفًا أن النبيّ r صلَّى عليه صلاة الغائب مع  صحابته. كان رجل سودانيٌّ اجتمعتُ به في بيروت فإذا هو يعتقد أنَّ النجاشي نصرانيٌّ وأنَّ النبيّ r صلَّى عليه صلاة الغائب مع نصرانيته وكالمقوقِس وكهرقل لما وجدته معاندًا قلت له كيف يجوز عندك أن يصلِّيَ رسول الله على النصرانِي صلاة الجنازة هذه مسألة لا يجهلها من يعيش فِي مجاهل أفريقية قال أنا من تلك المجاهل، هذا الرجل اجتمعت به منذ سنة وشيء([vi])، هذا من الذين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمَهُ يطالع فِي الكتب والمؤلفات لكن الذي يكتفِي بالمطالعة يشتري كتبًا ولا يتلقَّى العلم من أهله من أفواه أهل المعرفة فإن هذا مصيره تلتبس عليه الأمور يرى الحقَّ باطلًا والباطلَ حقًّا والمسلمَ كافرًا والكافرَ مؤمنًا فإنا لله وإنا إليه راجعون. انتَهَى.

وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين.

والله تعالى أعلم.

[i])) رواه أحمد فِي مسنده حديث العباس بن عبد المطلب.

[ii])) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

[iii])) رواه الترمذيّ فِي سننه، باب: ما جاء فِي الصبر على البلاء.

[iv])) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: الدَّلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ.

[v])) رواه البخاريّ فِي صحيحه وغيره واللفظ للضياء المقدسِي رواه فِي الأحاديث المختارة.

[vi])) أيْ: من زمن إلقاء الدرس.