الأربعاء ديسمبر 11, 2024

بيان حكم اختلاط الرجال بالنساء وفيه تفصيل

اعلم أنه لا ينبغي الغلو في الدين بل يجب الاعتدال، فلا يجوز تحليل ما حرّم الله ولا تحريم ما أحلّ الله، قال الله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ [سورة المائدة]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عبّاس رضي الله عنه في الحجّ بمزدلفة: “هات القط لي”، فالتقط له حصى مثل حصى الخزف، قال له رسول الله: “بأمثال هؤلاء، وإيّاكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”.

ثم إن بعض الناس غلوا بمسألة اجتماع الرجل بالنساء في هذا الزمن في بعض البلاد، فحرموا ما لم يحرم الله وهو مجرد اجتماع الرجال بالنساء من غير خلوة ومن غير تلاصق ومن غير كون النساء كاشفات الرءوس، وليس لهم دليل في ذلك إلا اتباع الهوى.

ثم اختلاط الرجال بالنساء هو على وجهين، وجه جائز ووجه محرم، والوجه الجائز هو الاختلاط بدون تلاصق بالأجسام ولا خلوة محرمة، والوجه المحرم ما يكون فيه تلاصق وتضام كما بيَّن ذلك الشيخ ابن حجر في فتاويه الكبرى والشيخ أحمد بن يحيى الوانشريسي في كتابه الذي جمع فيه فتاوى فقهاء المغرب المسمى المعيار المعرب، وكان من أهل القرن العاشر الهجري.

وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَضُمُّ” أو: “يضيف هذا”، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيّئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ضحك الله الليلة” أو: “عجب من فعالكما” فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} [سورة الحشر].

وضحك هنا بمعنى رضي وليس كضحك البشر، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح. فهذا نص صريح صحيح في أن الصحابي جلس هو وزوجته مع الضيف كما يجتمع الأكَلَةُ على الطعام من التقارب، وقد أقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.

وروى البخاري في صحيحه عن سهل قال: “لما عَرَّسَ أبو أُسَيْدٍ الساعديُّ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فما صنع لهم طعامًا ولا قرّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد” الحديث.

قال الحافظ ابن حجر: “وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك” اهــ

وروى الإمام المجتهد ابن المنذر في كتابه الأوسط فقال: “حدثنا علي بن عبد العزيز قال: ثنا حجاج قال: نا عن ثابت وحميد عن أنس قال: قدمنا مع أبي موسى الأشعري فصلى بنا العصر في المِرْبَد ثم جلسنا إلى مسجد الجامع فإذا المغيرة بن شعبة يصلي بالناس والرجال والنساء مختلطون فصلينا معه”. اهــ

وروى ابن حبان عن سهل بن سعد قال: “كن النساء يؤمرن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يرفعن رءوسهن حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من الأرض من ضيق الثياب”. اهــ

فهذان الحديثان فيهما دليل أيضًا على أن اجتماع الرجال والنساء في موضع واحد جائز من غير أن يكون بين الرجال والنساء ستار ممدود، وفيهما أن اختلاط الرجال والنساء بدون تلاصق جائز، وإنما الخلطة المحرمة هي التلاصق بالأبدان.

وفي شرح النووي على المهذب ما نصّه: “ولأن اختلاط النساء بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام” اهــ

ويدل لقول النووي حديث ابن عباس أن الرسول قال للنساء عند المبايعة: “إنما أنبئكن عن المعروف الذي لا تعصينني فيه أن لا تخلون بالرجال وُحْدانًا ولا تَنُحْنَ نَوْح الجاهلية”، رواه الحافظ ابن جرير الطبري.

ومعنى قوله عليه السلام: “وحدانًا” أي لا تخلو المرأة الواحدة بالرجل الواحد فهذه هي الخلوة التي حرّمها الرسول.

ونص فقهاء المالكية على أن المعصية تنتفي بالتعدد أي باختلاء رجلين مع امرأة واحدة أو امرأتين مع رجل واحد، وقد ذكر ذلك الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي في شرح روض الطالب ممزوجًا بالمتن: “يجوز لرجل أجنبي أن يخلو بامرأتين ثقتين”. اهــ

وكذا ذكر محمد الأمير المالكي أن الخلوة المحرّمة لا تكون مع التعدد أي لا يحرم خلوة امرأتين برجل ولا خلوة رجلين بامرأة.

وإنما حرم رسول الله خلوة رجل أجنبي بامرأة واحدة، وسمح في اجتماع رجلين أو أكثر بامرأة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان”، ففي هذا الحديث دليل في قوله عليه السلام: “بامرأة” أنه إذا كانت النساء أكثر من واحدة ليس بحرام، وكذلك إذا اجتمع رجلان بامرأة ليس بحرام. هذا معنى حديث رسول الله، وهذا الحديث صحيح رواه الترمذي.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخلن رجل على مُغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان” رواه مسلم وغيره. والمغيبة هي المرأة التي زوجها غائب. فحرم علينا رسول الله أن يدخل الواحد منا على هذه المغيبة وأذن في دخول اثنين فأكثر على هذه الواحدة، وأخذ على النساء عهدًا أن لا يَخْلُون بالرجال وحدانًا أي لا تخلو واحدة بواحد.

وفي هذا الحديث أيضًا دليل على أنه إذا خلت واحدة برجلين أو أكثر ليس حرامًا، وكذلك إذا خلا رجل واحد بامرأتين فأكثر. وهذا الحكم مطلق يشمل اجتماع الرجال بالنساء على هذا الوجه الذي دَلّ الحديث على جوازه إن كان الاجتماع لأمر دنيوي لا معصية فيه أو لأمر ديني كتعلّم علم الشرع أو للذكر إن كن مغطيات رءوسهن وما سوى ذلك مما هو عورة. فمن خالف ذلك وحرّم اجتماع النساء عند رجل لتعلّم علم الدين فالويل له لأنه حرّم ما لم يحرّم الله، فكيف يُحرّم هذا وقد ثبت في كتب الحديث أن النساء كن يصلين مع رسول الله صلاة الجماعة ثم ينصرفن، وكن يقفن في الصف الذي بعد صف الرجال ولم يكن يمدّ ستار بين صفّ الرجال وصفّ النساء بل كان مكشوفًا، وكذلك ورد في صحيح البخاري أن الرسول كان يأمر بخروج النساء لصلاة العيد إلى المصلى وهو مكان بالمدينة قريب من المسجد، كانت الشابات يحضرن ليصلين العيد خلف الرسول في ذلك المصلى والحيَّض يعتزلن المصلى ليشهدن الخير، ثم بعض المرّات اعتزل هو وبلال رضي الله عنه إلى النساء فوعظهن. وفي صحيح البخاري أيضًا: “باب موعظة الإِمام النساء يوم العيد”.

ولم يزل من عادات المسلمين في البلاد الكبيرة أن بعض العلماء كان يخصّ النساء بدرس في جانب من المسجد وكان يفعل ذلك الشيخ طاهر الريّس رحمه الله بحمص.

فاتّقوا الله أيها المحرّمون لتدريس الرجل النساء علم الدين بغير دليل شرعي، واعلموا أن كلامكم الذي تقولونه يكتب عليكم، يقول الله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ {116} [سورة النحل] واذكروا قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18} [سورة قَ] فعليكم أن تُحَاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبوا وإلى الله المرجع والمآب.

فبعد هذا البيان للحكم الشرعي لا يجوز مخالفته من أجل العادة التي ألف الشخص في بلده، ومن أقبح القبيح أن يترك الشخص أحاديث رسول الله الصحيحة ويتعلّق بعادة بلده، وهذا خلاف سيرة الأئمة المجتهدين الشافعي ومالك وغيرهما، قال الإِمام الشافعي رضي الله عنه: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.

وقد تقدم أنه جاء في صحيح مسلم: “لا يدخلن أحدكم على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان”.

فإذا علم هذا علم أنه لا يجوز الإنكار على من يجلس مع نساء أجنبيات لتعليم الدين أو للوعظ، وليتّق الله امرؤ ينكر ذلك أو يحرّمه، كيف يقدم على ذلك بعد هذه النصوص، ومن أين له أن يطلق القول بتحريم خلطة الرجال بالنساء على غير وجهه والرسول عليه السلام يقول: “لا تخلون بالرجال وحدانًا” أي واحدةٌ بواحد، والوحدان جمع واحد، وفي صحيح ابن حبّان أنه جاء أُبيّ بن كعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه كان مني الليلة شىء في رمضان قال: “وما ذاك يا أُبيّ”، قال: نسوة في داري قلن: إنا لا نقرأ القرءان فنصلي بصلاتك، قال: فصليت بهن ثمان ركعات ثم أوترت، قال: فكان شبه الرضا ولم يقل شيئًا. اهــ

وروى يحيى بن يحيى عن مالك في الموطإ أنه سئل هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم أو مع غلامها؟ فقال مالك: “ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممّن تؤاكله”. اهــ