بيان كيف يثبت صيام رمضان في الشرع
اعلم أنه يجب صوم رمضان بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلال رمضان بعد اليوم التاسع والعشرين من شعبان.
الثاني: استكمال شعبان ثلاثين يومًا لقوله عليه الصلاة والسلام: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يومًا”.
وأما قول الحسّاب والمنجمين فلا يعتمد عليه في إثبات رمضان وذلك في المذاهب الأربعة، وهاك نصوصهم:
ففي كتاب أسنى المطالب شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري الشافعي ما نصّه: “ولا عبرة بالمنجم – أي بقوله – فلا يجب به الصوم ولا يجوز، والمراد بآية: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ {16} [سورة النحل] الاهتداء في أدلّة القبلة وفي السفر” اهــ
وفي كتاب ردّ المحتار على الدرّ المختار لابن عابدين الحنفي ما نصّه: “ولا عبرة بقول المؤقتين، أي في وجوب الصوم على النّاس، بل في المعراج لا يعتبر قولهم بالإِجماع، ولا يجوز للمنجّم أن يعمل بحساب نفسه”. ثمّ قال: “ووجه ما قلناه أنّ الشّارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكُليّة بقوله: “إنَّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهرُ هكذا وهكذا” اهــ
وفي كتاب الشرح الكبير للدردير في مذهب الإِمام مالك ما نصّه: “لا يثبت رمضان بمنجّم أي بقوله في حق غيره ولا في حق نفسه” اهــ
وفي حاشيته لشمس الدين الشيخ محمد عرفة ما نصّه: “قوله: لا بمنجّم وهو الذي يحسب قوس الهلال هل يظهر تلك الليلة أو لا، وظاهره أنه لا يثبت بقول المنجّم ولو وقع في القلب صدقه” اهــ
وفي كتاب كشّاف القناع عن متن الإِقناع في مذهب الإمام أحمد ما نصّه: “وإن نواه أي صومَ يوم الثلاثين من شعبان بلا مستند شرعيّ من رؤية هلاله أو إكمال شعبان أو حيلولة غيم أو قتر ونحوه كأن صامه لحساب ونجوم ولو كثرت إصابتهما أو مع صحوٍ فبانَ منه لم يجزئه صومه لعدم استناده لما يعوّل عليه شرعًا” اهــ
فائدة: قال الفقهاء: يجب ترائي الهلال لكل شهر أي أنه فرض كفاية، وقد أغفل هذا في كثير من البلاد وذلك لأنه يتعلق به أحكام شرعية كالعِدَّة، ومعرفة استكمال شهر شعبان ثلاثين يومًا، وتعليق الطلاق، إلى غير ذلك من الأحكام، فإن العبرة في هذه الاشياء بالأشهر القمرية وكذلك الحكم بالبلوغ بالسن المعولُ في ذلك على السنين القمرية، وإغفال هذا الأمر غفلة شنيعة.
ومن المقرر شرعًا أن صيام رمضان يثبت برؤية هلال الشهر، ثم اختلف الأئمة هل ثبوت الرؤية في بلد يلزم حكمه ويعم سائر النواحي من دون اشتراط اتحاد المطلع، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن رؤية الهلال في بلد لا يعم حكمها إلا في البلاد التي توافق بلد الرؤية في المطالع أي اتفاق شروق الشمس وغروبها، ومذهب أبي حنيفة ومالك خلاف ذلك، وللمالكية بسط في هذه المسئلة، وها نحن ننقل عن بعض مؤلفاتهم، فهاكَ نصَّ صاحب المنح السامية للنوازل الفقهية لأبي عبد الله المهدي الوزاني العمراني وإن كان فيه طول وتوسع: “نوازل الصيام
الحمد لله كما ينبغي لجلاله حمدًا يليق بعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمّد وءاله والرضا عن أصحابه وجميع أتباعه.
وبعد، فقد وقفت في هذه الأيام على جواب قيل: إن مؤلفه من السودان، مضمَّنه الرد على الإمام ابن سِراج القائل: إن الهلال يثبت بإيقاد النار، وعلى العلامة الأوحد الإمام الرباني أبي عبد الله سيدي محمّد الرهوني الوزاني القائل بثبوته أيضًا بالبارود، وعلى مفتي الديار المصرية المحقق سيدي محمّد عليش القائل بثبوته أيضًا بالتلغراف، زاعمًا هذا المجيب أن الشرع حصر ثبوت هلال رمضان وغيره في ثلاثة أسباب وهي: رؤية العدلين أو المستفيضة، وكمال شعبان، ونقل العدل الواحد ثبوته عند القاضي، قال: فلا يجوز إحداث سبب رابع لثبوته وهو ما قاله هؤلاء الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم. ولما رأيته في ذلك خابطًا خبط عشواء وراكبًا ظهر ناقة عمياء، وأنه لم يصل إلى فهم كلامهم ولا شمَّ رائحة لمرادهم، تعيَّن عليَّ ردُّه بالتصريح لا بالتلويح، وبالحجج القاطعة والنقل الصحيح لا بالمجازفة والكلام القبيح، لئلا يغتر به ضعفة العقول أو يطول الزمان ويُعتقد أنه من الشرع المنقول.
فقلت: والله المستعان وعليه التكلان:
لا زيادة في تلك الأمور الثلاثة على ما ثبت في الحديث وكلام الفقهاء، بل إذا كانت العادة أن إيقاد النار والبارود وتلغراف لا تكون إلا إذا ثبت الشهر ثبوتًا محققًا وكانت العادة مطردة بذلك بحيث لا تتخلف أصلًا فإن الشهر يثبت بذلك كما يثبت بكتاب القاضي وهي من باب النقل كما قاله الشيخ الرهوني ونصه: إخراج البارود كإيقاد النار، وكل منهما راجع للإخبار برؤية الهلال لا خارج عنه. اهــ
وتحقيق ذلك أن أهل ذلك المحل أي محل البارود والنار وتلغراف ثبت عندهم الشهر بموجبه ولا إشكال، ولما أرادوا نقله لغيرهم بسرعة كي يعزموا على الصوم ليلًا أو يصبحوا بنية الإفطار وتعذر النقل إليهم بالرسول سرعة، أنابوا تلك الأشياء عنه لسرعتها، فتلك الأمور الثلاثة إنما هي من باب النقل لما ثبت، وحيث كان الواحد كافيًا في النقل هنا فتلك الأمور الثلاثة كافية فيه أيضًا بل أحرى منه لأنها قد تفيد القطع، بخلاف نقل الواحد فلا يفيده، قال الزرقاني على قول المختصر: (وعمَّ إن نُقِل بهما عنهما لا بمنفرد) ما نصه: أخرج من رؤية عدلين قوله لا بمنفرد فلا يثبت الصوم ولا الفطر برؤيته ولو خليفة أو قاضيًا أو مثل عمر بن عبد العزيز، ثم قال بعد كلام: وليس أي قوله (لا بمنفرد) مخرجًا من قوله: (وعمَّ إن نقل بهما)، لأن نقل الواحد عن الاستفاضة أو ثبوتًا عند حاكم أو عن حكمه معتبر، فيعُم بمحل لا يعتنى فيه بأمر الهلال، وكذا بما يعتنى فيه به كأهله وكذا لغيرهم على المعتمد. وأما نقل الواحد عن رؤية الشاهدين أو أحدهما فلا يعتبر مطلقًا، فالأقسام ثلاثة، والمراد بأهله زوجته، وأدخلت الكاف ابنته البكر والخادم والأجير ومن في عياله، وأما من تلزمه نفقته وليس في عياله بل في محل ءاخر لا يعد من منزله فالظاهر أنه من عياله أيضًا لإطلاقه عليه لغة كما هو عموم قول القاموس: وعاله كفاه ومَانَه. اهــ
فرع: خبر الحاكم بما ثبت عنده يلزم به الصوم وليس هو من خبر العدل. قف عليه. وفي حواشي الشيخ الرهوني بالمحل المذكور ما نصه:
تتمة: في المعيار، سئل ابن سِراج عن إضرام النار من قرية إلى أخرى إعلامًا بالهلال، فأجاب: النار توقد علامة على رؤية الهلال حسبما ذكر إذا كان حصل لأهل القرية ثقة من أهل القرية الأخرى أنهم لا يوقدون النار إلا إذا رأوا الهلال بَنَوْا عليه وإلا فلا، قاله ابن سِراج. اهــ وقال ابن غازي في تكميله ما نصه: سئل أبو محمّد عن قرى بالبادية يقول بعضهم لبعض: إذا رأيتم الهلال فنيروا لنا فرءاه بعضهم فنيروا فأصبح أصحابهم صيامًا لذلك ثم ثبت فهل يصح صومهم؟ فقال: صومهم صحيح، قياسًا على قول ابن الماجشون في الرجل يأتي القوم فيخبرهم أن الهلال قد رئي. اهــ ومثله للوانوغي، وذكر الحطاب مثله عن المشدَالي هنا، وقال عقبه ما نصه: قلت: أما إذا كان يعلم أن المحل الذي فيه النار يعلم به أهل ذلك البلد، ويعلم أنهم لا يمكِّنون من جعل النار فيه إلا إذا ثبت الهلال عند القاضي أو برؤية مستفيضة، فالظاهر أنه ليس من باب نقل الواحد. ومما جرت به العادة أنه لا يوقد القناديل في رءوس المنابر إلا بعد ثبوت الهلال، فمن كان بعيدًا أو جاء بليل رأى ذلك، فالظاهر أن هذا يلزمه الصوم بلا خلاف، فتأمله والله أعلم.
قلت: ومن هنا يعلم حكم نازلة نزلت فوقع السؤال عنها وهي أن بعض البلاد جرت عادتهم بإخراج البارود عند رؤيتهم هلال رمضان أو هلال شوال، هل يصومون ويفطرون بذلك أم لا؟
فأجاب بعض أهل العصر ممَّن ينتمي للعلم وليس من أهله أنه لا عبرة بذلك مطلقًا، مستدلا بقول المرشد المعين: وَيَثْبُتُ الشهر برؤية الهلال، وبما يوافقه من بعض كلام أهل المذهب قائلًا: وإخراج البارود خارج عن ذلك فلا عبرة به، وهو قصور وجهل عظيم، إذ إخراج البارود كإيقاد النار، وكل منهما راجع للإخبار برؤية الهلال لا خارج عنه، فإن توفر في إخراج البارود ما تقدم في إيقاد النار عمِل به وإلا فلا، والله اعلم. اهــ
وفي نوازل الشيخ عليش أن السؤال وقع لفقهاء الشام سنة إحدى وثمانين من القرن الثالث عشر عن هذه المسألة أي ضرب تلغراف من إسكندرية مثلًا إلى مصر بأن الهلال ثبتت رؤيته عند قاضي إسكندرية، هل يجب بذلك الصوم أو الإفطار أم لا؟ فاختلفوا فيها فأفتى مفتيه بثبوته بذلك وحكم قاضيه، وأفتى بعض فقهائه بأنه لا يثبت به.
وحجة الأول القياس على سماع المدفع ورؤية النار، وأن بعض حواشي التنوير استظهر أنه يلزم أهل القرى الصوم والإفطار بذلك، وعلّله بأنه علامة ظاهرة تفيد غلبة الظن بثبوت الهلال عند القاضي، وأن غلبة الظن حجة موجبة للعمل كما صرحوا به، وأن احتمال كون ذلك لغير رمضان بعيد. اهــ
ثم رفعت هذه الفتوى إلى الشيخ عليش المصري رحمه الله تعالى فأقرها وأيّدها بأن سلاطين المسلمين وضعوا تلغراف لتبليغ الأخبار من البلاد البعيدة في مدة يسيرة واستغنوا به عن السعاة فصار قانونًا معتبرًا في ذلك، وأيّدها أيضًا بكلام الحطاب المتقدم. اهــ
قلت: ما قاله هؤلاء الأئمة صحيح لا غبار عليه، وما قاله هذا المخالف باطل لا دليل عليه، وذلك أن المسلمين متفقون في أقطار الأرض كلها وفي جميع القرى والأمصار بأسرها على ثبوت رمضان وعلى وجوب تبييت الصوم بمجرد سماع صوت النفير، فكل من سمعه من أهل البلد أو ما قاربها ليلة العيد أو ليلة رمضان، يتحقق بثبوت الشهر فيبيت على نية الصوم أو الإِفطار، وإن لم يتحقق ثبوته لدى القاضي من جهة أخرى بل يعتمدون على مجرد صوت النفير أو على صوت المدفع إن كانت عادتهم ذلك ولا خلاف فيه بين المسلمين؛ فكما جاز الاعتماد على النفير أو المدفع في ثبوت الهلال وفي وجوب تبييت الصوم لمن هو داخل البلد أو في قربه يجوز لمن بعُدَ عنه الاعتماد على النار أو البارود، وأحرى التلغراف، لأنه بمنزلة الكلام مشافهة، وهذا ضروري لا ينكره إلا جهول كما قاله الشيخ الرهوني، وذلك لأن هذا من شهادة العَادة ومن الاعتماد على القرائن، والقرينةُ تفيد اليقين في مواطن من الشرع كما قاله الشهاب القرافي. وقد نص العلماء على أن الحكم بالقرينة معمول به وأخذوه من قوله تعالى: وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ {18} الآية [سورة يوسف].
ونقل شارح اللامية عن الحافظ الوانشريسي أنه يجب اعتبار القرائن المحتفة بالنازلة والنظر إليها، ومثله لأبي علي بن رحال في شرحه وحواشيه، قال في حواشيه بعد أن تكلم على اعتبار القرائن في الأحكام ما نصه: قال حجة الإِسلام الإمام الغزالي: إن القرينة حاسَّة سادسة في الإنسان، قال: وصدق رحمه الله تعالى ونفعنا به وبعلومه ءامين. اهــ
وفي المختصر: “وإن قامت قرينة فعليها” ومثله في مختصر ابن عرفة وغيره. المقري: اختلفوا في العادة، هل هي كالشاهد أو كالشاهدين. اهــ ومثله في المعيار عن العبدوسي.
وقال ابن فرحون في التبصرة: جاء العمل بالقرائن في مسائل:
الأولى: أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء الرجل المرأة إذا أهديت له ليلة الزفاف وإن لم يشهد عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقد عليها وإن لم يستنطق النساء أنها هي، اعتمادًا على القرينة الظاهرة.
الثانية: أن الناس قديمًا وحديثًا لم يزالوا يعتمدون على قول الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أقوالهم ويأكلون الطعام المرسل به، ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك مقبول.
الثالثة: أنهم يعتبرون إذْنَ الصبيان في الدخول إلى المنزل. اهــ
ولنشِر إلى بعض كلام هذا المجيب وتتبعه باختصار، فنقول:
زعم أن إيقاد النار والبارود وتلغراف لا يثبت به الهلال من تسعة أوجه:
أحدها: أن الشرع وضع لثبوت الهلال ثلاثة أسباب فقط وهي التي قدمناها عنه واستدل لذلك فقال: أما النص على ثبوته بالرؤية أو كمال العدة ثلاثين، فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له” رواه مالك في الموطإ، وأما النص على ثبوته بعدلين فحديث أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن شهد عدلان فصوموا وأفطروا وانسكُوا”.
ثم قال: وأما النص على ثبوته بنقل الواحد العدل لثبوته عند القاضي فحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنده الهلال برؤية الأعرابي، أمر بلالا أن يؤذّن في الناس بأن يصوموا غدًا، وبلال إنما هو ناقلٌ واحد لثبوت الهلال عنده صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا كلام بلغ الغاية في السقوط.
أما أوَّلا: فإنه زعم أن أسبابه محصورة في ثلاثة فقط، وهو بنفسه نقل ثبوته عند النبي صلى الله عليه وسلم برؤية الأعرابي فقط زيادة عليها، فتكون الأسباب أربعة لا ثلاثة فقط، فهذا تناقض ظاهر لا يصدر من أصاغر الولدان، وهو وحده كاف في بطلان هذا الجواب، لأنه مبني على الحصر في ثلاثة.
وأما ثانيًا: فإنه لم يذكر مخرج هذا الحديث أصلًا، مع أنه لا يصحّ له الاحتجاج بالحديث حتى يكون صحيحًا، وعلى تقدير صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت أنه غير منسوخ وأنه لا معارض له، ولذا قال في المعيار: نص الأئمة المحققون من علمائنا رضي الله عنهم وأرضاهم على أن المقلِّد الصرف مثلي ومثل من اشتملت عليه هذه الأوراق من الأصحاب، وأكبر منا طبقة وأعلى منزلة وأطول يدًا ممنوع من الاستدلال بالحديث وبأقوال الصحابة رضي الله عنهم، بل ذلك عندهم من الأوليات.
ثم قال المجيب: فإحداث سبب رابع لإيجاب الصوم والإفطار من حيث إنه مناسب لأحد هذه الأسباب باستلزامه له أو دلالته عليه يوجب إبطال هذه النصوص ونسخها بلا ناسخ، وذلك لا يقبل كما نص عليه القرافي في الفرق الأول من فروقه، ورد على من قال: إن المخبر عن رؤية الهلال أشبه بالراوي من المؤذن فينبغي أن يقبل فيه الواحد قياسًا على المؤذن. لكن رده القرافي بأن العمل به يستلزم إبطال النص الصريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إِذا شهد عدلان فصوموا وأفطروا وانسكوا”. فاشترط صلى الله عليه وسلم عدلين في وجوب الصوم، ومع تصريح صاحب الشرع باشتراط عدلين لا يلزمنا بالعدل الواحد شىء، إذ لا يسمع الاستدلال بالمناسب في إبطال النصوص الصريحة. اهــ
قلت: أما زعْمُهُ أن هذا سبب رابع محدث وأنه مقيس على الثلاثة، التي ذكرها، فليس كما قال بل ليس برابع ولا مقيس على الثلاثة، وذلك لأن الشهر ثبت رؤيته بعدلين، ونُقِل لغيرهم بالبارود وإيقاد النار وتلغراف، وحيث كانت العادة أن هذه الأمور لا تفعل إلا بعد ثبوت الشهر بالرؤية كانت كافية في النقل لأن العادة المستمرة بمنزلة عدلين كما قاله في العمل الفاسي:
والمتقرر من العادات
مشتهرًا كشاهدين ءات
وفي المعيار من جواب لسيدي عبد الله العبدوسي أن العادة المستمرة تنزل منزلة شاهدين، قال: وإنه لحسَن من القول. اهــ فهذا الوجه على التحقيق داخل في رؤية العدلين، لأن مستنده هو رؤيتهما فهو مما يشمله قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تصوموا حتى تروا الهلال…” الحديث. وأما زعمه أن إحداث هذا السبب يوجب إبطال النصوص ونسخها بلا ناسخ فغير صحيح، إذ على تسليم أنه زائد عليها لا يوجب إبطالها ولا نسخها، وما أظن هذا يخفى على أحد.
وأما ما نسبه للقرافي فلم يقله، ونصه في الفرق الأول بعد أن ذكر الفرق بين الرواية والشهادة بالعموم في الرواية والخصوص في الشهادة هو قوله: الخبر ثلاثة أقسام، رواية محضة كالأحاديث النبوية، وشهادة محضة كإخبار الشهود عن الحقوق على المعينين عند الحاكم، ومركب من الرواية والشهادة وله صور: إحداها الإخبار عن رؤية هلال رمضان من جهة أن الصوم لا يختص بشخص معين بل عام على جميع المصر أو أهل الآفاق على الخلاف في أنه هل يشترط في كل قوم رؤيتهم أم لا، فهو من هذا الوجه رواية لعدم الاختصاص بمعيَّن؛ وشهادة من جهة أشخاص بهذا العام وبهذا القرن دون ما قبله وما بعده.
ثم قال بعد كلام: والمؤذن مخبر عن أوقات السبب وهو أوقات الصلاة فإنها أسبابها إلى أن قال: وهو حجة حسنة للشافعية في الاكتفاء في هلال رمضان بالواحد، لأنها أي رؤيته إخبار عن سبب جزئي يعم سائر البلاد، والأذان خاص بأهل المصر وتلغراف لا يعم سائر الأقطار، فهو أولى باعتبار شائبة الشهادة، بخلاف هلال رمضان عمّمه المالكية والحنفية في جميع أهل الأرض، فالمخبر عن رؤية الهلال على قاعدة المالكية أشبه بالرواية من المؤذن، فينبغي أن يقبل الواحد فيه قياسًا على المؤذن بطريق الأولى لوجود العموم في الهلال. وهنا إشكال على المالكية في التفرقة بين المؤذن يقبل فيه الواحد وبين المخبر عن هلال رمضان لا يقبل فيه الواحد، فإن قلت: إن الجواب عنه أن المعاني الكلية قد يستثنى منها بعض أفرادها بالسمع، وقد ورد الحديث الصحيح بقوله عليه السلام: “إذا شهد عدلان فصوموا وأفطروا وانسكوا”، فاشترط عدلين في وجوب الصوم، ومع تصريح صاحب الشرع باشتراط عدلين لا يلزمنا بالعدل الواحد شىء، ولا يسمع الاستدلال بالمناسبات في إبطال النصوص الصريحة.
قلت: هذا بحث حسن، غير أن الجواب عنه أنه يدل بمفهومه لا بمنطوقه، فإن منطوقه أن الشاهدين يجب عندهما، ومفهومه أن أحدهما لا يكفي من جهة مفهوم الشرط. وإذا كان الاستدلال به من جهة المفهوم فنقول: القياس الجلي مقدَّم على منطوق اللفظ على أحد القولين لمالك وغيره من العلماء فينبغي أن يقدم على المفهوم. اهــ فأنت ترى القرافي انفصل على ثبوت الهلال بواحد قياسًا على المؤذن، وأجاب عن الحديث بأنه إنما يدل على عدم ثبوته بالواحد من جهة المفهوم، وقياس الأحرى مقدم عليه اتفاقًا، وهذا المجيب عكس ذلك، فانظر ما الحامل له على ذلك، وكذا نسبته لابن الشاط أنه سلم ذلك وأيّده بأن الشارع إذا نصب دليلًا معينًا لحكم فلا يجوز تَعدِّيه. اهــ باطلة أيضًا، إذ ليس في ابن الشاط ما نسبه له ونصه: قلت: والذي يقوى في النظر أن مسألة الهلال حكمها حكم الرواية في الاكتفاء بالواحد وليست رواية حقيقية ولا شهادة أيضًا، وإنما هي من نوع ءاخر من أنواع الخبر عن وجود سبب من أسباب الأحكام الشرعية. انتهى منه بلفظه. ثم ذكر أي المجيب بقية الأوجه الثمانية، وكلها من نمط هذا الوجه أو أقبح منه بحيث لا ينبغي نسخها لعدم فائدتها، ولذلك أضربنا عنها، ثم قال: فإن قال قائل: إن ضرب التلغراف أو المدفع أو إيقاد النار يستلزم أن يكون عن إذن القاضي وعدول المصر الذي ثبت فيه الهلال. قلنا: لا يستلزمه استلزامًا قطعيًّا، بل يحتمل أن يكون عن إذن من ذُكِر، ويحتمل أن يكون من غير إذن منه.
قلت: وهذا أي احتمال كونه عن غير إذن منهم باطل، إذ الفرض في كلامهم حسبما تقدم أن ذلك عادة مطردة لا تتخلف، وإلا فلا عبرة به، فهذا الاحتمال الثاني الذي زاده خروج عن موضوع كلامهم، ثم قال: ونفس تلغراف وما معه جماد، والجماد لا يعد شاهدًا شرعًا ولا عقلًا ولا عادة، وضرب الضارب له وإيقاد النار فعل قطعًا لا قول، والشهادة أو الرواية في عرف الشرع قول قطعًا لا فعل، والضارب لما ذكر وموقد النار مجهول وذلك لا تقبل شهادته ولا روايته قطعًا.
قلت: وهذا من نمط ما قبله أيضًا، إذ المبلغ في الحقيقة هو الجماعة الذين ثبت عندهم رؤية الهلال أو القاضي الذي ثبت عنده رؤيته بواسطة تلغراف أو البارود أو إيقاد النار، فهذه الأمور إنما هي ءالة للتبليغ لا أنها هي المبلغ كما توهمه، نظيره أمره صلى الله عليه وسلم لبلال أن يناديَ في الناس بالصوم، فهو صلى الله عليه وسلم المبلغ لهم بواسطة بلال، ثم تخصيصه الشهادة شرعًا بالقول غير صحيح، لما تقدم نقله عن نظم العمل الفاسي وعن الإمام العبدوسي أن العادة المستمرة بمنزلة شاهدين، وَكُتُبُ الفقهاء طافحة بأن كل من شهد له العرف فالقول قوله والرهن شاهد في قدر الديْن وغير ذلك مما لا يخفى على المبتدئين.
ثم قال في فتوى ابن سراج والرهوني: إنهما باطلتان لمصادمتهما للنصوص القطعية، لأن الشارع صلى الله عليه وسلم علق إيجاب الصوم أو الفطر بصيغة الحصر على رؤية الهلال أو كمال العدة ثلاثين، فمن أثبته برؤية النار أو بسماع صوت المدفع فقد صادم النص برأيه.
قلت: بل فتواهما بذلك صحيحة، وليس فيها مصادمة للنص، لأن النار والبارود كلاهما علامة على رؤية الهلال، فليس فيهما خروج عن النص. ثم قال: وقد ورد هذا النص، أي حديث ابن عمر المتقدم عن الشارع صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقرى العوالي والبوادي محدقة بها، وما أوقد لهم نارًا ولا أقام لهم صوتًا، بل الوارد عنه أنه إذا ثبت الهلال أمر بلالا أن يناديَ في الناس بالصوم.
قلت: أمره صلى الله عليه وسلم لبلال أن يناديَ في الناس بالصوم هو الحجة لهؤلاء الأئمة، فإنهم يقولون: إذا ثبت الهلال فإنه ينادى بثبوته على من كان قريبًا بآلة يسمعها وعلى من بعُدَ بالبارود أو النار أو تلغراف، وكأنه يعتقد أن كل شىء لم يكن في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وأُحْدِث بعده حرام لا يعتد به كيفما كان، وذلك عراقة في الجهل والغباوة، بل كل مُحْدَث لم يصادم سُنَّة فهو حق، لقوله عليه السلام: “من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها…” الحديث. فأخبر صلى الله عليه وسلم بثواب من أحدث سنّة حسنة، وذلك يدل أنها مطلوبة، إذ لا يثاب إلا على مطلوب، وسماها حسنة والقبيح لا يسمى بها. وقد أحدث الصحابة والأئمة بَعْده صلى الله عليه وسلم أمورًا كثيرة لا تنحصر بالعد، منها تغيير عثمان رضي الله عنه النداء يوم الجمعة وزيادته في المؤذنين حتى كانوا أربعة، ومنها زيادته هو وعمر رضي الله عنهما في مسجده صلى الله عليه وسلم، ومنها صلاة التراويح التي أحدثها عمر، وتغيير عثمان لها بعد ذلك، ومنها تزويق المساجد أفتى به ابن مرزوق، وجرى به عمل فاس، وقال فيه ناظمه:
والكَتْبُ بالذّهب والتزويق
في الكُتْبِ والمسْجد والتَّوثيق
تحلِية القبْر وكسْوة الحرير
للصَّالحين وَمصَابيحُ تنِير
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ {36} [سورة النور]: وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه بنى مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم بالساج. وعن أبي حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب. وعن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزويقه، وذلك في ولايته قبل خلافته. اهــ ومنها نقط المصحف والألواح وضبطهما، ومنها الاجتماع للذكر والدعاء يوم عرفة أو غيره من المواسم، ومنها الدعاء عقب الصلوات.
قال ابن عرفة: مضى عمل من يقتدى به في العلم والدين على الدعاء بإثر الذكر الوارد إثر تمام الصلاة، وما سمعت من ينكره إلا جاهل لا يقتدى به. اهــ
ثم قال: فإن قال قائل: إن رؤية النار وسماع صوت المدفع بمنزلة نقل العدل لأنه يفيد غلبة الظن بثبوت الهلال عند من أوقدوا النار أو ضربوا المدفع كما يفيد ذلك نقل العدل. فالجواب أن غلبة الظن بثبوت الهلال لا عبرة بها إذا حصلت بغير خصوص هذه الأسباب الثلاثة.
قلت: ما قاله غير صحيح.
أما أوَّلا: فإن حصول غلبة الظن بغير الثلاثة كحصولها بها لا فرق بينهما، بدليل ما نقله هو بنفسه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنده الهلال برؤية الأعرابي، أمر بلالا أن يؤذن في الناس بالصوم. فهذا مبطل لحصره في الثلاثة لكونه زائدًا عليها، وتقدَّم في كلام القرافي وابن الشاط ترجيح ثبوته برؤية الواحد وهو مذهب الشافعية، تأمَّله.
وأما ثانيًا: فتقدم أن كلا من البارود وإيقاد النار وتلغراف، داخل في الرؤية، لأنه علامة عليها لا زائد عليها.
ثم قال: فإن قال قائل: إذا كانت الأسباب الشرعية لا تثبت مع الاحتمال فيلزم على ذلك أن الصوم لا يجب بشهادة البينة بالرؤية أو بالثبوت عند القاضي لاحتمال كذبها. فالجواب أن السبب هو نفس شهادة البينة وذلك حاصل قطعًا لا احتمال فيه، لا نفس المشهود به الذي عليه الاحتمال وهو طلوع الهلال أو ثبوته عند القاضي.
قلت: هذا كلام يمجه الطبع.
أما أوَّلا: فإن السبب هو مجموع الأمرين المتعلق والمتعلّق لا أحدهما فقط، أي الشهادة بالرؤية أو بالثبوت هي نفس السبب، لا أن الشهادة وحدها هي السبب، إذ لا تفيد شيئًا بدون الرؤية أو الثبوت، فهذا غَلَطٌ منه نشأ من تحليل المركب، وأيضًا يلزم عليه أن من رءاه لا يلزمه الصوم إن لم تقع به شهادة عند القاضي لفقد سببه وهو باطل.
وأما ثانيًا: فإن هذا الاحتمال مصادم للنص الوارد عن الشارع صلى الله عليه وسلم من ثبوته برؤية العدلين كما مرّ فلا عبرة به.
وأما ثالثًا: فإن هذا الاحتمال بعيد، والاحتمال البعيد أي المرجوح مُلْغًى لا أثر له، كما نص عليه القرافي في الفرق الحادي والسبعين، فقال: إن الاحتمال المرجوح لا يقدح في دلالة اللفظ، وإلا لسقطت دِلالة العمومات كلها لِتطرق احتمال التخصيص، إلى أن قال: ذلك باطل، فتعين حينئذ أن الاحتمال الذي يوجب الإِجمال إنما هو الاحتمال المساوي أو المقارب. أما المرجوح فلا. اهــ
ثم قال: فإن قال قائل: إن ابن سراج عالم متقدم يجب علينا تقليده فيما أفتى به، وليس لنا البحث معه، قلنا: لا، بل يحرم علينا تقليده فيما أفتى به إلا إذا أفتى بفرع مشهور في المذهب معزُو إلى محله، فحينئذ يجب علينا تسليم فتواه.
قلت: ما أفتى به ابن سراج من هذا النمط، لأن المقرر في المذهب أن الشهر إذا ثبتت رؤيته بعدلين ونقل لغيرهم ولو بعدل يجب على المنقول إليهم الصوم كما تقدم في كلام الزرقاني. وما قاله ابن سراج من هذا النحو، لأن الشهر لما ثبتت رؤيته لدى القاضي أمر بتبليغه لمن بَعُد عن محل الرؤية بالبارود أو بتلغراف لتعذر التبليغ لمن بَعُد بالكلام، فهذه الأشياء إنما هي نائبة عن التبليغ بالكلام للضرورة الداعية إلى ذلك، فهي بمنزلة إرسال القاضي إليهم كتابًا بثبوته، فإذا علموه وتحققوا به فيلزمهم الصوم، فهذه الأشياء ككتابه. وقد قال العلماء: إن الدلالة الفعلية أقوى من الدلالة القولية.
وفي شرح المختصر للإمام ابن مرزوق رحمه الله ما نصه:
فائدة: سمعت عن بعض من عاصرته من الفقهاء الصالحين أنه كان يقول: من احتاج إلى قتل قملة في ثوبه أو في المسجد على القول بنجاسة ميتتها ينوي بقتلها الذكاة ليكون جلدها طاهرًا فلا يضره، ولا أدري هل رأى ذلك منقولا أو قاله برأيه إجراء على القواعد، وهو وإن كان محتملًا للأبحاث لا بأس به. اهــ
قال الشيخ ميارة في شرح المرشد المعين، نظم شيخه ابن عاشر بعد نقله ما نصه: فالقملة إن كانت من مباح الأكل فما ذكره فيها ظاهر، وإن كانت من محرمه أو مكروهه فذلك مبني على أن الذكاة تعمل في المحرم والمكروه كالمباح، وهذا مراده بالإِجراء على القواعد. والله اعلم. وفي هذه الفائدة فائدة أخرى وهي جواز قول الفقيه المقلّد برأيه إجراء على القواعد، وهذا شائع ذائع كثير في فتاوي المتأخرين لا يمكن إنكاره، فانظره مع ما نصّ عليه غير واحد أن المقلِد لا يفتي إلا إن وجد النص في عين النازلة.
وقد كنت ذكرت مثل ذلك للناظم أي ابن عاشر رحمه الله فقال لي: العمل على جواز قول المقلّد برأيه إجراء على القواعد، وإلا بطلت فتاوي هؤلاء المتأخرين المشحونة بها كتب الأحكام. انتهى فتأمله.
ثم قال: إن قياس مفتي الشام وقاضيه والشيخ عليش لضرب تلغراف على رؤية النار وسماع صوت المدفع في أنه يثبت به الهلال كما يثبت برؤية النار وسماع صوت المدفع قياس فاسد لا أصل له في الشرع.
قلت: بل هو قياس صحيح ومعناه أن الشرع لما أذن في نقل رؤية الهلال بالعدل الواحد صح نقله أيضًا بما هو في معناه أو أقوى في الدلالة منه ككتاب القاضي والتلغراف والنار والبارود، فهذه كلها إذا جرت العادة بها وكانت بحيث لا تتخلف فإنه يتعين العمل بها، لأنها في معنى نقل العدل الواحد أو أقوى منه، لما تقدم أن العادة المستمرة تنزل منزلة شاهدين، فمرادهم بقياس تلغراف على صورة المدفع والنار أن هذه الأمور كلها في معنى النقل بالواحد، وأنها متساوية لا فرق بينها وهو صحيح.
وفي تأليف الإمام ابن مرزوق الذي سمّاه (تقرير الدليل الواضح المعلوم على جواز النسخ في كاغد الروم) ما نصه: القياس الممتنع على المقلِّد هو الذي ينشئ به حكمًا في واقعة بالقياس على أصل ثابت بالكتاب أو السنّة أو الإِجماع، فإن هذا لا يكون إلا للمجتهد المطلق. وأما القياس الذي يستعمل في إخراج جزئية من نص كلية، أو إلحاق مسألة بنظيرتها ممّا نص عليه المجتهد بعد اطلاع المقلّد على مأخذ إمامه فيها، أو المستعمل في ترجيح قول من أقوال الإمام في مسألة بقياسه على قوله في مسألة أخرى تماثلها ولم يختلف قوله فيها بعد اطلاعه على المدارك، فهذا وأشباهه من تخريج الأقوال في النظائر كما يفعله الأشياخ لا يمتنع على المقلِّد. اهــ
ثم قال: استدلال الشيخ عليش بفتوى أبي محمّد بصحة الصوم في مسألة رؤية النار على إيجاب الصوم أو الإفطار في مسألة التلغراف، استدلال وارد في غير محله، فهو خطأ قطعًا لما بين المسألتين من المباينة، لأن المسؤول عنه في مسألة أبي محمّد صحة صوم من اعتمد في تبييت نيته على رؤية النار ثم ثبت من الغد رؤية الهلال بالتحقيق، فأفتى فيها أبو محمّد بصحة صومهم قياسًا على قول ابن الماجشون في الرجل يأتي القوم فيخبرهم أن الهلال قد رُئِيَ فيصبحون صائمين، معتمدين على قوله في تبييت النية، ثم يثبت من الغد أن الهلال رءاه عدلان البارحة، فسئل ابن الماجشون هل يصح صومهم؟ فأجاب: بأن صومهم صحيح، فالمسؤول عنه في مسألتي أبي محمّد وابن الماجشون هو صحة الصوم. والمسؤول عنه في مسألة عليش هو وجوبه لا صحته، فبَيْن المسألتين المباينة التامة، فلا يقيس إحداهما على الأخرى إلا من لا شعور له ولا دراية بين الوجوب والصحة.
قلت: ما زعمه من أن ابن الماجشون سئل عن صحة الصوم وأجاب عنه بما ذكره غير صحيح، بدليل كلام الحطاب المتقدم، ويأتي لفظه أيضًا، بل ابن الماجشون إنما تكلم على لزومه بنقل الواحد فقط. ويلزم من ذلك صحته بعد وقوعه إذ مهما كان صومه واجبًا كان صحيحًا، فلذلك استدل أبو محمد على صحته بكلام ابن الماجشون، فكأنه يقول: الاعتماد على رؤية النار كالاعتماد على نقل الواحد الذي في كلام ابن الماجشون، فإذا ثبتت رؤيته نهارًا مع الاعتماد المذكور صح الصوم بالقياس على قول ابن الماجشون المذكور، وهو قياس أحروي لأنه إذا كان صحيحًا بمجرد الاعتماد على نقل الواحد فيكون صحيحًا مع الاعتماد على النار، وثبوته بالبينة الشرعية نهارًا أحرى.
ثم إنه على قول أبي محمّد بصحة الصوم يكون واجبًا أيضًا، إذ لا يصح صومه على أنه من رمضان إلا إذا كان واجبًا وإلا فلا يصح. وبالجملة، مهما كان صومه واجبًا كان صحيحًا، ومهما كان صحيحًا كان واجبًا، فأبو محمد استدل على صحته بكلام ابن الماجشون ويلزم منها الوجوب. وابْنُ الماجشون تكلم عن اللزوم ويلزم منه الصحة، وبذلك يظهر لك أن كلام الشيخ عليش ليس خطأ، فتأمله بإنصاف لا باعْتِساف.
ونص الحطاب: سئل أبو محمّد عن قرى البادية المتقاربة يقول بعضهم لبعض: إذا رأيتم الهلال فنيروا لنا، فرءاه بعض أهل القرى فنيروا، فأصبح أصحابهم صائمين، ثم ثبتت رؤيته بالتحقيق، فهل يصح صومهم؟ قال: نعم، قياسًا على قول ابن الماجشون في الرجل يأتي القوم فيخبرهم أن الهلال قد رئي، نقله المشدالي في حواشي المدوَّنة. اهــ تأمله. على أنه تقدم لهذا المجيب، أوَّلا أن السيد عليش إنما أيد ما قاله بهذه الفتوى، لا أنه قاس ما قاله عليها، كما نسبه له هنا. والله أعلم بالصواب. قاله وقيده المهدي الوزاني لطف الله به”. انتهى من النوازل.