بيان في النهي عن الغلو في الدين
ثبت النهي عن الغلو في الدين في القرءان والسنّة، أما القرءان فقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ {77} [سورة المائدة]، وأما السنة فما رواه النسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “وإِيّاكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”. والغلو هو الزيادة عن الحد المأمور به، فقد أمرنا أن نعظم الأنبياء والأولياء لكن لا يجوز أن نرفع الأنبياء فوق منزلتهم كوصفهم بصفات الربوبية، فقد بلغ الغلو في بعض الناس إلى أن قال: إن الرسول يعلم كل الغيب، وهذا كفر لأنه ردّ للنصوص، قال الله تعالى: وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {3} [سورة الحديد] فلو كان الرسول يعلم كل شىء ما قال الله تعالى عن نفسه: وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {3}.
ومن الغلو قول بعضهم في الرسول: ربي خلق طه من نور، فنقول: أما جسده صلى الله عليه وسلم فهو خلق من نطفة أبويه لقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ {110} [سورة الكهف] وأما روحه فلم يردْ في ذلك أنه خلق من كذا لا في القرءان ولا في الحديث الصحيح، فليس لنا أن نقول إنه خلق من نور لأنه قول بلا علم، وقد نهينا عن ذلك، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ {36} [سورة الإسراء]، فالصواب في ذلك أن يقال إنه خلق من الماء إما بغير واسطة أو بواسطة بينه وبين الماء يعلم الله ما تلك الواسطة. وأما حديث: أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر، خلقه الله من نوره قبل الأشياء، فهو ركيك كما قدمنا، والركاكة في الحديث دليل الوضع أي دليل على أنه مكذوب على الرسول، وأما نسبة هذا الحديث إلى مصنف عبد الرزَّاق فلا أصل لها، لأن عبد الرزَّاق ذكر في تفسيره أن بدء الخلق الماء.
وقد وقفت على رسالة ألّفها بعض المغاربة مخطوطة لم تطبع فيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى على جميع علمه، وهذا مصادمة للنصوص كقوله تعالى قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ {188} [سورة الأعراف]، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخضر أنه قال لموسى: “يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر”، رواه البخاري.
وأما الغلو في الأولياء فهو كوصفهم بأوصاف النبوة، وقد وقع لبعض الأولياء من بلاد الحبشة من بعض مادحيه في قصيدة بلغتهم ما معناه: إنه – أي ذلك الولي وهو أبو محمّد الدَّاوِيُّ – مِثْل الله. ومثل ذلك ما نسبه بعض المادحين للشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه في قصيدة مكذوبة عليه من أنه قال:
ولو أنني ألقيت سري على لظى
لأُطفئتِ النيران من عظم برهاني
وهذا رد للنصوص لأن الله تبارك وتعالى أخبرنا أن النار باقية لا تفنى لقوله: خَالِدِينَ فِيهَا {6} [سورة البينة] فلا يجوز على الشيخ عبد القادر الجيلاني أن يقول إنه يمكنه أن يطفئ النار بسره لو ألقاه عليها. ومثله ما نسب إليه في تلك القصيدة أيضًا من أنه قال:
فنادمني ربي حقيقًا وناداني
لأن معنى المنادمة المحادثة على الشراب كشرب الخمر، فإن الشربة يتنادمون فيما بينهم لينشطوا على شربها. ومن ذلك ما في كتاب الفيوضات الربانية في مآثر الطريقة القادرية من أنه قال:
كل قطب يطوف بالبيت سبعًا
وأنا البيت طائف بخيامي
وفي هذا الكتاب كلمات يقال لها الغوثية فيها أن الله تعالى قال لسيدنا عبد القادر يا غوث الأعظم أكل الفقراء أكلي وشربهم شربي إلى غير ذلك من كلمات كثيرة بشعة. والذي نعتقده أن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه بريء من مثل هذه الأقوال، فقد كان عالمًا فقيهًا زاهدًا، وقد نص الحافظ ابن حجر العسقلاني وغيره أن الشطنوفي مؤلف بهجة الأسرار في مناقب الغوث الجليل الجيلاني ذكر في البهجة المذكورة ما لا يصح إسناده للشيخ الجيلاني رضي الله عنه.
ومن الغلو ما تَعَوَّدَهُ جماعة شيخ في الصومال مشهور عندهم من ترديدهم هذه الكلمة: إن لشيخي تسعة وتسعين اسمًا كَسُمَا ذي الجلال في استجابة الدعاء، وهذه تشبيه للشيخ بالله تعالى وهذا كان واقعًا في تلك البلاد قبل خمسين سنة.
ومن الغلو القبيح ظن بعض جهلة المتصوفة أن الشيخ من المشايخ كالشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره من مشايخ الطريقة يُجل عن الخطإ وهذا مخالف للحديث ولكلام الصوفية.
أما الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم: “ما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله” رواه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا بإسناد حسن.
أما كلام الصوفية فقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: “إذا علم المريد من الشيخ خطئًا فلينبهه، فإن رجع فذاك الأمر وإلا فليترك خطأه وليتبع الشرع”، قال ذلك في كتاب أدب المريد، وقال سيدنا أبو العلمين أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “سَلِّم للقوم أحوالهم ما لم يخالفوا الشرع فإذا خالفوا فكن مع الشرع” اهــ
وليحذر العاقل من هؤلاء المتصوفة الذين لا يراعون الشريعة، ومن عادتهم أنهم إذا عارضهم معارض فيما يخالفون فيه الشرع يقولون: “أنتم أهل الظاهر ونحن أهل الباطن لا نتفق” فيقال لهؤلاء الجهلة: الله تعالى ما جعل شريعتين شريعة للمتصوفة وشريعة للمتمسكين بشرعه بل لا يصل متصوف إلا بكمال التمسك بالشريعة، ولا يصل متصوف إلى الولاية إلا بالتمسك بشرع الله ثم بعد الولاية يزداد تمسكًا بالشريعة فعندئذ يستحق العلم اللدني، أما من لم يتمسك بالشريعة على التمام فحرام عليه العلم اللدني.
فإن قالوا: أليس قال الله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ {282} [سورة البقرة] قيل لهم: قوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ {282} معناه أدوا كل الفرائض واجتنبوا كل المحرمات فهذا الذي يُعلمه الله العلم اللدني أما بدون ذلك مستحيل شرعًا أن يعطيه الله تعالى العلم اللدني.
وهؤلاء ابتعدوا من نصوص الشريعة كل البعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد”، أي كل أمر لا يوافق شريعتنا فهو مردود عند الله تعالى، فما أبعدهم من سيرة سيد الطائفة الصوفية الجنيد بن محمد البغدادي رضي الله عنه فقد قال: “الطريق إلى الله مسدودة إلا على المقتفين ءاثار رسول الله”.