الأحد ديسمبر 22, 2024

بيان ما جاء في عدد الأنبياء

أخرج ابن حبان من حديث أبي ذر أنه سألَ رسولَ الله عن عدد الأنبياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا» . وأنه قال كم الرسل منهم؟ فقال «ثلاثمائة وثلاثة عشر» . وصححه لكن في سنده من هو مختلف في توثيقه فلا تقوم به حجة عند جمهور علماء التوحيد، فقد قدمنا أنهم يشترطون للاحتجاج بالحديث في العقائد أن يكون الحديث مشهورًا وإن كان دون المتواتر فقد احتج الإمام أبو حنيفة بأخبار هي في درجة المشهور في بعض رسائله التي وضعها في العقيدة.

ثم إن الصحيح تفضيل الأنبياء على الملائكة بدليل قوله تعالى بعدما ذكر عددًا من الأنبياء منهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط {…وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ *} [سورة الأنعام] .

والعالمون يشمل الإنس والجن والملائكة. فبطل زعم من زعم تفضيل الملائكة على الأنبياء محتجًا بقوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ… *} [سورة النساء] ». انتهى كلام الإمام الهرري.

وقال الحافظ زين الدين العراقي في كتابه «طرح التثريب في شرح التقريب»[(197)]: «قال القاضي عياض: الأنبياء منزهون عن النقائص في الخَلق والخُلق سالمون من المعايب ولا يلتفت إلى ما قاله من لا تحقيق عنده في هذا الباب من أصحاب التاريخ في صفات بعضهم وإضافته بعض العاهات – المنفِّرة – إليهم فالله تعالى نزههم عن ذلك ورفعهم عن كل ما هو عيب ونقص مما يغض العيون وينفر القلوب، انتهى كلام القاضي عياض، وكذا ذكر النووي والقرطبي هذا» اهـ.

وعند شرحه[(198)] لحديث (خرَّ عليه جرادٌ من ذهب فجعل أيوبُ يحتثي في ثوبه) يقول الحافظ زين الدين العراقي: «الرابعة: فيه أنه لا يُحكَم على الإنسان بالشَّرَهِ وحُبِّ الدنيا بمجرد أخذه لها والإقبال عليها، بل ذلك يختلف باختلاف المقاصد وإنما الأعمال بالنيات، فمُحالٌ أن يكون أيوب عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المال حُبًّا للدنيا، وإنما أخذَه كما أخبر هو عن نفسه لأنه بركة من ربه» اهـ.

فإذا كان حب الدنيا مستحيلاً عليهم، فكيف يُنسَبُ بعد ذلك الزنى ليوسف أو أنه أراد الزنى أو أن داود أراد أن يقتل قائد جيشه ليتزوج امرأته بعده أو أن عيسى شرب الخمر أو أن إبراهيم أشرك بربه، أو أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى كل الأنبياء وسلم كان متعلق القلب بالنساء، أو كما يقول بعض الماجنين الساقطين بالعامية (شهونجي) أو (نسونجي)، وهذا وأمثاله مما يُنسَب للأنبياء مما لا يليق بمنصب النبوة ويُكَذِّبُ عصمتَهم هو كفرٌ وخروج من الإسلام.

وقال المفسر فخر الدين الرازي في كتابه «عصمة الأنبياء» ما نصه[(199)]: «والدعوة تستلزم أن يكون للداعي من المهابة في النفوس والإجلال في القلوب والمنزلة الكريمة عند الناس وظهور الكمال الخَلقي والخُلقي حتى تخضع لها الفطر السليمة والقلوب المستقيمة. ومن أجل هذا بعث الله أنبياءه في أشرف أقوامهم نسبًا وبرَّأهم من العيوب الجسيمة المشوهة وأعطاهم أكمل صفات الرجولة من الشجاعة وصدق العزيمة وقوة الإرادة وشدة البأس وسعة الصدر وحدة الذهن وذكاء القلب وطلاقة اللسان وحلاوة المنطق، وما إلى ذلك مما يكون به المختار لرسالة ربه أكمل الرجال في قومه وقبيلته وأملأهم للأسماع والأبصار» اهـ.

وقال المفسر الرازي أيضًا في كتابه المسمى «النُبوَّات» ما نصه[(200)]: «يمتاز النبي عن سائر البشر بالعقل الراجح والخُلق العظيم، من قبل النبوة ومن بعدها، لأن الناس لا يصدقون إلا من يثقون فيه» اهـ.

وقال أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي المعروف بابن خُمَير في كتابه «تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء» ما نصه[(201)]: «وغرضُ هؤلاء الفسقة في سرد تلك الحكايات المُورّطةِ قائلَها وناقلَها في سخط الله تعالى أن يُهَوّنوا الفُسوق والمعاصي على بُلْهِ العوامّ» ويقول[(202)]: «والذي يُعَوّل عليه في هذه القصة وما يُضاهيها من القصص، ما جاء به الكتاب العزيز، أو ما صحَّ عن الرسول – عليه السلام – من الخبر، وما سوى ذلك فيُطرَحُ هو ومُختَلِقُه وراويه إلى حيثُ أَلقت رَحْلَها أُمّ قَشْعم» ويقول[(203)]: «فصل. تفصيلٌ في معنى (الهَمّ) وتوضيح. فإن قيل: فما الحق الذي يُعوَّل عليه في هذا الهمّ؟ فنقول: أولا: إن بعض الأئمة ذكروا أن الإجماع منعقد على عصمة بواطنهم من كل خاطر وقع فيه النهي» ويقول[(204)]: «وأما قولهم: نظر في الكوكب فقال: «هذا ربي»، مُعتقدًا لذلك فباطل، فإن هذا القولَ كُفرٌ صُرَاح، وما كَفَر نبيٌّ قطُّ ولا سَجَد لِوَثَنٍ قبل النبوة ولا بعدها، ولا تَفَوَّه أحدٌ من الأمة بذلك قط» ويقول[(205)]: «فحاشاهم أن يكفروا اعتقادًا أو يتلفَّظوا بكلمةِ كُفر: صغارًا كانوا أو كبارًا» اهـ.

قال المفسر محمد بن أحمد القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرءان قال ما نصه[(206)] في قصة سيدنا أيوب في تفسير قوله تعالى إخبارا عن سيدنا أيوب (مسني الضر): «السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح مسني الضر فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: مسني الضر لاشتغاله عن ذكر الله، قال ابن العربي: ليس له سند وهو دعوى عريضة – أي كذبة كبيرة -». انتهى بالمعنى. وما قيل من الكذب والافتراء والازدراء بنبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام من أن الشيطان تسلط عليه أو لعب به أو أنه عليه السلام خرج منه الدود أو ألقي على مزبلة بني إسرائيل أو أن الرائحة الكريهة خرجت منه أو أنه قال لزوجته عندما سألته أين أيوب إن الكلاب أخذته وما قيل إن صاحبه قال فيه إنه لو لم يذنب ذنبا كبيرا عظيما ما ابتلاه الله هذه المدة أو قولهم إن الله عاقبه بالأمراض البشعة لأنه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو قولهم أن الله دنا من أيوب في غمامة فنودي أن أدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وغير هذا من دسائس اليهود على الأنبياء والأخبار الركيكة السخيفة المركبة التي ما أنزل الله بها من سلطان وعلى واضعها من الله ما يستحق من اللعنات والسخط والغضب.

وممن ردّ هذه الأكاذيب والأباطيل مروان سوار مدقق المصاحف في وزارة الأوقاف السورية في تحقيقه لكتاب تفسير البغوي المسمى (معالم التنزيل) فقال ما نصه: «قصة إبليس هذه من وضع أحد تلاميذه ولا يصح في دين الله سبحانه أن نصدق أن الله سبحانه يسلط هذا اللعين الخبيث على أنبيائه، حاشا لله عز وجل وهو القائل في كتابه الكريم في سورة الإسراء والحجر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} في معرض خطابه سبحانه لهذا اللعين، وقال سبحانه في سورة النحل {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} فمن هو الأولى بهذه الرعاية الإلهية؟ أليس الأنبياء والمرسلون ثم من بعدهم المؤمنون؟ اللهم بلى!! ويا ليت الإمام البغوي قد أغفل ذكر هذه الأباطيل وأراح منها الإيمان والإسلام».

وقال عمّا يفترى على سيدنا أيوب من أن الدود يخرج منه ثم يعيده إلى جسده ما نصه: «هذا زعم باطل يتنافى مع عصمة الأنبياء وحفظهم من الله تعالى من كل الأمراض المنفرة، وذلك لتبليغ الدعوة، ولا يعقل أن الله تبارك وتعالى يشغل نبيه أيوب عليه السلام بألاعيب إبليس اللعين عن أمور الدعوة والتبليغ والعبادة، نعم: إنه صحيح أن الأنبياء أشد الناس بلاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يكن الله سبحانه وتعالى ليبتليهم بتسليط إبليس عليهم وجعلهم ألعوبة بين يديه كما تصوره هذه الأخبار الباطلة المختلقة. ولا ندري كيف استساغ الإمام البغوي على جلالة قدره ذكر هذه الأخبار المنكرة ولم ينبه على بطلانها؟!».

وعلّق أيضا على القول الفاسد إن أيوب نودي بأن الله قد دنا منك فادل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك… إلى آخر هذا الافتراء على الله وعلى نبيه، فقال مروان سوار ما نصه: «لا يخفى أن هذا الكلام مختلق مكذوب على الله تعالى وعلى نبيه أيوب عليه السلام وسبحانك ربي إن هذا لبهتان عظيم».

وقال في معرض ردّه على الافتراء الموجود في كتاب البغوي أن إبليس تسلط عليه ما نصه: «إن مما لا شك فيه أن هذه الأخبار التي تتضمن تسلط إبليس اللعين على أيوب عليه السلام لم تثبت عن صادق، وليس لها أصل في دين الله تعالى، وإنا لنبرأ إلى الله تعالى من كل أفاك أثيم».

ثم قال أيضا عن كذبهم على سيدنا أيوب من أنه لم يبق له إلا عيناه وأن إبليس قال أنا أداويه على أن يقول أنت شفيتني وغير ذلك من الكذب ما نصه: «هذا والله لتتقزز نفس البشرية من هذا الكلام الفاحش والبهتان المفتري على نبي الله أيوب عليه السلام، وإنا لنرى أن بلاء أيوب مستمر بعد وفاته حتى يأذن الله تعالى لمن يزيل هذه الأباطيل من كتب التفسير والله المستعان على ما يصفون وهذا على شاكلة ما سبق من البهتان».اهـ

وفي كتاب «مجادلة الأنبياء في التوحيد لأقوامهم على حسب ما جاء في القرءان» ما نصه[(207)]: «مرض أيوب عليه السلام ليس كما هو مذكور في التوراة المحرفة وبعض الكتب من أن أيوب عليه السلام نزل منه الدود وذكر أن مرضه منفر غير صحيح، ولا نبي من أنبياء الله يصاب بمرض منفر للدعوة ولا بمرض يؤخره عن الدعوة إلى الحق، أيوب عليه السلام ذهب ماله ومات أولاده وأصيب بالمرض لكن هذا المرض ليس مرضا منفرا لكن بعض الناس يذكرون هذا الكلام المكذوب حتى يتأثروا به ويقولون قصدنا أن نظهر قوة صبر أيوب من هذه القصة ولكن قولهم هذا مناقض للإيمان في حق الأنبياء».اهـ

وقال الشيخ محمد درويش الحوت في كتابه المسمى «أسنى المطالب» في ما افتُريَ على سيدنا أيوب من أنه تناثر منه الدود[(208)]: «ما يذكره أهل القصص وبعض المفسرين من المنفرات طبعًا كل ذلك زور وكذب وافتراء محض ولا عبرة بمن نقل ذلك». ثم قال بعد ذكر القصة المفتراة على داود عليه السلام من أنه عشق امرأة قائد جيشه: «كل ذلك كذب من وضع اليهود ولا عبرة بمن نقله عنهم من المفسرين» اهـ.

تنبيه مهم: مما يجب التحذير منه كتاب (قصص الأنبياء) للثعالبي، ففيه مثل هذه المواضع وزيادة عليها من قصص أخرى مفتراة لا أصل لها، كالقصة التي تروى أن الدود كان يتناثر من جسد أيوب عليه السلام في مرضه فصار يردها إلى جسده ويقول لها: «كلي فقد جعلني الله طعامك» وأن أيوب عليه السلام على زعمه تقطع لحمه وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا، نعوذ بالله تعالى من الضلال فقد أجمع علماء الإسلام على أن أنبياء الله هم صفوة خلق الله وهم علماء حكماء معصومون بعصمة الله لهم تبارك وتعالى فيستحيل على أحدهم أن يضر نفسه – لأن حفظ النفس مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء وأجمع عليه العقلاء -، ويستحيل عليهم أيضا الأمراض المنفّرة التي تنفّر الناس عنهم، وهذه القصة لا تجوز في حق نبي من الأنبياء وهي كذب، وهي مذكورة أيضا في بعض التفاسير غير المعتمدة.

وإنما أيوب عليه السلام ابتلاه الله تبارك وتعالى بلاء شديدا استمر مرضه ثمانية عشر عاما وفقد ماله وأهله ثم عافاه الله وأغناه ورزقه الكثير من الأولاد، وأما أن مرض أيوب طال ثمانية عشر عاما فهو في صحيح ابن حبان. اهـ.

ـ[197]       طرح التثريب في شرح التقريب (دار الكتب العلمية، الجزء الثاني ص201).

ـ[198]       طرح التثريب في شرح التقريب (ص/205 – 206).

ـ[199]       عصمة الأنبياء (دار الكتب العلمية ص13).

ـ[200]       النُبوَّات (تحقيق أحمد حجازي السقا، ص8).

ـ[201]       تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء (دار الفكر المعاصر – بيروت، دار الفكر – دمشق، الطبعة الثانية ص36).

ـ[202]       تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء (ص/38).

ـ[203]       تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء (ص/58).

ـ[204]       تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء (ص/98).

ـ[205]       تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء (ص/99).

ـ[206]       الجامع لأحكام القرءان (طبعة دار الفكر بيروت الطبعة الأولى سنة 1407هـ المجلد 11 ص323 – 324).

ـ[207]       مجادلة الأنبياء في التوحيد لأقوامهم على حسب ما جاء في القرءان (للمؤلفين البروفسور نور الدين محمد سولماس والبروفسور إسماعيل لطفي شكان، طبع في اسطنبول في 10-2-1975 بتصديق وموافقة التعليم الدولي في تركيا بموافقة وزير التربية والتعليم ص180).

ـ[208]       أسنى المطالب (دار الكتاب العربي ص376).