درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق للخامس والعشرين من شهر كانون الأول سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف رومية وهو فِي بيان منزلة أهل العلم وأنهم أولى بالتقديم فِي مجلس السلطان. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أمَّا بعدُ: فإن الله تبارك وتعالى أرسل سيدنا محمدًا مبشرًا ونذيرًا ومعلمًا للناس بقوله وفعله ثم قَيَّضَ له أصحابًا أمناء يبلغون عنه ما أرسل به من هذا الدين القويم أصوله وفروعه جزاهم الله عن الإسلام خيرًا. روينا فِي «صحيح البخاري» أن عُيَيْنَةَ بنَ حِصْن بن بَدْرٍ الفزارِيّ أتى المدينة فَنَزَلَ عَلى ابْن أَخِيه الحُرّ به قَيْس ابن حِصْنٍ بن بدر الفزاري وكان الحُرُّ من أصحاب مجلس عمر ومشاورته وكان أصحاب مجلس عمر ومشاورته القُرّاءَ فقال عيينة لابن أخيه الحر بن قيس الفزاري يا ابن أخي إن لك وجهًا عند هذا الأمير فأدخلني عليه فاستأذن له فأذن له عمر t فقال عيينة بن حصن الفزاري مخاطبًا عمر بن الخطاب: إنك لا تحكم بالعدل ولا تَقسِم بالسوية فغضب عمر فهمَّ به فقال له ابن أخيه الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: 199]، وهذا من الجاهلين فسكن عمر وكان وقّافًا عند كتاب الله تعالى، وهذه الآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ورد فِي بيانها حديث مرفوع رواه عقبة بن عامر عن رسول الله r أنه قال: «صِلْ مَنْ قطَعَكَ وَأَعْطِ مَن حَرَمَك واعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»([i]).اهـ. هذه الآيةُ وهذا الحديثُ يعلمان المؤمنين مكارم الأخلاق لأن مكارم الأخلاق تتشعب من هذه الأمور الثلاثة أن تصلَ من قطعك وتعطِيَ مَن حرمك وتعفوَ عمن ظلمك كل ما يدخل تحت مكارم الأخلاق فهو داخل تحت هذه الثلاثة والقرءانُ أفصحُ كلام وأبلغُهُ لا يستطيع أحد من الخلق أن يأتيَ بمثله ثم رسول الله r أعطاه الله تعالى جوامع الكلم، أي: أُعْطِيَ كلماتٍ قليلة كل واحدة تجمع معاني كثيرة كهذه الكلمات الثلاث «صِل مَن قطعك وأعط مَن حرمك واعف عمن ظلمك».اهـ. ولم يُعْطَ مَن قبله من الأنبياء ذلك، وكل الكتب التي أنزلت على أنبياء الله تعالى ليست بمثابة القرءان فِي الفصاحة والبلاغة فالقرءان أبلغ كلام وأفصح كلام لذلك كان معجزة مستمرة، أي: معجزة دائمة لا يستطيع أحد من المكذبين للنبيّ r فِي زمانه وبعد وفاة الرسول r أن يأتي بمثل القرءان، لو كانوا يستطيعون أن يأتوا بمثله لكان أهل عصره العرب الفصحاء البلغاء أتوا بمثله والرسول r كان تحدّاهم فلم يستطيعوا، كذلك من جاء بعد عصره لم يستطع أحد أن يأتي بمثله فكان القرءان معجزة دائمة مستمرة أما غيره من الكتب السماوية فليس فيها هذا الإعجاز، فيها حِكَمٌ تنفع فِي الدنيا وفي الآخرة لكن ليس فِي البلاغة والفصاحة كالقرءان الكريم.
نعود إلى شرح أول الحديث أول الحديث هو أن رجلًا يقال له عيينةُ بنُ حِصْن هذا الرجل كان من أهل الجفاء كان أسلم ثم فُتِنَ فاتَّبَعَ رجلًا ادعى النبوة غيرَ مُسَيْلِمَةَ الكذّاب وغيرَ الأَسْوَدِ العَنْسِيّ هذان ادَّعيَا النبوة، الأسود العنسيُّ قُتل على كفره فِي اليمن كان فِي اليمن اتبعه كثير من الناس هو ظهر قبل وفاة النبيّ r هذا الأسود العنسيّ فِي اليمن ادّعى النبوة فاتبعه بعض أهل اليمن، ومسيلمةُ الكذاب ظهر بنجد الحجاز ادعى النبوة فاتبعه كثير من الناس ثم قتل فِي عهد أبي بكر t وأما هذا الثالث الذي اتبعه عيينة بن حصن ثم تركه فرجع إلى الإسلام يقال له: طُلَيْحَةُ من بني أسد يقال له: طُلَيحة الأسديُّ هذا طليحةُ أسلمَ ما مات كافرًا كذينك الأسودِ العنسيّ الذي كان ادَّعَى النبوة باليمن ثم قتله بعضُ المسلمين ومسيلمةَ الكذّابِ الذي كان بنجد الحجاز من بني حَنِيفَةَ أما طليحة رحمه الله تعالى فكان من بني أسد، وهذا عيينة بن حصن كان فيه جفاء كان فيه غِلَظُ الطبع وفظاظةٌ وقد ذكرنا أنه جاء إلى المدينة بعدما تاب مما حصل منه فنزل على ابن أخ له يسمّى الحر بن قيس من العلماء هذا كان عمر t يقرّبه، أميرُ المؤمنين عمر t كان يقرّبه لفقهه وعلمه فعمُّه هذا عيينةُ قال له: يا ابن أخي إن لك وجهًا عند هذا الأمير، فأدخلني عليه، فأدخله فلما وقف أمام عمر t حضر مجلس عمر أساء الأدب مع عمر t إساءة كبيرة قال له: يا ابن الخطاب ما قال له يا أمير المؤمنين إنك لا تحكم بالعدل ولا تقسم بالسّويَّة، فغضب عمر فهمّ أن يوقِع به فقال له ابن أخيه الحر بن قيس الذي هو من العلماء من الذين يكثرون مجالسة عمر رَضِيَ الله عنهما قال له: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: 199] فهدا عمر وما فعل به شيئًا، لو كان عمر كبعض حكام بني أمية لقتل هذا الرجل ولم يَرْضَ له جزاءً إلا القتل؛ لأن بني أمية كان فيهم فظاظة وغِلظة وظلم وعَسْفٌ وتجبُّر ما طلع فيهم حاكم تقي إلا عمر بن عبد العزيز t فلما سمع عمر الآية التي قرأها عليه الحر بن قيس هدأ عمر ما فعل أي شيء وكان عمر t وقّافًا عند كتاب الله لا يتجاوز القرءان يقف حيث وقف به القرءان.
في هذا الحديث أن عمر t كان أصحاب مجلسه ومشاورته القراء، أي: العلماء كان أقرب الناس حظًّا بمجلس عمر t الفقهاء كهولًا كانوا أو شبانًا إن كانوا شبانًا أو كانوا كهولًا أولى الناس بمجلس عمر t ومشاورته الفقهاء كان يقدّم إلى مجلسه الشاب الفقيه من الشيخ الجاهل، لا يجعل للشيوخ الجهال من المنزلة والتقريب ما يجعله للشباب الذين هم فقهاء من أهل العلم والكهول من الفقهاء، كان أصحاب مجلس عمر ومشاورته القراء، هكذا عمر t كان على الطريقة السوية كل من كان على الطرق السَّوِيّ من حكام المسلمين يرون لأهل العلم والفقه منزلة على غيرهم كان التقديم عندهم بهذا لا لأن الرجل زعيم قومه لا يعتبر عمرُ t ذلك ولا من كان على طريقته المستقيمة. مجلس الشورى الذي يعلمه الحكام المسلمون إن كان على هذا الخط فهو خير وفلاح ونجاح أما إذا لم يكن على هذا الوجه الذي كان عليه عمر فهم أمرهم بالعكس. كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي يسمى ترجمان القرءان مقدَّمًا فِي مجلس عمر لعلمه وفقهه وتمكنه فِي الفهم فِي أمور الدين حين كان سنه سن الشباب كان يقدمه عمر ثم بعض الشيوخ كلموا عمر t قالوا: لِمَ تُقَدّمُ عبدَ الله بن عباس على أبنائنا فلا تنظر إلى أبنائنا كما تنظر لعبد الله بن عباس قال: إنه فتى الكهول له قلب عَقول ولسان سَؤُول، معناه: أين فِي أبنائكم الذي هو كالعجوز فِي العلم وله قريحة قوية وقلب عَقول ولسان سؤول، أي: يكثر السؤال فِي طلب العلم. انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[i])) رواه البيهقي فِي شعب الإيمان، فصل فِي التجاوز والعفو وترك المكافأة.