درس ألقاه المحدث الفقيه الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي الرابع من شوال سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق للخامس عشر من شهر تموز سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف رومية وهو فِي بيان أن معنى حديث إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فِي النار هو فيما كان بغير حق. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتَم النبيّين سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطّيبين الطاهرين.
أمَّا بعدُ: فقد رُوّينا بالإسناد المتّصل فِي «صحيح الإمام أبي عبد الله البخاريّ» وغيرِهِ أنّ رسول الله r قال: «إذا تَواجَه المسلمان بسيفَيهما فالقاتِلُ والمقتُولُ فِي النّار»([i]).اهـ. هذا الحديث رواهُ البخاريّ وله لفظٌ ءَاخَرُ فِي مسنَد البزَّار وغيرِه وهو صريحٌ فِي المراد وهو: «إذا اقتتل المسلمان على الدّنيا فالقاتِلُ والمقتُول فِي النّار»([ii]).اهـ.
هذه الروايةُ الثّانية فسّرت الرواية الأولى لأنّ الأولى قد يفهَمُها بعضُ النّاس القاصِرِي الفَهم على غير المعنى المراد لرسول الله r، بينت مراد رسول الله r بهذا الحديث، فالمعنى المقصودُ لرسول الله r بهذا الحديث أنه إذا اقتَتل المسلمان، أي: إذا قصد هذا أن يقتل هذا وقصد هذا أن يقتُلَ هذا، قصد كلٌّ وعَزَم وحمَلَ السّلَاحَ كلٌّ منهما بقصد أن يقتُلَ الآخر للدّنيا، أي كلٌّ منهُما كان طالبًا حظًّا دنيويًّا فكِلا الفريقين يستَحِقّان النّار، وليس المعنى أنّ كلَّ واحدٍ حصل منه هذه المعصية مُحَتَّمٌ له دخولُ النار إنّما المعنى أن هذا جزاءُ الفريقين جزاءُ الطائفَتين، وقد يغفر الله تعالى لمن شاء لكن لا يُضِيْعُ حَقَّ المظلوم، إن كان أحدُ الفريقين طالِبَ دنيا والفريقُ الآخر ليس مقاتِلًا للدّنيا إنّما مظلوم قُصِدَ بالقتل ظُلمًا فقاتَلَ فقُتِل أو قاتلَ فسَلِم سَلِمَ هو وقتَلَ المعتَدِين، لا يعني الرسولُ r تعميمَ هؤلاء كلّهم بأنهم مستحقُّوا النار إنما قصْدُ رسول الله r أن يكونَ كِلا الفريقين قتالُه على الظلم لأجل طلب الدّنيا مثال هذا القتال الذِي يحصل كلّ مدة بينَ دولتينِ من دول المسلمين، تكرر منهما القتال فذلك القتال كِلا الفريقين فيه ءَاثمون ظالمون يستحقونَ العذابَ؛ لأنّه كلتا الطائفتين قصدُها الدُّنيا. وأما إذا كانَ قتالُ إحدى الطائفتين للدّين وقتالُ الطائفة الأخرى للدنيا، أيْ: حبّ الرئاسة والاستبداد ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة، الطائفةُ التي قصدُها الدّين ليسَ عليها حرجٌ، مثالُ ذلكَ قتالُ سيّدِنا عليّ وجيشِه للذين بغَوا واستعْصَوا عليه، وكان عليٌّ t فِي تلك المعارك الثلاث وقعة الجمل ووقعَة صِفّين ووقعة النّهرَوَان كان هو وجيشُه مأجورينَ عندَ الله تعالى وأما الطائفةُ الأخرى التي قاتلته فِي أيَّةِ واحدةٍ من هذه المعارك فإنهم ءاثمون.
رُوّينا فِي «سُننَ البيهقي الكبرى»([iii]) بإسناده إلى عبد الله بن رباح أنّ عمار بن ياسر t قال: لا تقولوا كفرَ أهل الشّام ولكن قولوا بَغَوا وظَلَموا.اهـ. وذلك لأن أهل الشام ليس أهلَ الشام ليس أهلَ سورية فقط؛ بل المرادُ مَن يشمَلُهم ومَن سواهم من أهل بلاد الشّام كانوا متمرّدينَ على الخليفة الرّاشد عليّ بن أبِي طالب t وصفَهُم عمّارٌ t الذي شهدَ له الرسول r بالجنة بقوله: «إن الجنّة تشتاق إلى ثلاثةٍ عمّارٍ وبلالٍ وعليّ»([iv]).اهـ. y، هذا عمارٌ t كان مع جيش عليّ t فقال: لا تقولوا كفَرَ أهلُ الشّام.اهـ. أيْ: معاوية ومن معه لا تقولوا كفروا لكنّهم ظَلَموا وبَغَوا، أي: أنهم ظالمون معتدون فِي تمردهم على الخليفة عليّ بن أبي طالب ولم يخرجوا من الإسلام بقتالهم لعليّ فلا يُسَمَّون كافرين إنّما يقالُ عنهم ظلموا وفسقوا وبَغَوْا وذلك لأن الله تبارك وتعالى أوجب طاعةَ الخليفة عليّ بن أبي طالب وغيرِه من الخلفاء الراشدين المهتدين المهدّيّين، الله تعالى فرض طاعتَهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [سورة النساء: 59] عليُّ بن أبي طالب t بلا شك ولا ريب من أُولي الأمر الذين فرض الله على المؤمنين طاعتَهُم فالذين قاتلوه إن كانوا أهل وَقعة الجمل وإن كانوا أهلَ وقعة صِفِّين، أيْ: معاويةَ وجماعته، وإن كانوا أهل النّهروان، أي: وقعةَ الخوارج كلُّهُم ظالمون باغُون، المأجور هناك من كان مع الخليفة، أيْ: عليّ بن أبي طالب وجيشِهِ هؤلاء لهم أجر لقتالهم فِي المعارك الثلاث، لأنّ الله أمرَ الخليفةَ إذا تمرّد عليه أناسٌ أن يَسْعى للصلح فإن أبَوْا أن يُقاتَلُوا، عليّ بن أبي طالب نصحَهم قدّم لهم النصيحة قبل أن يقاتلهم فلم يأخذوا بنصيحته فقاتلهم فهو له أجر لأنّه دخل فِي قول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا} [سورة الحجرات: 9]، عليّ بن أبي طالب وجيشه دخلوا تحت {فَقَاتِلُوا} والآخرون دخلوا تحت قوله {الَّتِي تَبْغِي} [سورة الحجرات: 9] أولئك الذين تمردوا عليه أما هو نَفَّذَ قولَ الله تعالى: {فَقَاتِلُوا} لأنه مأمورٌ شرعًا مأمور أن يقاتل هؤلاء الذين تمرَّدوا عليه.
واعلموا أنّه لا يجوز أن يقال عن جيش عليّ والجيش المقاتل له أن كُلًّا من الفريقين له أجر عند الله كما هو مذكور فِي بعض كتب المؤلفين هذا قولٌ غلطٌ، لا يجوز أن نقول كلتا الطائفتين مجتهدون ولكُلّ أجرٌ، لا يجوز كيف يكون أجرٌ للطائفتين طائفةٌ امتثلت كتابَ الله وطائفةٌ عاكست هذه الطائفة وعاندت وحاربت كيف يكون للطائفة المعانِدَة أجرٌ عند الله هذا القولُ غلط من قائلِه كائنًا من كان، وهذا مذكور فِي كثير من المؤلفات وذلك أكثرُ ما يكون فِي بعض مؤلفات أهل القرن السادس والسابع ومَن بعدهم، أما من كانوا قبل ذلك فهذا القول لم يكن عندهم مُلتَفَتًا إليه، ما كانوا يلتفتون إلى هذا القول؛ بل كان القول الراجحُ المعتبرُ عندهم ذلك القولَ الموافِقَ لقول عمّار بن ياسر، وفي من كان من أهل هذه القرون، أي: القرن السّابع وما بعدَه مَن هم مصرّحون بأن تلك الطائفةَ المقاتلةَ لعلِيّ باغيةٌ؛ أي: ليسوا مأجورين لأنّ الباغِي لا يؤجَر، كيف يؤجَرُ الإنسان على البَغْي كيف يجتمع الأجْرُ والبَغْيُ هذا أمر عجيب كيف استجاز هؤلاء الذين قالوا بهذا القول المردود كيف تجرّأوا على ذلك كيف استجازوا أن يتفَوهوا بقولهم هذا إنَّ كِلتا الطائفتين مأجورون.
فاللفظ المشهور لهذا الحديث: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتِلُ والمقتولُ فِي النّار»([v]).اهـ. هذا اللفظُ المشهورُ ينبغي التنبيه إلى معناه المرادِ لرسول الله r، الرسول لا يعنِي إلا القتال الذِي يكون للدنيا فِي الفريقين أما القتال الذي يكون بالنّسبة لإحدى الطائفتين للدّين للعمل بشَرْع الله تعالى كطائفة عليّ مَن شابههم فِي هذا المعنى، فإنَّ هذا الحديث لا يَعْنِيه إنما يعني هذا الحديثُ القتالَ الذي يكون بالنسبة للطائفتين للدنيا كما بَيَّنَتْ هذا المعنى المرادَ روايةُ البَزّار فِي مُسنده «إذا اقتتل المسلمان للدنيا فالقاتل والمقتول فِي النار».اهـ.
بعد حمل الحديث على هذا المعنى يُذكر التفصيل الذِي ورد وهو أنّه قال بعض الحاضرين يا رسول الله هذا القاتِل فما بَالُ المقتول قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»([vi]).اهـ. المعنى: أن هذين المسلمين اللّذين تواجها للقتال بسيفيهما وكان كل منهما يقاتل علَى الدنيا ليس على أمر دينيّ فالقاتل فِي ذلك أمره ظاهر أنه قَتَلَ نفسًا مسلمة، وأما المقتولُ فسبب استحقاقه النارَ، أي: عذابَ الله بالنار فِي الآخرة هو أنه كان حريصًا على أن يقتل صاحبه، فَلِنِيَّتِه وَعَمَلِه وهو أنه حمل السّيفَ وجاء ليقاتل الطائفةَ الأخرى أو الشخصَ الآخر استحقَ عذاب الله فكونُه مقتولًا لا يرفع عنه استحقاقَ العذاب ولا يلتبسُ هذا بحديث: «مَن قُتِلَ دون دَمِه فهو شهيد».اهـ. وهو حديث رواه مسلم فِي الصحيح([vii]) هذا ظاهرٌ لا لَبْسَ فِي معناه وذلك لأنّ الإنسان الذي يُقتل لدِينه فشهادتُه ظاهرةٌ لا خفا فِي هذا الحكم، وكذلك ذُكِر مع هذا فِي ذلك الحديث الذي رواه مسلم ثلاثةٌ ءاخرون أحدهم «مَن قاتَل دون أهله فقُتِل» والثالث «مَن قُتل دون دمه» والرابع: «من قُتل دون ماله»، فأما من قتل دون أهله، فمعناه: أنه أراد إنسان التعدي على زوجته لفعل الفاحشة بها فدافع عنها فقُتل، أيْ: قتله ذلك المعتدي الذي يريد الفاحشةَ بزوجته فإن هذا الزوجَ المقتولَ شهيدٌ يقال له: شهيد الآخرة؛ لأنه ليس فِي حكم شهيد المعركة هذا يُغَسَّل ويكَفّن ويصلَّى عليه كغيره مِن أموات المسلمين، فأما المقتول دون دمه فإنه هو الذي أراد شخصٌ أن يقتله؛ لأنه يَحْقِدُ عليه ويُضمر له عداوة فأراد أن يَشفِي غيظه بقتله ظلمًا فقاتل دون دمه فقُتل فهو شهيد، وأما الذِي يُقتلُ دونَ مالِه فهو الذِي قَصَدَ شخصٌ أخذَ ماله ظلمًا فدافع عن ماله الشخص الذِي قُصِد لأخذ ماله ظلمًا فقاتل دفاعًا عن ماله فقُتل فهو شهيد.
أما الذي يقتل مسلمًا بحجة أن فلانًا قَتَلَ ابن عمه قتل أخاه ثم هو يَقْتُلُ قريبًا لذاك القاتل ليشفِيَ غيظه فهذا فِي النار، أي: يستحق عذابَ الله فِي نار جهنم؛ لأنه ليس له حق إنما الحقُّ لأولياء الدم بعد أن يُثبتوا أهلُ القتيل أنه قتل مُوَرّثَهُم إما بالبينة وإما باعتراف القاتل إذا قامت بينة، أي: شهادة صحيحة شرعًا بأن ذلك الشخصَ ارتكب هذه الجريمة يكون لهم حق فِي أخذ حقَّهم منه بعد أن يُثبتوا عند الحاكم وكذلك إذا اعترف القاتل بأنه قتل فلانًا الذِي هو قريبُهم فلهم أن يأخذوا ويستوفُوا حقَّهم منه بطريق الحاكم؛ لأن القتلَ الذي يكون بغير طريق الحاكم قد يُؤَدِّي إلى انتشار القتل وكثرته وتعدُّدِه لذلك جعلَ الشرعُ الطريقَ فِي استيفاء الحقّ الإثبات عندَ الحاكم إما بالبيّنة وإما بالاعتراف، وأما ما يَجري بين كثير من الناس من الانتقام وأخذ الثّأر بقتل قريب القاتل أخيه أو ابنه أو أبيه أو غير ذلك فإن ذلك من العصبية التي نَهَى الله تبارك وتعالى عنها. قال رسول الله r: «ليس منَّا مَن دعَا إلى عَصَبِيَّةٍ».اهـ. رواه أبو داود([viii])، أيْ: أنّ الذِي يدعُو إلى العصبية فهوَ بعيد من الكمال الدّينِيّ، أي: لا يكون كاملًا فِي دين الله. وكذلك العصبيةُ فِي ما دونَ القتل وهو أن يساعد الشخصُ قريبَه على دعوى قامَت على الظلم، ما قامت على الاستحقاق، فإذا ناصرَ شخصٌ قريبه على دعوى ادّعاها على شخصٍ بغير حقّ ظلمًا كان من الذين ذَمَّهم رسول الله r. العصبيةُ هِيَ من الكبائر ومعنَاها أن يُعِينَ الشخصُ قريبَه أو صديقَه أو عشيرتَه على الظّلم. وكذلك مِن العصبية أن يعينَ الشّخصُ مَن ينتسب إلى حزبه على الشخص الآخر الذي ليس من حزبه على الظلم، يَعْلَمُ أن هذا الشخص يظلِم هذا الإنسان ومع ذلك يساعدُه لأنه من أفراد حِزبه هذا من العصبية التي حرّم الله تعالى على عباده وشدَّد الأمرَ فِي ذلك، إنما الذي ينبغي للمؤمن أن يُعِينَ المظلومَ وأن يمنع الظّالم، لو كان قريبَهُ يقول له اتَّقِ الله، لو كان صديقَهُ واجبٌ عليه أن ينهاه عن الظلم فلو عمِلَ الناسُ بهذا الحكم الشّرعِيّ لارتحنا من كثيرٍ من المشاكِل والمفاسد.
ورد فِي «سنن أبي داود»([ix]) عن رسول الله r أنه قال: «من أعان إنسانًا فِي خصومةٍ بباطلٍ لم يزل فِي سَخَط الله حتى يرجِعَ».اهـ.
المعنى: أن الإنسان الذي يعين غيرَه لقرابة أو لصداقة على الظلم والباطل فإنه لا يزال فِي سخط الله حتى يترك هذا الأمر، حتى فيما بينَ الأبوين من وجد أباه ظالـمًا لأمّه فلا يناصِرْ أباه فِي ظلمه أُمَّهُ وكذلك العكس بأن وجد أمَّه معتدية ظالمةً لأبيه فلا يناصرْها على أبيه، لا يتعصّب لها فِي ظلمها أباه؛ بل على الابن أن ينهى من هو الظالم منهما إن كان الأب هو الظالـمَ ينَهَى أباه وإن كانت الأمُّ هِيَ الظّالمة ينهاها ومن لم يفعل ذلك وتحزَّب للأب الذي هو ظالم أو للأم التي هي ظالمة فقد استحقَّ عذاب الله وليس هذا من بِرّ الأبوين إنما برُّ الأبوين الإحسانُ إليهما وطاعتُهما فِي ما ليس فيه معصيةٌ لله تبارك وتعالى. انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[i])) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما.
[ii])) قال الحافظ فِي فتح الباري وأخرج البزار فِي حديث القاتل والمقتول فِي النار زيادة تبين المراد وهي إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول فِي النار.اهـ.
[iii])) السنن الكبرى للبيهقي، باب الدليل على أن الفئة الباغية منهما لا تخرج بالبغي عن تسمية الإسلام.
([iv]) ذكره فِي ذخيرة الحفاظ محمد بن طاهر المقدسِي من رواية الحسن بن صالح.
([v]) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما.
([vii]) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: الدليل على أن من قصد أخذ ماله بغير حق.
([viii]) رواه أبو داود فِي سننه، بَابٌ فِي العَصَبِيّة.
([ix]) رواه أبو داود فِي سننه، باب: من فِي يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها.