بسم الله الرحمن الرحيم
درسٌ ألقاهُ الأصوليُّ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدري الحبشي رحمهُ اللهُ تعالى يوم الأحد الثامن من شهر ربيع الثاني سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق للعشرين من نيسان سنة خمس وسبعين وتسعمائة وألف ر وهو في بيان مسألة القدر. قال رحمه الله رحمةً واسعةً:
الحمدُ لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى ءاله الطيبين.
أما بعدُ فقد روينا في مسند الإمام أحمد([1]) رضيَ اللهُ عنه وفي سنن أبي داود([2]) وغيرهما عن ابن الدَّيْلَميّ قال: أتَيتُ أُبَيَّ بنَ كعبٍ فقلتُ يا أبا المنذر إنه حدث في نفسي شيءٌ من هذا القَدَر فحدّثْني لعلَّ اللهَ ينفعُني قال: إنَّ اللهَ لو عذَّبَ أهلَ أرضِه وسمواتِهِ لعذَّبَهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم ولو رحِمَهُم كانت رَحْمَتُهُ خيرًا لهم من أعمالهم ولو أنفقْتَ مثلَ أحُدٍ ذهبًا في سبيلِ الله ما قَبِلَهُ اللهُ منك حتى تُؤمنَ بالقدرِ وتَعْلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لم يكن ليُخطِئَك وما أخطأكَ لم يكُنْ ليُصيبَك ولو مِتَّ على غيرِ هذا دخلتَ النار اهـ قال ثمَّ أتيت عبدَ الله بنَ مسعودٍ فحدَّثَني مثلَ ذلك قال ثمَّ أتيتُ حُذيفةَ بنَ اليمانِ فحدَّثَني مثلَ ذلك ثمَّ أتَيتُ زيدَ بنَ ثابتٍ فحدَّثَني مثلَ ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم اهـ.
هذا الحديثُ يُعَدُّ من الأحاديث التي تكون حُجَّةً لإثباتِ القَدَر. معنى القَدَرِ أنَّ اللهَ دبَّرَ في الأزل كلَّ شيءٍ يدخل في الوجود على حسب علمه الأزليّ فكلُّ ما دخلَ في الوجود من أشياءَ عَينِيَّةٍ وأعمالٍ للعبادِ أي حركاتِهم وسكونِهم وعَقْدِ نواياهم في نفوسهم وكلّ ما يحصل من نَفْعٍ أو ضُرٍّ أو فرحٍ أو حُزنٍ أو راحةٍ أو تعبٍ أو صِحَّةٍ أو سَقَمٍ أو نشاطٍ أو فُتُورٍ وغيرِ ذلكَ إنما وُجِدَ بعلم الله ومشيئته وتقديره وأنه هو يخلق ذلك كلَّه وأن الله تعالى هو يُقدِرُ العبادَ على أعمالهم فلولا إقدارُهُ تعالى لهم ما استطاعوا أن يعمَلوا شيئًا من أعمالهم ومَن أقْدَرَهُ اللهُ تعالى ووفَّقَهُ لفِعْل الحسناتِ فذلكَ من فَضْلِ الله ومن يسَّرَهُ الله تعالى لغير ذلك من الشرّ فبِخذلانِ الله تعالى للعبد وذلك عَدْلٌ من الله ليسَ ظلمًا، فمَنْ لم يُؤمنْ بالقدَرِ لا يقبَلُ اللهُ تعالى له حسنةً مهما عَمِلَ وتَعِبَ فما كان من أعمال الإنسان عمدًا فهو بقَدَرِ الله وما كان خطأً غيرَ عَمْدٍ فهو بقَدَرٍ أيضًا فلا يجوزُ أن يُقالَ كما يقول بعضُ الجاهلينَ إنّ ما حصلَ خطأً من غير عمدٍ قضاءٌ وقَدَرٌ وأما ما حصل عمدًا فلا يُقال بقضاءٍ وقدَرٍ، بل كلُّ ما يعمله الإنسان عمدًا أو خطأً فهو بقدر الله تعالى. فما كان مِن عَمَلِ الإنسان عمْدًا اللهُ قدَّرَ أن يعملَهُ هذا الإنسانُ باختيارهِ أي باختيارِ العبد وما كان من عمل الإنسان بغير عمْدٍ فاللهُ تعالى قدَّرَ في الأزل أن يعمَلَهُ العبدُ بغير اختيار فإذًا كلٌّ مُقدَّرٌ. العملُ الذي نَعْمَلُهُ عمدًا والعملُ الذي نَعْمَلُهُ خطأً بلا عَمْدٍ كلٌّ بقَدَرِ الله لأنَّ الله تعالى قدَّرَ في الأزل أنَّ هذا الإنسانَ سيعملُ كذا باختيارهِ فيكون ذلك عمدًا وقدَّرَ أنَّ هذا الإنسانَ يعمَلُ كذا بغير اختياره فكلٌّ بقَدَرِ الله تعالى وكلٌّ بخلقِ الله تعالى، فإذا تكلمَ الواحدُ منَّا عمدًا بكلامٍ أو نظرَ إلى شيء عمدًا أو مدَّ يده إلى شيء قصدًا فهو بِقَدَرِ الله واختيارِ العبد واللهُ تعالى هو الذي يخلق هذه الحركة، هذا النَّظَرُ اللهُ تعالى هو الذي يخلقه لسنا نحنُ نخلُقُه، وهذا التناوُلُ باليدِ اللهُ تعالى هو الذي يخلقه وإن كان للعبد فيه اختيار فهو بخلق الله تعالى، فالعمل الذي يعمله الإنسان باختياره فهو بخلق الله والعمل الذي يعمله الإنسان بغير اختياره فهو بخلق الله.
إذًا الإنسانُ لا يخلق شيئًا إنما الإنسانُ يَكْتَسِبُ ومعنى يكتسبُ أنه يُوجّهُ إرادَتَهُ نحوَ العمل واللهُ تعالى يخلُقُ ذلك العملَ فإذا أرادَ إنسانٌ أن يتكلَّمَ بكلامٍ فتكلَّمَ فاللهُ تعالى هو الذي خلقَ هذا الكلامَ في هذا الإنسان ولولا أنَّ الله تعالى خلق فيه هذا الكلام وأقدَرَهُ على أن يتكلَّم ما استطاع أن يتكلمَ، وهذا الذي يدلُّ عليه قولُ الله تعالى في صفة الكُفَّار يومَ القيامةِ: ﴿وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَينا قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطَقَ كلَّ شيءٍ﴾([3]) الكُفَّارُ في حالٍ من الأحوال يومَ القيامة يَختم اللهُ على أفواههم لأنهم كانوا أنكَروا الكُفرَ الذي كفَرُوهُ جَحَدُوا كأنَّهُ يخفَى عليهم، هناك من شدةِ اضطرابِهِم أنكَروا قالوا ما أشْرَكْنا اللهُ تعالى ختمَ على أفواهم أي منعَها من الكلام أعجَزَها وأنطَقَ جُلُودَهُم فتَتَكَلَّمُ أرجُلُهُم بما عملوا وأيديهم تتكلم وتشهَدُ عليهم بما عملوا أما ألسِنَتُهم في ذلك الوقت لا تتكلم، اللهُ جعلَ قوَّةَ الكلامِ في جلودِهِم في أيديهم وأرجلهم قال الله تعالى في سورة فُصّلَتْ: ﴿قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطَقَ كلَّ شيءٍ﴾ هذا دليلٌ على أنَّ اللهَ هو الذي يخلق الكلام الذي نتكلم به عمدًا فكيف الكلامُ الذي نتكلم به خطأً بغير إرادة كيف لا يكون بخلق الله تعالى كلٌّ بخلق الله تعالى الكلامُ الذي نتكلم به عمدًا اللهُ تعالى هو الذي يخلقه فينا والكلامُ الذي يجري على ألسنتنا بدون إرادة فالله تعالى هو الذي يخلقه فينا كلٌّ بخلق الله تعالى لكن الله تبارك وتعالى يَجزِي الإنسانَ بالثوابِ الجَزيلِ إن تكلَّمَ بخير، والعبدُ ما تكلم إلا بقدرة الله إلا بمشيئة الله فالله تعالى يُعطِيهِ الأجرَ فضلاً منه، وإن تكلَّمَ بشَرٍّ بكُفرٍ أو بمعصيةٍ يعاقبه في الآخرة وهذا العقابُ عَدْلٌ من الله تعالى ليس ظلمًا.
اللهُ تعالى هو الذي خلق فينا الكلام والحركة وسائرَ الأعمال أي جميعَ الأعمالِ التي نَعْمَلُها الله سبحانه وتعالى خو خلقها فينا مع ذلك هو الله تبارك وتعالى له أن يعاقب هؤلاء العَبيدَ على معاصيهم في الآخرة وإن كان هو الذي خلق فيهم هذا الكلام الله تبارك وتعالى له أن يعاقب هذا العبد في الآخرةِ على هذا الكلام السيّئ الذي هو كفر أو معصية وعلى هذه الحركة التي هيَ من المعصية أو من الكفر، له أن يعاقب هذا العبدَ وإن كان العبدُ لا يخلق شيئًا إنما الله تعالى يخلق فيه حركاتِهِ وسكونَهُ حتى نوايا القلوبِ اللهُ تعالى هو الذي يخلقها.
اللهُ تعالى هو الذي يُقلِّبُ القلبَ والقلبُ أسرَعُ تقلُّبًا من اللسانِ مع أنَّ اللسانَ سريعُ التَّقَلُّبِ لكنِ القلبُ أسرعُ تقلُّبًا فالله تعالى هو الذي يخلق فينا كلَّ ذلك كلُّ ما نتَكَلَّمُ به إن كان عن عمدٍ وإن كان عن غير عمدٍ وكلُّ ما نَنْويهِ من النوايا فالله تعالى هو الذي يخلقها فينا مع ذلك له أن يعاقب مَن عصى أي مَن خالفَ الأمرَ له أن يُعاقبَ لأنه بعث الأنبياء والرسل فعلَّمَ الأنبياءُ والرُّسُلُ عبادَ الله ماذا يحبُّ اللهُ ماذا فرضَ اللهُ على عبادِه ماذا حرَّمَ اللهُ على عباده، علَّمُوا. بعد ذلك الإنسانُ الذي خالفَ تعالِيمَ الأنبياءِ فقد استحقَّ العذابَ في الآخرةِ، اللهُ نهانا عن كلّ المعاصي مع ذلك فإنْ حصلَتْ منا معصيةٌ فالله تعالى هو خالقُها فينا ومع ذلك له أن يُعذِّبَنا على معاصينا.
في اللوح المحفوظِ كان مكتوبًا أن هذا الإنسان يعصي أي وكان مكتوبًا كلُّ حسنةٍ تحصل منا وكلُّ سيئةٍ تحصل منا مكتوبٌ في اللوح المحفوظ قبل أن نُخلَقَ بأكثرَ من خمسينَ ألفَ سنة أي على أننا نعملها باختيارنا ما كان من أعمالنا الاختيارية كُتِبَ أننا نعمَلُها باختيارنا وما نعمله بغير اختيارنا كذلك كُتِبَ أنه يحصل منّا بغير اختيارنا.
اللهُ تعالى يأمرُ بالخير ولا يأمر بالشرّ لكنه هو الذي قدَّرَ الخيرَ والشرَّ فما كان من أعمالنا التي نعملها باختيارنا اللهُ تعالى قدَّرَ أنها تكون باختيارنا أنها تكونُ منا باختيارنا أي أننا نعملها باختيارنا وما كان بغير اختيارنا الله قدَّرَ أنها تكون منا بغير اختيارنا، واختيارُنا ممزوجٌ بجَبرٍ ليسَ اختيارًا مَحْضًا اختيارٌ فيه جَبرٌ ممزوجٌ بجَبرٍ لأنه حتى هذا الاختيارُ اللهُ خلقَهُ.
العبدُ مَظهَرٌ لِجَريانِ تقاديرِ الله تعالى فالعبدُ له اختيارٌ ممزوجٌ بجَبرٍ، الحركةُ التي يَتَحرَّكُها الإنسانُ قصْدًا والحركةُ التي يتحركها الـمُرتَعِشُ الذي أصابته الرّعشةُ ألا نَجِدَ فرقًا بين هذه وهذه هذا الاختيارُ الذي لنا. مَن تحرَّكَ بإرادةٍ فهو بقَدَرِ الله ومَن تحرَّكَ بدونِ إرادةٍ فهو بقَدَرِ الله، الواحدُ مِنَّا كما أنه لا يستطيعُ أن يزيدَ في جسمهِ عُضوًا واحدًا غيرَ الذي خلقه الله تعالى كذلك لا يستطيعُ أحدٌ مِنَّا أن يتكلَّمَ أو يتحرَّكَ أو ينظُرَ أو يطرِفَ بدونِ مشيئةِ الله وبدونِ خلقه. والدليلُ على ذلك مِن شاهِدِ العيانِ أنَّ الواحدَ منا لمّا يتكلمُ ببعض الحروفِ يتكلمُ بها من شَفَتَيهِ تخرجُ من الشَّفَتَينِ بحيثُ إذا لم يُطبِقِ الشَّفَتَينِ لا تخرُجُ هذه الحروفُ وبعضُ الحُروفِ ننْطِقُ بها من الحَلْقِ ليسَ من الشفتَين الواحدُ منا لا يستطيعُ أن يُخرِجَ الحرفَ الذي جعله الله يخرُجُ من الشفتَين أن يُخرِجَهُ من الحَلقِ وكذلك العكسُ لا يستطيعُ، مَن يستطيع أن يتكلمَ بالباء وهو فاتحٌ شَفَتَيهِ من غيرِ أن تَنْطَبِقَ من غير إطباقِهِما لا يستطيعُ أحدٌ مِنَّا أن ينطِقَ بالباءِ كذلك العكس حرفُ الحاءِ لا تطلُعُ إلا مِنَ الحلقِ فإذا واحدٌ مِنَّا أطبقَ شَفَتَيهِ إطباقًا لا تخرُجُ الحاءُ إلا بفَتْحِهِما، هذا الدليلُ على أنَّ الإنسانَ لا يعمل شيئًا إلا بخلق الله وقَدَرِهِ.
الإنسانُ إذا يسَّرَه الله تعالى في هذه الحياةِ لِعَمَلِ الخيرِ أي للإيمانِ والطاعاتِ وتَجَنُّبِ المعاصي وماتَ على ذلك فهذا بفضلِ الله تعالى، اللهُ تعالى تفضَّلَ وتكرَّمَ عليهِ بهذه النِّعَمِ فلله الفضلُ والـمِنَّةُ على هذا العبدِ اللهُ تعالى هو الذي له الـمِنَّةُ عليه. العبدُ ليسَ له على الله مِنَّةٌ ماذا يَدَّعي على الله، هو خلقَ جسمَهُ هو خلقَ كلَّ ما فيه العينَ واليدَ وحاسةَ السمع وحاسةَ اللمسِ وحاسةَ الشمّ إلى غيرِ ذلكَ ثم هو الذي مكَّنَهُ منَ المشيِ ومكَّنَهُ من النُّطقِ بالخير ومكَّنهُ من تناول عمل الخير، هو الذي يسَّرَ عملَ البِرّ والإحسانِ لهذا العبدِ فالعبدُ ليسَ له على الله مِنَّةٌ بل اللهُ هو الذي له مِنَّةٌ على العبد. فالأنبياءُ الذين هم أفضلُ خلق الله ليس لهم على الله مِنَّة بل الـمِنَّةُ لله عليهم. كذلك الملائكةُ الذين منه خُلِقُوا في طاعةِ الله تعالى لا يفتُرُونَ عن ذكرِ الله لا نومَ يشْغَلُهُم عن طاعةِ الله ولا أكلَ ولا شربَ حتى هؤلاءِ اللهُ تعالى له الـمِنّةُ عليهم مع أن الواحدَ منهم مضى له من العمر ما يعلم الله من آلاف السنين.
أمَّا من يسَّرَهُ اللهُ للكفر والمعاصي فلا يَلُومَنَّ إلا نفسَهُ اللهُ تعالى هو خلق فيهم هذا الكفرَ وهذه المعاصيَ والعبدُ له فيه اختيارٌ لكنه اختيارٌ ممزوجٌ بجَبرٍ له في ذلك، واللهُ تعالى لا يكون ظالمًا إذا عذَّبَ هذا العبدَ في الآخرةِ على كُفرهِ ومعاصيهِ لا يكونُ ظالمًا.
ثم هذا الكافرُ إذا عذَّبَهُ اللهُ تعالى في الآخرةِ بالعذابِ الأليمِ فهو مُستحقٌّ لهذا واللهُ تعالى عَدْلٌ في ذلك لا يلحقهُ ظُلم. إذا عذّبَ هذا الكافرَ على كفره الذي هو خلقه فيه وعذب العصاة مَن شاء من عصاة المسلمين من شاء أن يعذبهم على هذه المعاصي التي عملوها بخلق الله ومشيئته وقدَرِهِ فالله تعالى لا يكون ظالمًا لأنه حاكمٌ ليس له ءامرٌ ولا ناهٍ هو الآمِرُ وهو النّاهي لا ناهيَ فوقَهُ ولا ءامِرَ فوقه.
نحنُ العباد لولا أنَّ الله تعالى أمرَ ونهى ما كان علينا عقابٌ على أي عملٍ نعمَلُهُ لكنه سبحانه وتعالى أمرنا على ألسِنَةِ الأنبياءِ، الأنبياءُ أبلغُونا أنَّ اللهَ أمركم بكذا افعَلُوا كذا افعلوا كذا افعلوا كذا ونهاكم عن كذا لا تفعلوا كذا لا تفعلوا كذا لا تُشرِكُوا ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ ولا تظلِموا لولا ذلك ما كان علينا سؤالٌ في الآخرة لكن الله تبارك وتعالى بعثَ الرسول والأنبياء فأبلغونا فانقطعَ العذرُ عنا ليس لنا عذرٌ.
اللهُ تعالى هو خالقُنا وخالقُ ما فينا ليسَ له شريكٌ في ذلك، هو خالق حركاتِنا وسَكَناتِنا ليسَ له شريكٌ في ذلك، فعّال لما يُريد، فالذي لا يُؤمنُ بهذا بل يعتقدُ خلافَهُ فقد ضاعَ عمرُه مهما عَمِلَ من الإحسانِ إلى الناس في هذه الحياةِ ومهما قدَّم من العَطْفِ على المساكينِ والفقراءِ والأراملِ والأيتامِ فإنه ليس له ذَرَّةٌ من الثواب في الآخرةِ لأنه ما ءامنَ بالقدر. أليس قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي سبق ذكره ولو مِتَّ على غير ذلك دخلتَ النارَ اهـ ومذكورٌ في هذا الحديث لو أنفقتَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا في سبيلِ الله ما قَبِلَهُ الله منك اهـ.
مَن لم يُؤمن بالقَدَر لو كان يتصدَّقُ بمثلِ جَبلِ أحُدٍ الذي في المدينةِ من الذهب للجهادِ في سبيل الله لو عبَّأَ الجيوشَ وأمدَّهُم بهذا المالِ الكثيرِ لا يقبل الله منه شيئًا وليسَ له عند الله ذرةٌ من الحسناتِ.
الإيمانُ بالقَدرِ يتبَعُ الإيمانَ بالله تعالى فمَنِ اعترفَ أنَّ الله تعالى موجودٌ وأنه لا يشبه شيئًا لكن اعتقدَ خلافَ الإيمانِ بالقَدَرِ فإنه لا ينفعه عملٌ عَمِلَهُ في الدنيا لا ينفعه عمل من الأعمال وكلُّ أعمالِه هباءٌ منثورٌ.
ثم الله تبارك وتعالى أخبر في كتابه الذي أنزله على نبيّه وفي الكُتب التي أنزلها على أنبيائِه قبل نبينا محمّد أخبر أن الإنسان عليه أن يعملَ ما أُمِرَ به على ألسنةِ الأنبياءِ وينتهي عمّا نُهِيَ عنه على ألسنة الأنبياء.
ومن جملةِ ما نُهِيَ عنه على ألسنة الأنبياء أنه لا يضرُّ المرءُ نفسَهُ اللهُ تعالى قال في القرءان الكريم: ﴿ولا تَقْتُلوا أنفُسَكُم﴾([4]) ومعناهُ: تجنَّبُوا الأسبابَ التي يكون فيها عادةً العَطَبُ والهلاكُ تجنَّبُوها، بعد أن أخبرنا أن كل شيءٍ يدخل في الوجودِ فهو بمشيئةِ الله وخلقه وأنه لا يقع شيء إلا بخلقه وتقديره أمرَنا بتوقِّي المهالك معناهُ أنتم اسْعَوا في الأسباب ويكونُ ما قدَّرْتُ ويتَنَفَّذُ ما قدَّرْتُ. الإنسانُ لمّا يخرجُ لحاجتهِ صباحًا إلى خارجِ منزله ماذا يعتقدُ إن كانَ مؤمنًا، يعتقدُ إن كان مؤمنًا إنْ كان كُتِبَ لي وقدَّرَ الله تعالى في الأزل أني في سَعْيي هذا يُصيبني كذا وكذا من الخير مما ينفعني فلا بدّ أن يحصلَ وإن لم يقدّر لي الله تعالى في الأزل أن أنال خيرًا في ذهابي هذا لا أنالُ شيئًا. على هذا الاعتقاد يكون خروجه من منزله إن كانَ مؤمنًا. فالله تعالى أمرنا بالإيمان بالقدرِ وأمرنا بالسَّعيِ بتحصيل المصالح الدينية وما لا نَستغني عنه من المصالح الدنيوية أيضًا أمرنا بالأمرين فعلينا أن نمتثل.
ثم الله تبارك وتعالى جعل عِلْمَ الإنسان علمًا محدودًا ما أعطى للإنسان علمًا مطلقًا ليس له حدٌّ ولا نهايةٌ حتى الأنبياءُ ما أعطاهُم العلم بكل شيء وكذلك الملائكةُ ما أعطاهم العلم بكل شيء فالشيءُ الذي وُجِدَ وحصل علِمنا أنه حصل بمشيئة الله وتقديره وأما الشيءُ الذي لم يحصُلْ فما أخبر الله تعالى في كتابه بأنه سيصير نؤمن بأنه سيصير ولو لم يصِر بعدُ نؤمن بأنه لا بد أن يصير انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
[1])) رواه أحمد في مسنده باب حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[2])) رواه أبو داود في سننه بابٌ في القَدَرِ.
[3])) سورة فصلت/الآية 21.
[4])) سورة النساء/الآية 29.