بيان حكم التعطر والزينة للمرأة وفيه تفصيل
اعلم أن خروج المرأة متزيّنة أو متعطّرة مع ستر العورة مكروه تنزيهًا دون الحرام، ويكون حرامًا إذا قصدت المرأة بذلك التعرّض للرجال، أي إذا قصدت فتنتهم.
روى ابن حبّان والحاكم، والنسائي والبيهقي في باب ما يكره للنساء من الطيب، وأبو داود عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا: “أيما امرأةٍ استعطرت فمرّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية”.
وأخرج الترمذي في باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطّرة من حديث أبي موسى الأشعري أيضًا مرفوعًا: “كل عين زانيةٌ، والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا” يعني زانية. اهــ
فهذه الرواية الأخيرة مطلقة، ورواية: “ليجدوا ريحها” مقيّدة، ومخرج الكل واحد، فيحمل المطلق على المقيّد عملًا بالقاعدة التي جرى عليها الجمهور من حمل المطلق على المقيّد تحاشيًا لما يترتب على العكس من الخروج عن إجماع الأئمة، فإنه لم يقل أحد منهم بحرمة خروج المرأة متطيّبة على الإِطلاق، وهذا الحمل موافق لحديث عائشة الذي رواه أبو داود في سننه أنها قالت: “كنّا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمّخ جباهنا بالمسك المطيب للإحرام، فإذا عرقت إحدانا سالَ على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها”. والرسول ونساؤه كانوا يُحْرِمُونَ بذي الحليفة وَهي على بضعة أميال من المدينة.
والحديث الأوّل رواه النسائي، والبيهقي في باب ما يكره للنساء من الطيب لأنه لم يفهما منه تحريم خروج المرأة متعطّرة إلا الكراهة التنزيهية، لأن الكراهة إذا أُطلقت فيُراد بها عند الشافعيين الكراهة التنزيهية كما ذكر ذلك الشيخ أحمد بن رسلان الشافعي قال:
وفاعلُ المكروه لم يُعَذَّبِ
بل إن يكُفّ لامتثالٍ يُثَبِ
ومن المعلوم أن البيهقي كان شافعيَّ المذهب، ومثل الشافعية الحنابلة والمالكية فإنهم يريدون بالكراهة عند إطلاقها الكراهة التنزيهية، أمّا الحنفية فيريدون بها غالبًا ما يأثم فاعله.
فالقائل بحرمة خروج المرأة متعطّرة على الإِطلاق ماذا يفعل بهذا الحديث، وهو صحيح لم يضعّفه أحد من الحفّاظ، ولا عبرة بمَن ليس له مرتبة الحفظ كما هو مقرر في كتب المصطلح.
وأمّا حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن خزيمة وفيه أنّه مرّت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها: “أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: تطيبتِ لذلك؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل” فلم يصحّحه أحد من الحفّاظ، وإن ابن خزيمة الذي أخرجه قال فيه: “إن صح الخبر”، بالمعنى الشامل للصحيح والحسن لأنه لا يفرق بين الحسن والصحيح.
أما قول ابن حجر الهيتمي بعد قول ابن خزيمة إن صح الخبر “أي إن صح هذا الحديث وقد صحّ” فلا حجة فيه لأنه لم ينقل هذا التصحيح عن حافظ معتبر كابن حجر العسقلاني، فلا يجوز الخروج عن ظواهر تلك الأحاديث أي إلغاء العمل بها كحديث عائشة الذي سبق ذكره والذي هو أقوى إسنادًا من حديث أبي هريرة من أجل هذا الحديث الذي لم يصححه مخَرّجه ابن خزيمة، بل يجمع بينهما فيقال: لو صح هذا الحديث فليس فيه تحريم خروجها متعطّرة، وإنما فيه أن صلاتها في هذه الحال في المسجد لا تكون مقبولة.
ومن المعلوم أن كثيرًا من الكراهات تمنع القبول أي الثواب مع كون العمل جائزًا وانتفاء المعصية، مثال ذلك ترك الخشوع في الصلاة فإن الصلاة تصحّ بدون الخشوع مع عدم المعصية والقبول أي لا ثواب فيها؛ ونظير هذا الحديث حديث ابن عباس رفعه: “من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر”، قالوا: وما العذر؟ قال: “خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى”، رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم.
ووجه الاستدلال بالحديث أنه كما لا يفهم منه أن كل إنسان يتخلف عن الحضور إلى الجماعة حيث ينادى بالأذان وصلى في بيته يكون عاصيًا، كذلك لا يقصد بحديث أبي هريرة أن التي خرجت متطيبة إلى المسجد تكون عاصية بمجرد خروجها، إنما يُفهم منه أن ذهابها إلى المسجد مكروه كما أن الذي لم يذهب إلى موضع الأذان يكون بترك حضوره الجماعة حيث الأذان ينادى به قد فعل فعلًا مكروهًا. على أن حديث أبي هريرة هذا ليس في مطلق التطيّب بل في شدة رائحة الطيب لأن هذا معنى العصف كما هو معروف في اللغة، ومن ظن أنه لمطلق ريح الطيب فهذا جهل منه باللغة.
وأمّا حديث: “لا تمنعوا إماء الله من مساجد الله ولكن ليخرجن تفلات”، فلا يفيد إلا الكراهة التنزيهية لمن تذهب إلى المسجد وهي متطيّبة.
وأمّا دعوى بعض أنه في النسائي رواية: “فمرّت بقوم فوجدوا ريحها” فهو غير صحيح، إذ لا وجود لهذه الرواية في النسائي.
ولينظر إلى ما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر قال: “زارت أسماء أختها عائشة والزبير غائب فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فوجد ريح طيب فقال: “ما على المرأة أن تطيّب وزوجها غائب”، فلو كان ذلك حرامًا لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مفلح المقدسي الحنبلي في الآداب الشرعية ما نصه: “ويحرم خروج المرأة من بيت زوجها بلا إذنه إلا لضرورة أو واجب شرعي”، إلى أن قال: “ويكره تطيبها لحضور مسجد أو غيره”. اهــ
فيعلم مما تقدم أن ما جاء في الحديث لا يحرّم خروج المرأة متعطّرة على الإِطلاق، وإنما يحرمه إذا قصدت التعرّض للرجال.
فإن قيل: إن اللام التي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “فمرّت بقوم ليجدوا ريحها” هي لام العاقبة وليست لام التعليل.
فالجواب: أن هذا لا يصحّ لوجوه منها:
الأول: أن لام العاقبة هي التي يكون ما بعدها نقيضًا لمقتضى ما قبلها، كالتي في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا {8} [سورة القصص]، أي فكانت العاقبة أن كان سيدنا موسى عليه السلام عدوًّا لهم وحزنًا، فهذه اللام ما بعدها مناقض لمقتضى ما قبلها، لأن ءال فرعون إنما التقطوا سيدنا موسى من اليمّ ليكون لهم عونًا وينصرهم، ولكن العاقبة هي أنه كان عدوًا لهم وحزنًا، وهذا لا يصحّ في هذا الحديث لأن ظهور ريح الطيب ليس مناقضًا لخروج المرأة متعطّرة.
الثاني: أن اللام لا تكون للعاقبة إلا بطريق المجاز كما قال الإمام ابن السمعاني أحد مشاهير الأصوليين في كتابه القواطع، والمجاز لا بدّ له من دليل لا يصار إليه إلا لأجله، ولا دليل هنا للمجاز إلا التعصّب للرأي على طريق التحكّم كما قال الإِمام ابن السّمعاني أحد مشاهير الأصوليين، نقل ذلك عنه الفقيه الأصولي بدر الدين الزركشي في بحث معاني الحروف في تشنيف المسامع.
الثالث: أن هذا فيه إبطال الحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة الذي فيه أن نساء النبيّ كنّ يضمخن جباههنّ بالمسك للإِحرام، وقد تقدّم ذكره.
وَيَرِدُ على كلام المؤولين لحديث “ليجدوا” بأنه لام العاقبة أن شم الرجال ريحها قد لا يحصل لكونها تمر بعيدة من الرجال بحيث لا يصل ريحها إليهم فيؤدي كلامهم أن يكون هذا جائزًا، فهل يقولون بذلك أي أنها إذا خرجت بحيث لم يجد الرجال ريحها فهو جائز.
فوضح أن هذه اللام هي لام التعليل كما فهم ذلك ابن رشد القرطبي من كلام الإمام مالك كما سيأتي.
وروى البيهقي في سننه أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلّى ركعتين لم يصلّ قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهنّ بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خُرصها وسخابها، قال البيهقي: “رواه البخاري في الصحيح عن أبي الوليد وأخرجه مسلم عن شُعبة” اهــ
فهذا الحديث فيه أن هؤلاء النسوة خرجن يوم العيد وهنّ لابسات السخاب، وهو نوع من الطيب فلم ينكر عليهنّ، والخُرْصُ هو حلقة الذهب والفضة كما في القاموس في مادة: (خ ر ص)، وهذا من أدلّة جواز خروج المرأة متزينة أيضًا.
يقول القرطبي عند تفسير قوله تعالى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ {31} [سورة النور] مبيّنًا الأقوال التي وردت في تفسيرها ما نصّه: “الثالثة: أَمَر الله سبحانه وتعالى النساء بأن لا يبدين زينتهنّ للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حِذارًا من الافتتان. ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد ابن جبير: الوجه، وقال سعيد بن جبير أيضًا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفّان والثياب، وقال ابن عبّاس وقتادة والمِسوَر بن مَخْرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسّوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفَتَخُ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل مَن دخل عليها من الناس.
الرابعة: الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة، فالخلقية: وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع وطرق العلوم، وأما الزينة المكتسبة: فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحليّ والكحل والخضاب” اهــ
ثم قال: “الخامسة: من الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبدًا لكل الناس من المحارم والأجانب” اهــ
ثم قال: “من فعل ذلك منهن فرحًا بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجًا وتعرضًا للرجال فهو حرام مذموم” اهــ
وفي البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي عند تفسير قوله تعالى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ {31} [سورة النور] إلى ءاخر الآية ما نصّه: “ثم قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ {31} [سورة النور] واستثنى ما ظهر من الزينة، والزينة ما تتزيّن به المرأة من حليّ أو كحل أو خِضاب، فما كان ظاهرًا منها كالخاتم والفتَخَة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفي منها كالسّوار والخلخال والدُّملج والقلادة والإِكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثني، وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصوّن والتستّر، لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحلّ النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان” اهــ
ثم قال: “وسُومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ، وهذا معنى قوله: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا {31} [سورة النور] يعني إلا ما جرت العادة والجِبلَّةُ على ظهوره والأصل فيه الظهور”. اهــ
وفي كتاب البيان والتحصيل ما نصه: “وسئل مالك عما يكون في أرجُل النساء من الخلاخل، قال: ما هذا الذي جاء فيه الحديث، وتركهُ أَحَبُّ إلي من غير تحريم له، قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة والله أعلمُ أَنَّ مالكًا إنما سُئِل عما يجعله النساءُ في أَرْجُلِهِنَّ من الخلاخل وَهُنَّ إذا مشين بها سُمِعَتْ قَعْقَعَتُهَا فرأى تركَ ذلك أحَبَّ إليه من غير تَحْريم، لأن الذي يحرم عليهِنَّ إنما هو ما جاء النهيُ فيه من أَنْ يَقْصِدن إلى إِسْمَاعِ ذلك وإظهاره من زينتهن لمن يخطرن عليه من الرجال: قال الله عزّ وجلّ: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ {31} [سورة النور] ومن هذا المعنى ما رُوِيَ من أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَيُّما امرأةٍ اسْتَعْطَرَتْ فمرّت بقوم لِيَجِدوا ريحها فهي زانية” لعدم حرمة خروجها متعطرة إلا إذا كانت نيّتها التعرّض للرجال” اهــ
وقال النووي في المجموع ما نصّه: “فرع: إذا أرادت المرأة حضور المسجد كره لها أن تمسّ طيبًا وكره أيضًا الثياب الفاخرة” اهــ
وفي كتاب نهاية المحتاج لشمس الدين الرملي المشهور بالشافعي الصغير ما نصّه: “أما المرأة فيكره لها الطيب والزينة وفاخر الثياب عند إرادتها حضورها”. انتهى. أي الجماعة.
وقال زكريا الأنصاري الشافعي في كتاب أسنى المطالب ممزوجًا بالمتن: “(ويستحب) الحضور (للعجائز) والأولى لغير ذوات الهيئات بإذن أزواجهنّ، وعليه يحمل خبر الصحيحين عن أم عطية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيّض في العيد، فأما الحيّض فكنّ يعتزلن المصلّى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، والعواتق جمع عاتق وهي البنت التي بلغت، والخدور جمع خدر وهو الستر، (مبتذلات) أي لابسات ثياب بِذْلة وهي ما يُلبس حال الخدمة لأنها اللائقة بهنّ في هذا المحل، (ويتنظفن بالماء فقط) يعني من غير طيب ولا زينة فيكره لهنّ ذلك لما مرّ في الجمعة، (ويكره لذوات الهيئات والجمال) الحضور كما مرّ في صلاة الجماعة فيصلّين في بيوتهنّ، ولا بأس بجماعتهنّ لكن لا يخطبن فإن وعظتهنّ واحدة فلا بأس” اهــ
وقال زكريا الأنصاري في موضع ءاخر منه ما نصه: “فرع: يستحب للمزوجة وغيرها عجوزًا أو شابة مسح وجهها بالحناء للإحرام وخضب كفيها به له لتستر به ما يبرز منها، لأنها تؤمر بكشف الوجه وقد ينكشف الكفّان، ولأن الحناء من زينتها فندب قبل الإحرام كالطيب. وروى الدارقطني عن ابن عمر أن ذلك من السنّة تعميمًا للكفين لا نقشًا وتسويدًا وتطريفًا فلا يُستحب شىء منها لما فيه من الزينة وإزالة الشعث المأمور به في الإحرام، بل إن كانت خَلية أو لم يأذن لها حليلها حرم وإلا فلا كما مرّ في شروط الصلاة، ويكره لها الخضب بعد الإحرام لما مرّ ءانفًا، وفي باقي الأحوال أي وفي غير الإحرام يستحب للمزوجة لأنه زينة وهي مطلوبة منها لزوجها كل وقت كما مرّ في شروط الصلاة ويكره لغيرها بلا عذر لخوف الفتنة”. اهــ
وقال الشيخ محمد محفوظ الترمسي في موهبة ذي الفضل على شرح ابن حجر على مقدمة بافضل عند قول ابن حجر: “ويكره بالطيب والزينة كما يكره الحضور لذوات الهيئات ولو عجائز وللشابات” ما نصه: “قوله: “ويكره بالطيب والزينة” أي لخبر مسلم: “إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا”، وخبر أبي داود بإسناد صحيح: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات” بفتح المثناة وكسر الفاء أي تاركات للطيب والزينة ولخوف المفسدة فإن لم تحترز من الطيب أو الزينة كره لها الحضور كما تقرر” اهــ
وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف ما نصه: “وأباح ابن الجوزي النمص وحده، وحمل النهي على التدليس أو أنه من شعار الفاجرات، وفي الغنية وجه يجوز النمص بطلب الزوج، ولها حلقه – أي للمرأة حلق وجهها – وحفه نصّ عليهما، وتحسينه بتحمير ونحوه”. اهــ
وانظر إلى ما قال النووي في كتاب المجموع ففيه ما نصّه: “وأما ذوات الهيئات وهنّ اللاتي يشتهين لجمالهنّ فيكره حضورهنّ – أي إلى محل صلاة العيد -، هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع الجمهور، وحكى الرافعي وجهًا أنه لا يستحب لهنّ الخروج بحال والصواب الأول، وإذا خرجن استحبّ خروجهنّ في ثياب بذلة ولا يلبسن ما يشهرهُنّ، ويستحبّ أن يتنظفن بالماء ويُكره لهنّ التطيّب لما ذكرناه في باب صلاة الجماعة، هذا كلّه حكم العجائز اللاتي لا يشتهين ونحوهنّ، فأما الشابة وذات الجمال ومَن تُشتهى فيُكره لهنّ الحضور لما في ذلك من خوف الفتنة عليهنّ وبهنّ” اهــ
وفي الإِيضاح للنووي عند ذكر أنه يسنّ التطيّب للإِحرام ما نصّه: “وسواء فيما ذكرناه من الطيب الرجل والمرأة” اهــ
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه: “قوله (ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة) وصله سعيد بن منصور من طريق القاسم ابن محمد قال: كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة” إسناده صحيح. وأخرجه البيهقي من طريق ابن أبي مُليكة: “ان عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف وهي محرمة”، وأجاز الجمهور لبس المعصفر للمحرم. وعن أبي حنيفة: العصفر طيب وفيه الفدية، واحتج بأن عمر كان ينهى عن الثياب المصبغة، وتعقبه ابن المنذر بأن عمر كره ذلك لئلا يقتدي به الجاهل فيظن جواز لبس المورّس والمزعفر، ثم ساق له قصة مع طلحة فيها بيان ذلك.
قوله (وقالت) أي عائشة (لا تلثّم) بمثناة واحدة وتشديد المثلثة: وهو على حذف إحدى التاءين، وفي رواية أبي ذر تلتثم بسكون اللام وزيادة مثناة بعدها أي لا تغطي شفتها بثوب، وقد وصله البيهقي، وسقط من رواية الحموي من الأصل، وقال سعيد بن منصور “حدثنا هُشيم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: “تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها”.
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن وعطاء قالا: “لا تلبس المحرمة القفازين والسراويل ولا تَبَرْقَعُ ولا تَلَثَّمُ، وتلبس ما شاءت من الثياب إلا ثوبًا ينفض عليها ورسًا أو زعفرانًا” وهذا يشبه ما ذكر في الأصل عن عائشة. قوله (وقال جابر) أي ابن عبد الله الصحابي.
قوله (لا أرى المعصفر طيبًا) أي تطيبًا، وصله الشافعي ومسدد بلفظ “لا تلبس المرأة ثياب الطيب ولا أرى المعصفر طيبًا” وقد تقدم الخلاف في ذلك. قوله (ولم تر عائشة بأسًا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة) وصله البيهقي من طريق ابن باباه المكي أن امرأة سألت عائشة: ما تلبس المرأة في إحرامها؟ قالت عائشة: تلبس من خزها وبزها وأصباغها وحليها. وأما المورّد والمراد ما صبغ على لون الورد فسيأتي موصولا في باب طواف النساء في ءاخر حديث عطاء عن عائشة، وأما الخف فوصله ابن أبي شيبة عن ابن عمر والقاسم بن محمد والحسن وغيرهم، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخِفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: “كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر” تعني جدتها قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا كما جاء عن عائشة قالت: “كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه” انتهى. وهذا الحديث أخرجه هو من طريق مجاهد عنها وفي إسناده ضعف” اهــ
وقال سيف الدين أبو بكر محمّد بن أحمد الشاشي القفّال في كتاب حلية العلماء ما نصّه: “منصوص الشافعي رحمه الله في عامة كتبه أن حكم المرأة في استحباب التطيّب للإِحرام كحكم الرجل” اهــ
ثم قال: “وحكى الداركي أن الشافعي رحمه الله قال في بعض كتبه: “إنه لا يستحب للمرأة أن تتطيّب للإِحرام فإن فعلت ذلك كان جائزًا كحضور الجماعة” والأول أصح. اهــ ومراده بالأوّل أن استحباب التطيّب للمرأة للإِحرام هو الأصح.
ويستدل بكلام الشافعي رضي الله عنه على جواز تطيّب المرأة لحضور الجماعة، ولم يجعل جواز التطيب خاصًّا بالمحرمة بل جعله مطلقًا للمحرمة ولمن تريد حضور الجماعة ولم يقيّد الجواز بالمحرمة، ومن ادّعى التقييد فليأتِ بنص عن مجتهد فيه جواز التطيب للنساء بحال الإِحرام وتحريمه في غيره.
وقال الشاشي في الحِلية أيضًا ما نصّه: “ويحرم على المرأة أن تصل شعرها بشعر نجس، فأمّا إن وصلته بشعر طاهر أو حمّرت وجهها أو سوّدت شعرها أو طرفت أناملها – أي استعملت الحنّاء لأطراف الأصابع – ولها زوج لم يكره وإن لم يكن لها زوج كره لما فيه من الغرور” اهــ
وقال إمام المالكية في عصره أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحَطاب في كتاب مواهب الجليل ما نصّه: “فرع: قال ابن القطّان: ولها أن تتزين للناظرين – أي للخطبة – بل لو قيل بأنه مندوب ما كان بعيدًا، ولو قيل إنه يجوز لها التعرّض لمن يخطبها إذا سَلِمَت نيّتها في قصد النكاح لم يبعد”. انتهى.
وقال الشيخ منصورٌ البهُوتي الحنبلي في كتاب كشّاف القناع ممزوجًا بالمتن ما نصّه: “ولها أي المرأة حلق الوجه وحفّه نصًّا، والمحرّم إنما هو نتف شعر وجهها، قاله في الحاشية، ولها تحسينه وتحميره ونحوه من كل ما فيه تزيين له، ويكره حفه أي الوجه لرجل، نص عليه، وكذا التحذيف وهو إرسال الشعر الذي بين العِذار والنَّزَعَة يكره للرجل لأن عليًّا كرهه، رواه الخلال، لا لها أي لا يكره التحذيف لها لأنه من زينتها، ويكره النقش والتكتيب والتطريف وهو الذي يكون في رءوس الأصابع وهو القموع، رواه المروالروذي عن عُمَر، وبمعناه عن عائشة وأنس وغيرهما بل تغمس يدها في الخضاب غمسًا نصًّا” اهــ
وقوله نصًّا يعني نص الإمام أحمدُ على ذلك.
وفي الفتاوى البزّازية الحنفية ما نصّه: “له والدة شابة تخرج بالزينة إلى الوليمة والمأتم بلا إذنه ولها زوج، لا يتمكن من منعها ما لم يثبت عنده أنها تخرج للفساد فإن ثبت رفع الأمر إلى القاضي ليمنعها”. اهــ
وهذا نص صريح عند الحنفية على جواز خروج الشابة متزيّنة ما لم تخرج للفساد. وهذه نصوص من المذاهب الأربعة فبعد هذا لا وجه للإنكار.
فإن قيل: روى البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: “لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما مُنعت نساء بني إسرائيل قلت لعمرة: أوَمُنعن؟ قالت: نعم”.
فالجواب: ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ونصه: “وتمسَّك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقًا وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علّقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنّته فقالت: لو رأى لمنع، فيقال: عليه لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم، حتى إن عائشة لم تصرّح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع. وأيضًا فقد علم الله سبحانه ما سيُحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى، وأيضًا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعيّن المنع فليكن لمن أحدثت” اهــ
تتمة: التبس الأمر على بعض الناس فظنوا أن هذه الآية وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ {31} [سورة النور] إلى ءاخر الآية، يراد بها تحريمُ الزينة على النساء في غير حضرة الزوج والمحارم النساء، متوهمين أن الزينة هي الزينة الظاهرة باللباس والحليّ فقد وضعوا الآية في غير موضعها، والأمر الصحيح أن المراد بالآية كشف الزينة الباطنة من الجسد وهو ما سوى الوجه والكفين، والقدمين عند بعض الأئمة، بخلاف الزينة المستثناة في ءاية إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا {31} فإن الله تعالى أباح كشف الوجه للحرّة وغيرها لحاجة الخلق إلى ذلك، والحاصل أن الزينة في الموضعين بدن المرأة.
فائدة: قد مرّ في هذا المبحث أن ذكرنا أَنّ حديث أبي موسى: “أيما امرأة خرجت مستعطرة فمرّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية” صحيح لم يختلف فيه، وذكرنا حديث أبي هريرة أنه لقي امرأة يعصف ريحها طيبًا فقال: إلى أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيبت لذلك؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا خرجت المرأة متطيبة إلى المسجد لم تقبل صلاتها”.
نقول: لا يصح أن يكون هذا الحديث معارضًا لحديث أبي موسى، فلا يصح أن يكون دليلًا لتحريم خروج المرأة متعطرة مطلقًا من غير تقييد بحالة قصدها التعرّض للرّجال كما هو مُفاد حديث أبي موسى، لأن مخرّجه ابن خزيمة توقف عن تصحيحه لقوله: “إن صح الخبر”، وعلى فرض صحته لا دليل فيه على أنها تكون عاصية بخروجها متطيبة لو لم تقصد التعرض للرجال، لأنه لا يلزم من نفي قبول صلاتها حرمة تطيبها على الإطلاق قصدت بخروجها التعرّض للرجال أو لا، وذلك نظير حديث أبي داود الطيالسي الذي رواه جرير بن عبد الله البَجَلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “العبد الآبق لا تقبل له صلاة حتى يرجع إلى مواليه” فإنه ليس فيه دلالة على أن عدم قبول صلاته هو دليل حرمة إباقه، وإنما حرمة إباقه أخذ من دليل ءاخر، فعدم قبول صلاة المرأة المتطيبة لذهابها إلى المسجد مثل عدم قبول صلاة هذا العبد الآبق فلا يفهم منه أن عدم قبول صلاتها في هذه الحالة هو مستلزم لحرمة خروجها متطيبة في غير حالة قصدها التعرّض للرجال، فلا يجوز إطلاق القول بأن خروج المرأة متطيبة حرام مطلقًا اعتمادًا على هذا الحديث.
وهناك دليل ءاخر من الحديث وهو: “ثلاثة لا ترفع صلواتهم فوق رءوسهم شبرًا: امرأة باتت وزوجها ساخط عليها، وعبد ءابق، ورجل أمّ قومًا وهم له كارهون” أخرجه الترمذي وابن حبان بنحوه وصححه فإنه لا دلالة فيه على أن الذي أمّ قومًا وهم له كارهون عاصٍ بإمامته للقوم بل فيه أن إمامته مكروهة لا ثواب فيها كما نص على ذلك الشافعية، فمن أين لهؤلاء أن يتسلموا منصبًا ليس لهم ويجتهدوا وهم أبعد الناس عن منصب الاجتهاد، وغاية أمرهم أن يتعلموا ما قاله الفقهاء ويعملوا به، لكنهم تجاوزوا طورهم وهم يعيشون في فوضى كما قال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ومما يشهد لما ذكرنا حديث: “من سمع النداءَ فلم يُجِبْ فلا صلاة له، إلا من عُذرٍ” رواه ابن حبان وصححه فإنه لا يفيد العصيان بترك الحضور إلى محل النداء في جميع الحالات، وإنما يكون ذلك فيما إذا كان تخلف عن الجمعة التي هي فرض عين أو عن غير الجمعة إذا كان يحصل بتخلفه فقدان شعار الجماعة.
فتبين بهذا أن القول بأن لام: “ليجدوا ريحها” المذكورة في حديث أبي موسى لام العاقبة كلامٌ بعيد عن الصواب، كيف يتجرأ طالب الحق بعد أن يعلم أن مذهب الشافعي أن التطيّب للذكر والأنثى للإحرام سنّة وبعد أن سمع حديث عائشة: “كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة للإحرام فنضمخ جباهنا بالمسك المطيب، فإذا عرقنا سال على وجوهنا فيرى رسول الله ذلك فلا ينهانا” على تحريم خروج المرأة متطيبة على الإطلاق من غير تفصيل يفيده حديث أبي موسى.
فنصيحتي لمن سلك هذا المسلك أن ينظر مع التجرد عن التعصّب للرأي فيما ذكر هنا مع ما مرّ قبل من الأدلة.