بسم الله الرحمن الرحيم
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق لسنة سبع وسبعين وتسعمائة وألف ر وهو في بيان معنى الشرك وأحوال الناس بعد الموت. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتنبوا السَّبْعَ الـمُوبِقاتِ قالوا وما هُنَّ يا رسول الله قال: الشِّرْكُ باللهِ والسِّحرُ وقَتْلُ النفسِ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ وأكْلُ الربا وأكلُ مالِ اليَتيمِ والتَّوَلّي يومَ الزَّحفِ وقَذْفُ الـمُحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤمِناتِ([1]) اهـ رواه البخاريُّ.
يقولُ الرسولُ عليه الصلاة والسلام ابتعدوا عن هذه المعاصي السبع الموبقات أي الـمُهلِكاتِ لأنَّ كُلَّ واحدةٍ من هؤلاء السبعِ تُهلِكُ مَن ارْتَكَبَها في الآخرةِ.
الأولى من هؤلاء هيَ الشركُ بالله معناه عبادةُ غيرِ اللهِ، معنى عبادةِ غيرِ الله التذَلُّلُ لغير الله نهايةَ التذلل فمَن تذلَّلَ لغير الله نهايةَ التذلل فقد أشركَ باللهِ عبدَ ذلك الشيءَ الذي تذلَّلَ له نهايةَ التذلل. وذلك هو الذنبُ الذي لا يُغفرُ لأنهُ كفرٌ الذي تذلل لغير الله نهايةَ التذلل فقد أشركَ عبدَ غيرَ الله كالذي يسجد لصنم. أما السجودُ الذي سَجَدَهُ الملائكةُ لآدم لمَّا أمَرَهُم اللهُ تعالى فذلكَ ليس شِركًا لأنَّ الله هو أمرهم بالسجودِ تعظيمًا لآدم واحترامًا لهُ لا عبادةً لآدم، حتى يعرفوا أن هذا الإنسان الذي خلقَهُ اللهُ تعالى له شأنٌ عظيمٌ عند الله لذلك أمرهم أن يسجُدوا له تعظيمًا وتحيةً لا عبادةً لآدم فذلك ليس من الشرك لأنهم لولا أنَّ اللهَ أمرَهُم أن يحترموه بهذا السجود الذي هو سجود تحيةٍ ما سجدوا له فأولئكَ ما أشرَكوا بالله بل أطاعوا اللهَ تعالى لأنهم ما سجدوا هذا السجودَ إلا طاعةً لله.
ألسنا نحن نحبُّ الأنبياءَ ونحترمُهم لأنَّ الله أمرنا أن نحبَّ الأنبياء ونحترمهم وكذلكَ في ذلك الوقت فرضَ الله تعالى على الملائكة أن يسجدوا لآدمَ ليعلّمهم أنَّ هذا الذي هو خلقٌ جديدٌ سيكونُ له شأنٌ عظيمٌ عند الله ومرتبةٌ ليست لغيره ليست لأحدٍ من الملائكة ولا من غيرهم الله تبارك وتعالى له أن يأمرَ عبادَهُ بما يشاء وله أن يَنْهَى عباده عمّا يشاء، له أن يُحرِّمَ علينا ما يشاء وله أن يفرض علينا ما يشاء. وكان مما أُمرَ به الملائكةُ أن يسجدوا لآدمَ في أولِ نشأةِ ءادم في أول ظهوره كان مما فرضَ اللهُ تعالى على أولئكَ الملائكةِ أن يسجدوا لآدمَ تحيةً وتعظيمًا لا عبادةً لآدم لأنَّ الله لا يأمرُ أن يعبدوا غيره فكان الفعلُ الذي فعلوه في ذلك الوقت من السجود لآدمَ حقًّا بل كان لهم فيه ثوابٌ لأنَّ الله أمرهم، ثم لما أنزلَ اللهُ تباركَ وتعالى الوحيَ على محمدٍ حرَّمَ أن يسجدَ أحدٌ لأحدٍ صارَ حرامًا أن يسجدَ أحد لأحدٍ. كان مُعاذُ بنُ جبلٍ جاءَ من برِّ الشامِ فلما قدِمَ إلى المدينةِ سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: ما هذا قال معاذٌ: يا رسول الله إني وجدتُ أهلَ الشام يسجدون لبطارقتهم وأنت أولَى بذلك فقال: لا تفعلْ لو كُنتُ ءامُرُ أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجِها([2]) اهـ المعنى أن الله حرَّمَ أن يسجدَ أحدٌ لأحدٍ لا بنيةِ التعظيمِ ولا بنيةِ العبادةِ لا بنية الاحترامِ ولا بنيةِ العبادة، الله تعالى حرَّمَ ذلك فيما أنزلهُ من الوحيِ على سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم أما لمّا خُلِقَ ءادَمُ فالله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيمًا وتحيةً لا عبادة لآدم وذلك ليس من الشرك.
الشركُ هو مثلُ أن يسجدَ إنسانٌ لإنسانٍ مِثلِهِ عبادةً له أي ليتذلل له نهايةَ التذلل أو أن يسجد لصنم أو لإبليسَ ونحوُ ذلك. هذا هو الشرك وهو أكبر الذنوب عند الله ثم كذلك سائر أنواع الكفر عند الله أعظمُ الذنوب. من الكفر تكذيبُ الرسول صلى الله عليه وسلم أو سبُّهُ أو سبُّ أي نبيٍّ من أنبياء الله وكذلك سبُّ مَلَكٍ من ملائكةِ الله جبريلَ وإسرافيلَ وعزرائيلَ. اليهود كانوا يقولون عن جبريلَ إنهُ عدوٌّ وهؤلاء الذينَ لا يستسلمون لقضاء الله تعالى يسبون عزرائيل ويجعلونه كأنه خلقٌ معتدٍ ظالمٌ يفرق بين الحبيب وحبيبه وبين الأم وولدها ظلمًا وعدوانًا يعتبرونه هكذا فيشتمونه ويلعنونَهُ هؤلاء مثل اليهود فِعْلُهُم كفرٌ، وكذلك إنكارُ ما جاء به رسول الله كإنكارِ الصلوات الخمس وإنكار صيام رمضان وإنكار الحج وإنكار الزكاةِ وإنكار تحريم الخمر وإنكار تحريم الزنى ونحوِ ذلك مما هو تكذيبٌ للرسول صلى الله عليه وسلم فهو كفرٌ.
الكفر سائر أنواعه لا يغفره الله تعالى إنما يمحوه الإسلامُ، الله تعالى يغفر الكفر بالإسلام. نوحٌ عليه السلام كان يقول لقومه لما وقعوا في الشرك فعبدوا غير الله عبدوا الأصنامَ الخمسةَ كان يقول: ﴿اسْتَغْفِروا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غَفَّارًا﴾([3]) أي ادخلوا في الإسلام حتى يغفرَ لكم اتركوا عبادة الأوثان واعبدوا الله وحدَهُ وءامنوا أنِّي نبيُّ الله بهذا يغفر الله لكم. هذا معنى الآية ليس المعنى قولوا أستغفر الله أستغفر الله يُغفَرْ لكم إشراكُكم وتكذيبُكم لنبيّه للنبيّ نوح الذي أرسله إليكم إنما المعنى ﴿استَغفروا ربَّكُمْ﴾ هنا أي اطلبوا منه مغفرة ذنوبكم بالإسلام لأن الكفر لا يُمحَى إلا بالإسلام، مَن أسلمَ وتركَ ذلك الكفر الذي كان عليه فقد استغفر ربه. الإسلامُ نفسُهُ استغفارٌ طلبُ المغفرة من الله تعالى، لما يخرج الكافر من كُفْرِهِ الذي كان فيه ويدخل في الإسلام هذا استغفارٌ أي طلبٌ من الله تعالى أن يمحوَ هذا الكفر. ﴿فقُلتُ اسْتَغفِروا ربَّكُمْ إنَّهُ كانَ غفَّارًا﴾ معناه اطلبوا مغفرةَ كفركم بالدخول بالإسلام.
ثم من أنواع الشرك عبادةُ الكواكب. السحرةُ الذينَ يستعملون السحرَ يعبدون الكوكب يلبسون لباسًا خاصًّا للاستنجادِ بالشمس يستقبلون الشمسَ بزيٍّ خاصّ يبخرونه ببخورٍ خاصّ ثم يستقبلون الشمسَ فيقولون السلام عليك أيتها السيدة المنيرة افعلي لنا كذا وكذا نرجو منك كذا وكذا. كذلك للقمرِ له طريقةٌ خاصةٌ عندهم في كيفيةِ عبادَتِهِ، يلبسون لباسًا خاصًّا ثم يبخرون بَخُورًا خاصًا غير البُخور الذي يقولون إن الشمس تحبه ويستقبلون القمر ويخاطبونه متذللين متواضعين متمسكنين السلام عليك أيها السيدُ المنيرُ افعل لنا كذا وكذا، وكذلك لخمسة من الكواكب الأخرى لهم طريقةٌ خاصةٌ في عبادة كلٍّ منها. هذا أيضًا شركٌ كفر.
النبيُّ عليه الصلاة والسلام ذكر في هذا الحديث الشركَ، وكلُّ أنواع الكفر مثلُ الشرك أي عبادةِ غير الله كفرٌ وتكذيبُ رسول الله كفرٌ والاستهزاءُ به كفرٌ وإنكارُ دينِهِ وسبُّ أي نبيٍّ من أنبياءِ الله كفرٌ وكذلكَ احتقارُ أيّ نبيّ من أنبياء الله كفرٌ وكذلكَ سبُّ ملكٍ من ملائكةِ الله جبريلَ أو عزرائيلَ وغيرِهِما كفرٌ، والكفرُ بسائر أنواعِهِ رأسُ الذنب لا يوجد ذنبٌ أعظمُ من الكفر. لا يُعادَلُ الكفرُ بمئاتٍ من السرقةِ وبمئاتٍ من القتل لا يُعادَلُ.
الكفرُ هو أعظمُ الذنوبِ عند الله لو كان الإنسان يسرق أكفانَ أمواتِ المسلمين يفتح قبورَهم ويأخذُ أكفانهم ليبيعها ويأكلَها ويقتل المئات من النفوس البريئة المسلمة ويسكر ويخمر ويَزني ويَعتَدي ويغشّ، مهما فعل من الذنوب والمعاصي فلا يُعادَلُ ذلك بالكفر. الكفرُ هو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى.
بعضُ الناس الذين لا يفهمون إذا قيل لهم إنَّ إنسانًا سبَّ الله تعالى أو سبَّ النبيَّ مسبةً واحدةً وءاخَرَ يسرق على الدوام أموالَ الناس ينهب هذا ويقتل هذا ويضرب هذا ولكنه يؤمن بالله ورسوله مسلمٌ أيُّ هذين أفضلُ أيُّ هذين أشرفُ، يقولون هذا الذي يسُبُّ الله تعالى أو يسبُّ النبيَّ لكنه لا يَعتدي ولا يُؤذي أحدًا يقولون هو الأشرف، ويقولون أيضًا المسيحيُّ الشريف أفضل من المسلم غير الشريف هؤلاء عند الله تبارك وتعالى كفارٌ، عند الله تبارك وتعالى كفار. المسلم الكامل يبتعد عن هذه الأشياء كلّها لكن إذا وُجِدَ مسلمٌ رذيلٌ لكن لا يسبُّ الله ولا يسبُّ النبيَّ ولا يسبُّ الملائكة لا يكفر أيَّ كفرية يتجنبُ الكفرَ بجميعِ أنواعه لكنه فيه هذه الخصال أنه يسرق وينهب ويقتل ويضرب وءاخرُ نصرانيٌّ يعبد المسيحَ ويُكذِّبُ محمدًا أو من عادتِهِ أنه يسبُّ الله أيُّ الرجلَين عند الله تبارك وتعالى خيرٌ، هذا المسلمُ الذي هو رذيلٌ خائنٌ خبيثٌ نهَّابٌ سرَّاقٌ هذا أفضلُ عند الله وذلك لأن الله تعالى قال: ﴿إنَّ شرَّ الدَّوابِّ عندَ اللهِ الذينَ كفَرُوا فهُمْ لا يُؤمِنُونَ﴾([4]) شرُّ الدواب عند الله أي شرُّ من يمشي على وجهِ الأرض الكفارُ. الله تباركَ وتعالى أخبرنا في القرءان الكريم أنَّ الكفار شرُّ ما يمشي على وجه الأرض، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: والذي نفسي بيدِهِ لمَا يُدَهْدِهُهُ الجُعَلُ بأنفِهِ خَيرٌ مِن ءابائِكُم الذينَ ماتوا في الجاهليةِ([5]) اهـ أي الذين كانوا يعبدون الأوثان أي إنَّ الذي يسوقُهُ الجُعَلُ بأنفهِ أي القَذَرُ الذي يخرجُ من بني ءادمَ ثم الجُعَلُ أي الخنفساء يسوقُه بأنفه ليتخذه قوتًا هذا القذرُ خير من أولئكَ المشركين، وهكذا كلُّ خلقِ اللهِ من حشرةٍ أو بهيمةٍ عند الله تعالى خيرٌ وأفضلُ من الكافر لكن المسلم الكامل هو الذي سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، هذا المسلم الكامل، لا يكون مؤمنًا كاملاً حتى يُؤَدِّيَ جميعَ ما افترضَ الله عليه ويجتنبَ جميعَ ما حرَّمَ الله عليه.
المحرماتُ معروفةٌ، الكبائر والصغائر ما حرَّمَهُ الشرعُ فهو حرامٌ فالمسلمُ الذي يجتنب المحرمات جميعَها ويؤدي ما افترضَ الله عليه من صلاة وصيامٍ وزكاةٍ وغير ذلك ويأمر بالمعروف وينهَى عن المنكر ويُطعِمُ الجائعَ إن استطاع ويكسو العاريَ إن استطاع فهذا هو المسلم الكامل وله امتيازٌ عن المسلمين العاديين، لهُ امتيازٌ في الآخرةِ المسلمُ الذي وصل إلى هذه الدرجةِ أنه يُؤدّي جميعَ ما افترضَ الله عليه ويجتنبُ جميعَ ما حرَّمَ الله عليه.
ومن جُملة ما افترضَ الله تعلُّمُ العلم الذي لا يستغنَى عنهُ من علم الدين من علم التوحيد وأحكام الصلاة ومعرفةِ معاصي القلب ومعرفة معاصي السمع والبصر والعين والرجل والبطشِ والبطن والفرج فمَنْ أدَّى جميع الواجبات واجتنب جميعَ المعاصي فهذا له مزيةٌ في القبر والآخرة أما في القبر فإنَّ الله تعالى يجعل لهُ قبرَهُ روضة من رياض الجنة ويُوَسِّعُهُ عليه سبعينَ ذراعًا في سبعين يملؤه نورًا كنورِ القمر ليلةَ البدر ولا يُسلِّطُ عليه هامّةً ولا نملاً أو غيرها ويملأ قبره من رائحة الجنة.
الأنبياء بعدما ماتوا لا يسكنون الجنة مع أنهم أفضل خلق الله بل يسكنون قبورهم، أحياهم الله فهم يُصَلُّونَ في قُبورِهم وقُبورُهُم رياضٌ من رياض الجنة لا يَشْكُونَ ضيقًا لا يشكُونَ شيئًا يشمئزون منه لا يشكون شيئًا يؤذيهم.
الروح تُعادُ بعدَ برهةٍ وجيزةٍ إلى الجسد فأرواحُ الأنبياءِ تظَلُّ مع أجسادِهم في القبورِ إلى يوم القيامة، ثم يومَ القيامة عندما يَنفُخُ إسرافيلُ في الصورِ يُصْعَقُونَ أي يُغشَى عليهم ليس من الخوف وليس من الألم أو الفزع إنما الأمر كتبه الله تعالى وحتَّمَهُ يُغشَى عليهم ثم يعودون إلى صَحْوِهِم فيخرجونَ من القبور أما أرواحهم ما فارقتهم إلا تلك اللحظةَ لما كانوا على وجه الأرض وقُبِضَت أرواحهم فصُعدَ بها إلى السماء السابعة، ملائكة الرحمة صعدوا بأرواحهم ثم عادوا بأرواحهم إلى هذه الأرض ثم أُعيدَت أرواحهم إلى أجسادهم في القبر بعدما دُفِنَ الجسدُ فورًا. هذه لأرواح الأنبياء ولأرواح غير الأنبياء حتى الكفار بعدما تُدفَنُ أجسادهم في القبر أرواحُهُم تُعادُ إلى أجسادهم.
الكفارُ لما يموتون تأخذُ أرواحهم ملائكةُ العذاب ويصعدون بها في هذا الفضاء فالملائكة الذين بين الأرض والسماء وهم أفواج ليسوا فوجًا واحدًا يقولون لهم ما هذا الروحُ الخبيثُ فيقال لهم هذا فلان بن فلان فيقال لهم اطرحوه ثم ينزلون به من باب الأرض هذه والأرضُ لها بابٌ خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض ينزلون بهذا الروح من هذا الباب إلى الأرض السابعة إلى مكان يسمّى سِجّين حتى يُسَجَّلَ اسمُهُ هناك ثم يُعادُ إلى هذه الأرض فلما يُدفَنُ الجسد في القبر تعمد روح الكافر إلى جسده هذا ثم لا يفارقه إلى أن يبلَى الجسد أي إلى أن يأكل الترابُ الجسدَ لكنه يكون في نكد شديد في قبره ظلمةٌ وضيقٌ وضغطة القبرِ وتسليطُ حيَّاتٍ عليه غيرَ الحيَّاتِ التي نعرفها نحن، توجد حيَّاتٌ خلقها الله تعالى لتعذيبِ الكافرين في قبورهم. ثم كلَّ يومٍ قبل الظهر مرةً أول النهار وءاخرَ النهار مرةً يُعرَضُ عليه مقعدُهُ الذي يقعده في جهنم يوم القيامة، يقول له الملَكُ الـمُوَكَّلُ به من ملائكةِ العذاب يقول هذا مقعدك حتى تبعث إليه يوم القيامة. بالنظر إليه يدخُلُهُ ضيقٌ وفزعٌ وخوف وارتعابٌ شديدٌ، يدخل عليه نكدٌ شديدٌ كلما ينظرُ أولَ النهار وءاخر النهار إلى جهنم التي هيَ تحت الأرض السابعة تحت المكان الذي سُجِّلَ فيه اسمُهُ، بهذا النظر يتنكد برؤيته لمقعده في جهنم كلّ يومٍ مرتين يتعذبُ ثم بضيق القبر وظلمةِ القبر ووحشتِهِ والهوامّ التي تُسلَّطُ عليه يتعذب بها ثم بعد أن يأكل الترابُ جسَدَهُ روحُهُ يُنقَلُ إلى سجين إلى الأرضِ السابعة إلى المكان الذي سُجِّلَ فيه اسمه، يعيش هناك في نكدٍ زائد يكون أقربَ إلى جهنم، يكون ما دخلَ جهنَّمَ بل يكون قريبًا من جهنم، جهنَّمُ تكونُ تحته إلى يوم القيامة ثم يومَ القيامة يعيد الله تعالى الجسد الذي أكله التراب يعيد هذا الروح إليه إلى ذلك الجسد عَينِهِ ثم يُحشَرُ ويُبعَثُ ثم يُفضحُ هناك في مجمعٍ يومَ القيامةِ ثم يُبعَثُ به إلى جهنم.
أما المسلمُ التقيُّ الذي كان يُؤدي جميعَ ما افترضَ الله ويجتنب جميع ما حرَّم الله عليه هذا قبل أن يموتَ قبل أن تخرجَ روحُه تأتيه ملائكةُ الرحمة الذين شكلهم غيرُ شكل ملائكةِ العذاب، ملائكةُ العذاب الله تعالى خلقهم سودًا سودًا مَخُوفين منظرهم شيءٌ مَخُوفٌ شيءٌ مرعب هؤلاء للكفار. أما ملائكة الرحمة بيضٌ كأنَّ وجوههم الشمس يدخل على المؤمن التقيّ لـمَّا يراهم المؤمنُ التقيُّ عند سكرات الموت يدخل عليه السرور وإن كان هو يَتَلَوَّى من ألم الموت لكن برؤيتهم يدخل عليه فرحٌ مهما كان شاعرًا بألم الموت لكنه يفرح برؤيتهم لما ينظرون إليه نظراتِ استبشارٍ نظرَ إكرامٍ نظرَ إجلالٍ ينظرون إليه بوجهِ تعظيمٍ واحترامٍ وإحرامٍ ويُبشِّرونَهُ فيدخل عليه السرور ثم يأتي عزرائيل فيبشره ثم بعدما يقبض عزرائيلُ هذه الروحَ هؤلاء ملائكةُ الرحمةِ يأخذونها فيصعدون بها إلى السموات وفي كلّ سماءٍ يُشيّعه المقرّبون في تلك السماء إلى السماء التي فوقها فيرى هذا الإكرامَ وهذا التعظيمَ له فيدخله سرورٌ عظيم وهكذا إلى السماء السابعة ثم يُؤمَرونَ بأن يردوهُ إلى الأرض فيردونهُ إلى الأرض فيدخل إلى القبر بعد ما يدخل الجسدُ إلى القبر، يدخل الروح القبرَ فيعود هذا الروح إلى جسده ويُوَسَّعُ عليه قبرُهُ ويُنوَّرُ له كَنورِ القمر ليلة البدر ويُملأُ من رائحةِ الجنة لكن كل هذا محجوبٌ إلا عنه وعن بعض عباد الله الصالحين، لو فتحَ الناسُ العاديونَ قبرَ هؤلاء المؤمنينَ الأتقياءِ لا يرونَ هذا الاتساع، اللهُ حجبهم عن رؤيته لا يرونَ هذا الاتساعَ ولا يرونَ النور الذي ملأ هذا القبر ولا يَشَمُّونَ تلك الرائحة رائحة الجنة هم محجوبون إلا بعضَ عباد الله الصالحين، اللهُ تعالى يُريد، يُطلِعُهُ، بعضُ الصالحين يُريهُمُ اللهُ أما أغلب البشر فهم محجوبونَ عن رؤية حالةِ قبر المؤمن التقيّ ثم بعدما يأكل التراب جسده يعود هذا الروح إلى الجنة يدخل الجنة لكنه لا يأخذُ مكانَهُ الذي خصصه الله تعالى له ليَتَبَوَّأهُ يوم القيامة، في الآخرة يتبوأه لكنه الآن في هذه المدة له منطلقٌ أرواح المؤمنين لهم مُنطَلَقٌ في الجنة يأكلون من أشجارِ الجنة أي الأرواح تأكل وتكون الروح بشكل طائر إلى أن تقوم القيامة فيومَ تقوم القيامة يُعيدُ الله أجسادهم التي أكلَها الترابُ ويعيد هذه الأرواحَ إلى تلك الأجسادِ ثم تنشقُّ عنهم القبور فيخرجون من القبور ثم يُجازَونَ بأعمالهم لا ينالهم شيءٌ من أهوال يوم القيامة، أي من الأمور المفزعة، لا يصيبهم شيءٌ لا حرُّ الشمس تؤذيهم يوم القيامة ولا يحسُّون بالجوع والعطش بل يأكلون قبل أن يدخلوا الجنة ويشربون وهم لابسون لا يحشرهم الله تعالى كغيرهم من البشر حفاةً عراة بل يُحشَرون راكبين ليسوا مشاةً بأبدانهم بل يُؤتَونَ بنُوقٍ لم ترَ الخلائقُ مثلَها عليها رحائلُ الذهب ثم يدخلون الجنة فيصيرون في نعيمٍ أعظم.
والمؤمنُ يرى من أقربائه مَن كان ماتَ على الإيمان أما مَن مات على الكفر لا يشتاق إلى رؤيته أما إن كان ماتَ على الإيمان اللهُ تعالى يُذكِّرُهُ به فيشتاق له فيجتمع به بسهولة، الاجتماعُ هناك أسهلُ، هناك بعد دخول الجنة توجد لكل واحد من أهل الجنة خيل من ياقوت أحمر له جناحان من ذهب يطير به حيث ما أراد حيث ما شاء لا يتكلف له علفًا لا يتكلف له أن يسقيَه ماء لا يتكلف له شيئًا، بلا تعبٍ لا مؤنةٍ الله تعالى يُسخِّرُ له كلما أراد أن يطير إلى مكانٍ يطير على هذا الفرس على هذا الخيل.
ثم في الجنة هؤلاء المؤمنون الأتقياءُ لهم ما ليس لغيرهم من أهل الجنة ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطر على قلب بشر هذا مزيةُ الأتقياء أما المسلمون العاديّون الذين ماتوا قبل أن يصيروا على هذه الحال وهي أداء الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها الذين يموتون قبل أن يتوبوا بأن يتداركوا أنفسهم بأداء الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها هؤلاء صنفان صنفٌ اللهُ تعالى لا يعذبهم في قبورهم ثم في ءاخرَتِهِم لا يعذبهم يعفو عنهم يسامحهم وبعضهم يعاقبُهم في القبر وفي الآخرة([6]) لكن عقوبَتُهُم أي عذابُهم في القبر ينقطعُ بعد برهة من الوقت، يُمكِنُ بعض الناس يُنَكَّدُ عليه في قبره يومًا وبعضُ الناس إلى سبعة أيام وبعضُ الناس إلى أكثرَ من ذلكَ([7])، يُنَكَّدُ في القبر بعض المسلمين العصاة الذين ماتوا بلا توبة إلى برهة من الزمن ثم ينقطع عنهم العذاب ويُؤخَّرُ لهم بقية عذابهم وجزائهم إلى الآخرة فيُعَذَّبونَ في الآخرةِ بقيةَ عذابهم ثم يخرجون من العذاب ويدخلونَ الجنةَ فيعيشونَ كغيرهم في الجنة في نعيم لا ينقطع لا يصيبهم خطرٌ ولا مرضٌ ولا كبر ولا شيخوخة ولا بؤس لكنهم درجاتٌ هناك المسلمُ العاصي الذي مات بلا توبةٍ كالذي كان في الدنيا يقطع الصلاة أو يشرب الخمر أو يأكل في رمضان بلا عذرٍ أو يعمل نميمةً بين اثنين أو يعملُ السحرَ الذي ليس فيه كفرٌ([8]) ليس فيه عبادة كوكب ولا سجود لإبليس ولا نحو ذلك إنما فيه مزاولةُ أعمالٍ خبيثةٍ دون الكفر فهذا من كبائر الذنوب السحر الذي إن كان عُمِلَ للتفريقِ أو عُمِلَ للتحبيب فالمسلم الذي كان يتعاطى شيئًا من هذه الأشياء أو يمنع الزكاة ما كان يُزَكّي أو يأكل في رمضان بلا عذر أو كان يؤذي المسلمين يضربُهُم كان يضرب بغير حقٍّ أو كان يشرب خمرة أو كان يأكل مالَ اليتيم أو كان يطعن في مسلم أو مسلمة عفيفة يقول فلانة لها خِدْنٌ تعمل الفاحشة معه يقذفها بالزّنى ونحو ذلك هؤلاء أهلُ الكبائر هؤلاء قسمٌ منهم يُعذِّبُهُم اللهُ في قبورهم ثم يُؤخِّرُ لهم بقية عذابهم إلى الآخرةِ فيُعذَّبُونَ في جهنّمَ.
انتهى والله تعالى أعلم.
[1])) رواه البخاري في صحيحه بابُ رَمْيِ المُحْصَناتِ.
[2])) رواه ابن حبان في صحيحه ذِكْرُ تعظيمِ اللهِ جلَّ وعلا حقَّ الزوجِ على زوجتِهِ.
[3])) سورة نوح/الآية 10.
[4])) سورة الأنفال/الآية 55.
[5])) رواه أحمدُ باب مُسند عبدِ اللهِ بنِ العباسِ بنِ عبد المطلبِ، والطبرانيُّ في الكبير باب عِكرمةَ عنِ ابن عباسٍ والأوسطِ بابُ مَنِ اسمُهُ إبراهيمُ.
[6])) هذا في الغالب كما يدل عليه كلام بعض الصحابة وإلا فقد يعذب الشخص في القبر ثم لا يعذب في الآخرة. ذكره شيخنا رحمه الله.
[7])) وقال بعض العلماء عذاب القبر للمسلم لا يستمر أكثر من سبعة أيام.
[8])) السحر درجتان قسم منه فيه كفر والعياذ بالله وهناك سحر ليس فيه كفر.