بيان جواز تعليق الحروز والتمائم إذا كانت من القرءان
العجب العجاب أن الوهابية يمنعون من هذه التعاويذ والحروز التي ليس فيها إلا شئ من القرءان أو ذكر الله ويقطعونها من أعناق من يحملها قائلين: هذا شرك، فبماذا يحكمون على عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره من الصحابة الذين كانوا يعلقون هذه على أعناق أطفالهم الذين لم يبلغوا، أيحكمون عليهم بالشرك، وماذا يقولون في أحمد بن حنبل الذي سمح بها، وماذا يقولون في الإمام المجتهد ابن المنذر؟ كفاهم خزيًا أن يعتبروا ما كان عليه السلف شركًا.
وقد أحب القرضاوي إرضاء الوهابية فادعى في كتابه المسمى “موقف الإسلام [1] تحت عنوان: “كراهة التمائم ولو كانت من القرءان” ما نصه: “وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرءان وغير القرءان” اهـ، ثم ساق بعد ذلك بعض أقوال من يرى جواز التمائم إذا كانت من القرءان، ثم ختم ذلك برأيه الخاص وكأنه من أهل الاجتهاد فيما يزعم فقال ما نصه [2]: “وإن كنت أرجح ما رءاه أصحاب ابن مسعود من كراهية التمائم كلها” اهـ.
والجواب: غاية ما يحتجون به الحديث الذي رواه أبو داود [3] وغيره: “إن الرقى والتمائم والتولة شرك”، فليس معناه التمائم والتعاويذ التي فيها قرءان أو ذكر الله لكن الوهابية حرّفت الحديث، والتمائم معروف معناه في اللغة وهي الخرز كانت الجاهلية تضعها على أعناق الغلمان، كما أن الرقى التي قال الرسول إنها شرك هي رُقى الجاهلية وما كان في معناها، وليس المراد بها الرقى التي فعلها الرسول وغيره من الصحابة، فانظروا أيها المسلمون كيف يحرّفون الكلم عن مواضعه.
وتلك التمائم التي نهى الرسول عنها لأنها كانت الجاهلية يعلقونها على أعناقهم يعتقدون أنها بطبعها تحفظ من العين ونحوها من دون اعتقاد أنها تنفع بإذن الله، ولهذا الاعتقاد سماها الرسول شركًا كما أنه ذكر الرقى في هذا الحديث لأن الرقى منها ما هي شركية ومنها ما هي شرعية فرقى الجاهلية التي جعلها الرسول شركًا كان فيها دعوة الشياطين والطواغيت ومعلوم أن كل قبيلة من العرب كان لها طاغوت وهو شيطان ينزل على رجل منهم فيتكلم على لسانه فكانوا يعبدونه. وأما الرقى الشرعية فقد فعلها الرسول وعلمها أصحابه، وأما التمائم فإن المسلمين من عهد الصحابة كانوا يستعملونها للحفظ من العين ونحوها بتعليقها وتتضمن شيئًا من القرءان أو ذكر الله.
قال اللغوي الجوهري في الصحاح [4] ما نصه: “والتميمة: عُوذَةٌ تعلق على الإنسان، وفي الحديث: “من علق تميمة فلا أتم الله له”، ويقال هي خرزة، وأما المُعاذات إذا كُتب فيها القرءان وأسماه الله عز وجل فلا بأس بها” اهـ، ونقل ذلك أيضًا اللغوي ابن منظور في لسان العرب [5].
وقال اللغوي الأزهري ما نصه [6]: “قلت: التمائم واحدتها تميمة وهي خرزات كانت الأعراب يعلقونها على أولادهم يتقون بها النفس والعين بزعمهم، وهو باطل” اهـ.
هذه أقوال أهل اللغة، أما أهل الحديث فقد ذكر ابن الأثير ما نصه [7]: “التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتَّقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام”، وكذا ذكر البغوي [8].
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري ما نصه [9]: “والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا شئ كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل فب ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه” اهـ.
ومعنى الحديث ما ذكره المناوي في شرح الجامع الصغير ونص عبارته بعد إيراده للحديث [10]: “أي من الشرك سماها شركًا لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهودًا في الجاهلية وكان مشتملاً على ما يتضمن الشرك أو لأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها ويفضي إلى الشرك ذكره القاضي، وقال الطيبي رحمه الله: المراد بالشرك اعتقاد أن ذلك سبب قوي وله تأثير وذلك ينافي التوكل والانخراط في زمرة الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، لأن العرب كانت تعتقد تأثيرها وتقصد بها دفع المقادير المكتوبة عليهم فطلبوا دفع الأذى من غير الله تعالى وهكذا كان اعتقاد الجاهلية، فلا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه ولا من علقها تبركا بذكر [باسم] الله عالمًا أنه لا كاشف إلا الله فلا بأس به” اهـ.
وقال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي ما نصه [11]: “[والتمائم] جمع تميمة وأصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد لدفع العين ثم توسعوا بها كل عوذة [والتولة] كعنبة ما يحبب المرأة إلى الرجل من السحر أي من الشرك، سماها شركًا لأن المتعارف منها في عهد الجاهلية كان مشتملاً على ما يتضمن الشرك، أو لأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها ويفضي إلى الشرك أو ينافي التوكل والانخراط في زمرة الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، لأن العرب كانت تعتقد تأثيرها وتقصد بها دفع المقادير المكتوبة عليهم فطلبوا دفع الأذى من غير الله تعالى، وهكذا كان اعتقاد الجاهلية، فلا يدخل في ذلك ما كان من أسماء الله وكلامه ولا من علقها تبركًا بالله عالمًا أنه لا كاشف إلا الله فلا بأس به” اهـ.
روى الحافظ ابن حجر في الأمالي [12] عن محمد بن يحيى بن حبان –بفتح المهملة وتشديد الموحدة- وهو الأنصاري أن خالد بن الوليد كان يأرق من الليل، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. قال: هذا مرسل صحيح الإسناد أخرجه ابن السني [13].
وروى عن محمد بن يحيى بن حبان أن الوليد بن الوليد بن المغيرة شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث نفس يجده فقال: إذا أويت إلى فراشك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة فذكره سواء وزاد في ءاخره: فوالذي نفسي بيده لا يضرّك شئ حتى تصبح، قال: وهذا مرسل صحيح الإسناد أخرجه البغوي.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى ءاله وسلم يعلّمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع، وفي رواية إسماعيل: إذا فزع أحدكم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، وكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من بنيه أن يقولها عند نومه ومن لم يبلغ كتبها ثم علقها في عنقه. قال الحافظ: هذا حديث حسن أخرجه الترمذي [14] عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن عباس، وأخرجه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس، عن يزيد بن هارون. انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
وقد أجاب الحافظ البيهقي عن ذلك فيما رواه في السنن الكبرى [15] عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له” قال البيهقي: وهذا أيضًا يرجع معناه إلى ما قال أبو عبيد، وقد يحتمل أن يكون ذلك وما أشبهه من النهي والكراهية فيمن تعلقها وهو يرى تمام العافية وزوال العلة منها على ما كان أهل الجاهلية يصنعون، فأما من تعلقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها وهو يعلم أن لا كاشف إلا الله ولا دافع عنه سواه فلا بأس بها إن شاء الله.
ثم قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا هارون بن سليمان، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن المبارك، عن طلحة بن أبي سعيد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ليس التميمة ما يعلق قبل البلاء، إنما التميمة ما يعلق بعد البلاء ليدفع به المقادير. ورواه عبدان عن ابن المبارك وقال في متنه إنها قالت: التمائم ما علق قبل نزول البلاء، وما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة [16]، أنبأنيه أبو عبد الله إجازة أخبرني الحسن بن حليم أنبأ أبو الموجه أنبأ عبدان أنبأ عبد الله فذكره –وهذا أصح-.
أخبرنا أبو زكريا وأبو بكر بن الحسن قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ليست التميمة ما علق بعد أن يقع البلاء. –وهذا يدل على صحة رواية عبدان-.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو عبد الرحمن السلمي من أصله وأبو بكر القاضي وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن سنان، ثنا عثمان بن عمر، أنبأ أبو عامر الخراز، عن الحسن، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه حلقة من صفر فقال: “ما هذه؟” قال: من الواهنة، قال: “أيسرّك أن توكل إليها، انبذها عنك”.
أخبرنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسي، ثنا أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه، ثنا إبراهيم بن علي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه، عن عبد الله بن عُكيم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من تعلق علاقة وكل إليها” [17].
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس، ثنا هارون، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن أسير بن جابر قال: قال عبد الله رضي الله عنه: من تعلق شيئًا وكل إليه.
قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن جرير بن حازم قال: سمعت الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من تعلق شيئًا وكل إليه”.
قال: وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحجاج، عن فضيل أن سعيد بن جبير كان يكتب لابنه المعاذة، قال وسألت عطاء فقال: ما كنا نكرهها إلا شيئًا جاءنا من قبلكم.
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد أنه سأل يحيى بن سعيد عن الرقى وتعليق الكتب فقال: كان سعيد بن المسيّب يأمر بتعليق القرءان وقال: لا بأس به.
قال الشيخ –أي البيهقي- رحمه الله: وهذا كله يرجع إلى ما قلنا من أنه إن رقى بما لا يعرف أو على ما كان من أهل الجاهلية من إضافة العافية إلى الرقى لم يجز، وإن رقى بكتاب الله أو بما يعرف من ذكر الله متبركًا به وهو يرى نزول الشفاء من الله تعالى فلا بأس به، وبالله التوفيق. انتهى كلام الحافظ البيهقي.
وقال المفسر أبو عبد الله القرطبي ما نصه [18]: “الخامسة: قال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يُرِد معلّقها بتعليقها مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شئ من العين، وعلى هذا القول جماعة أهل العلم لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني ءادم شئ من العلائق خوف نزول العين، وكل ما يعلّق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبُرء من الله تعالى فهو كالرُّقى المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها. وقد روى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا فزِعَ أحدكم في نومه فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين وأن يحضرون”، وكان عبد الله يعلّمها ولده من أدرك منهم، ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه. فإن قيل: فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من علق شيئًا وُكِل إليه”، ورأى ابن مسعود على أمّ ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذًا شديدًا فقطعها وقال: “إن ءال ابن مسعود لأغنياءُ عن الشرك”، ثم قال: “إن التمائم والرقى والتولة من الشرك”، قيل: ما التولة؟ قال: ما تحببت به لزوجها، وروى عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له قلبًا”. قال الخليل بن أحمد: التميمة قلادة فيها عُوذ، والودعة خرز، وقال أبو عمر: التميمة في كلام العرب القلادة، ومعناه عند أهل العلم ما علق في الأعناق من القلائد خشية العين أو غيرها أن تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل فلا أتمّ الله عليه صحته وعافيته، ومن تعلّق ودعة –وهي مثلها في المعنى- فلا ودَع الله له أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العافية، والله أعلم.
وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد ويظنون أنها تقييهم وتصرف عنهم البلاء، وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل، وهو المعافي والمبتلي لا شريك له، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم، وعن عائشة قالت: ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم، وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده، والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى.
وما روي عن ابن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرءان أشياء مأخوذة عن العرافيين والكُهّان، إذ الاستشفاء بالقرءان معلّقًا وغير معلق لا يكون شركًا، وقوله عليه السلام: “من علّق شيئًا وُكِل إليه” فمن علّق القرءان ينبغي أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره، لأنه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرءان. وسئل ابن المسيّب عن التعويذ أيعلّق؟ قال: إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به، وهذا على أن المكتوب قرءان. وعن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسًا أن يعلق الرجل الشئ من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند الغائط، ورخص أبو جعفر محمد بن عليّ في التعويذ يعلق على الصبيان، وكان ابن سيرين لا يرى بأسًا بالشئ من القرءان يعلّقه الإنسان” اهـ.
وقال ابن الأثير ما نصه [19]: “والحديث الآخر: “من علق تميمة فلا أتم الله به” كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمام الدواء والشفاء، وإنما جعلها شركًا لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، فطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه” اهـ.
وقال المناوي في شرح هذا الحديث ما نصه [20]: “[من تعلق شيئًا] أي تمسك بشئ من المداواة واعتقد أنه فاعل للشفاء أو دافع للداء [وكل إليه] أي وكل الله شفاءه إلى ذلك الشئ فلا يحصل شفاؤه، أو المراد من علق تميمة من تمائم الجاهلية يظن أنها تدفع أو تنفع فإن ذلك حرام والحرام لا دواء فيه، وكذا لو جهل معناها وإن تجرد عن الاعتقاد المذكور فإن من علق شيئًا من أسماء الله الصريحة فهو جائز بل مطلوب محبوب فإن من وكل إلى أسماء الله أخذ الله بيده، وأما قول ابن العربي: “السنة في الأسماء والقرءان الذكر دون التعليق” فممنوع، أو المراد من تعلقت نفسه بمخلوق غير الله وكله الله إليه فمن أنزل حوائجه بالله والتجأ إليه وفوض أمره كله إليه كفاه كل مؤنة وقرّب عليه كل بعيد ويسرّ له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى عمله وعقله واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله وحرمه توفيقه وأهمله فلم تصحح مطالبه ولم تتيسر مآربه وهذا معروف على القطع من نصوص الشريعة وأنواع التجارب” اهـ.
وقال البغوي ما نصه [21]: “وقال عطاء: لا يعد من التمائم ما يكتب من القرءان، وسئل سعيد بن المسيب عن الصحف الصغار يكتب فيه القرءان فيعلق على النساء والصبيان فقال: لا بأس بذلك إذا جُعل في كير من ورق أو حديد أو يخرز عليه” اهـ.
وفي كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني [22] ما نصه: “أخبرنا أبو بكر، قال حدثنا أبو داود، قال: رأيت على ابن لأحمد وهو صغير تميمة [23] في رقبته من أديم. أخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا أبو داود، سمعت أحمد سئل عن الرجل يكتب القرءان في شئ ثم يغسله ويشربه؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: يكتبه في شئ ثم يغسله ويشربه؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: يكتبه في شئ ثم يغسله فيغتسل به؟ قال: لم أسمع فيه بشئ” اهـ.
وفي كتاب معرفة العلل وأحكام الرجال [24] عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: “حدثني أبي، قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: أخبرني إسماعيل بن أبي خالد، عن فراس، عن الشعبي قال: لا بأس بالتعويذ من القرءان يعلق على الإنسان” اهـ.
وقال عبد الله بن أحمد [25]: “رأيت أبي يكتب التعاويذ للذي يصرع وللحمى لأهله وقراباته، ويكتب للمرأة إذا عسر عليها الولادة في جام أو شئ نظيف، ويكتب حديث ابن عباس، إلا أنه كان يفعل ذلك عند وقوع البلاء، ولم أره يفعل هذا قبل وقوع البلاء، ورأيته يعوّذ في الماء ويُشربه المريض، ويصب على رأسه منه، ورأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبّلها، وأحسب أني قد رأيته يضعها على رأسه أو عينه، فغمسها في الماء ثم شربه يستشفي به، ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها إليه أبو يعقوب بن سليمان بن جعفر فغسلها في جب الماء ثم شرب فيها، ورأيته غير مرة يشرب من ماء زمزم يستشفي به ويمسح به يديه ووجهه” اهـ.
وفي مصنف ابن أبي شيبة ما نصه [26]: “حدثنا أبو بكر قال: حدثنا علي بن مسهر، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فيكتب هاتين الآيتين والكلمات في صحفة ثم تغسل فتسقى منها “بسم الله لا إله إلا هو الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، {كأنَّهم يومَ يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضُحاها} [سورة النازعات/46]، {كأنَّهُم يومَ يرونَ ما يُوعدونَ لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغٌ فهل يُهلَكُ إلا القومُ الفاسِقون} [سورة الأحقاف]” اهـ.
قال الحافظ ابن المنذر في الأوسط [27]: “ورخص بعض من كان في عصرنا للجنب والحائض في مس المصحف ولبس التعويذ ومس الدراهم والدنانير التي فيها ذكر الله تعالى على غير طهارة، وقال معنى قوله: {لا يمسُّهُ إلا المُطَهَّرون} [سورة الواقعة/79] الملائكة، كذلك قال أنس وابن جبير ومجاهد والضحاك وأبو العالية، وقال: وقوله: {لا يمسه إلا المطهرون} خبر بضم السين ولو كان نهيًا لقال لا يمسه، واحتج بحديث أبي هريرة وحذيفة عن النبي عليه السلام أنه قال: “المؤمن لا ينجس” والأكثر من أهل العلم على القول الأول، وقد روينا عن ابن جبير أنه بال ثم توضأ وضوءه إلا رجليه ثم أخذ المصحف. وروي عن الحسن وقتادة أنهما كانا لا يريان بأسًا أن يمس الدراهم على غير وضوء يقولان جبلوا على ذلك. واحتجت هذه الفرقة بقول النبي عليه السلام لعائشة: أعطيني الخمرة”، قالت: إني حائض، قال: “إن حيضتك ليست في يدك”، وبقول عائشة: كنت أغسل رأس النبي عليه السلام وأنا حائض، قال: وفي هذا دليل على أن الحائض لا تنجس ما تمس إذ ليس جميع بدنها بنجس، ولما ثبت أن بدنها غير نجس إلا الفرج ثبت أن النجس في الفرج لكون الدم فيه، وسائر البدن طاهر” اهـ.
وفي كتاب الآداب الشرعية [28] لشمس الدين بن مفلح الحنبلي ما نصه: “قال المروزي: شكت امرأة إلى أبي عبد الله أنها مستوحشة في بيت وحدها فكتب لها رقعة بخطه بسم الله وفاتحة الكتاب والمعوذتين وءاية الكرسي وقال كتب إليّ أبو عبد الله من الحمى: بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله ومحمد رسول الله {يا نارُ كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} [سورة الأنبياء/69] اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشفِ صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك إله الحق ءامين، وقال: وقال صالح ربما اعتللت فيأخذ أبي قدحًا فيه ماء فيقرأ عليه ويقول لي اشرب منه واغسل وجهك ويديك. ونقل عبد الله أنه رأى أباه يعوذ في الماء ويقرأ عليه ويشربه ويصبّ على نفسه منه، قال عبد الله ورأيته غير مرة يشرب ماء زمزم فيستشفي به ويمسح به يديه ووجهه وقال يوسف بن موسى: إن أبا عبد الله كان يؤتى بالكوز ونحن بالمسجد فيقرأ عليه ويعوذ. قال أحمد يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولدها في جام أبيض أو شئ نظيف بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين {كأنهم يومَ يرونَ ما يُوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغ} [سورة الأحقاف/35] {كأنهم يومَ يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضُحاها} [سورة النازعات/46] ثم تسقى منه وينضح ما بقي على صدرها، وروى أحمد هذا الكلام عن ابن عباس ورفعه ابن السني في عمل يوم وليلة” اهـ.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه تحت باب “من رخص في تعليق التعاويذ” [29] أن سعيد بن المسيب سئل عن التعويذ فقال: لا بأس إذا كان في أديم.
وروى [30] عن عطاء في الحائض يكون عليها التعويذ قال: إن كان في أديم فلتنزعه، وإن كان في قصبة فضة فإن شاءت وضعته وإن شاءت لم تضعه، وعن ثوير قال: كان مجاهد يكتب للناس التعويذ فيعلقه عليهم، وعن جعفر عن أبيه أنه كان لا يرى بأسًا أن يكتب القرءان في أديم ثم يعلقه، وعن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسًا بالشئ من القرءان، وعن أيوب أنه رأى في عضد عبيد الله بن عبد الله بن عمر خيطًا، وعن عطاء قال: لا بأس أن يعلق القرءان، وعن يونس بن خباب قال: سألت أبا جعفر عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخّص فيه، وعن الضحاك لم يكن يرى بأسًا أن يعلق الرجل الشئ من كتاب الله إذا وضعه عند الغسل وعند الغائط.
فبعد هذا كله لا يرده ما احتج به القرضاوي والوهابية من أن عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي رضي الله عنهما كانا يكرهان التمائم كلها بعد أن ثبت فعلها عن بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم واستحسانهم لها.
ومن وحشية الوهابية أنهم يصولون ويضربون من رأوه يلبس حرزًا، حتى إن غلامًا في بيروت كاد بعض الوهابية أن يخنقه من أجل هذا، وهذا يدل على جهلهم وعنادهم ومخالفتهم للصحابة والسلف الصالح مع ادعائهم زورًا بأنهم سلفية، فنسأل الله الثبات على الحق إنه على كل شئ قدير.
وما ردُّنا هذا إلا من باب بيان الصواب والنصيحة للمسلمين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
الهوامش:
[1] راجع الكتاب [ص/148].
[2] راجع الكتاب [ص/149].
[3] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الطب: باب في تعليق التمائم، وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب تعليق التمائم، وأحمد في مسنده [1/381]، والبيهقي في السنن الكبرى [9/350]، والطبراني في المعجم الكبير [10/262]، والحاكم في المستدرك [4/418]، وابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [7/630].
[4] الصحاح [5/1878].
[5] لسان العرب [12/70].
[6] تهذيب اللغة [14/260].
[7] النهاية في غريب الحديث [1/197].
[8] شرح السنة [12/158].
[9] فتح الباري [10/196].
[10] فيض القدير [2/342-343].
[11] الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني [17/186-187].
[12] نتائج الأفكار [ص/103-104]، مخطوط.
[13] عمل اليوم والليلة [ص/273].
[14] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات: باب 94.
[15] السنن الكبرى [9/350-351]، والحاكم في المستدرك [4/216]، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [7/629]، وأحمد في مسنده [4/154].
[16] شرح السنة [12/158].
[17] وأخرجه بنحوه الترمذي في سننه: كتاب الطب: باب ما جاء في كراهية التعليق، وأحمد في مسنده [4/311]، والحاكم في المستدرك [4/216].
[18] الجامع لأحكام القرءان [10/319-320].
[19] النهاية في غريب الحديث [1/198].
[20] فيض القدير [6/107].
[21] شرح السنة [12/158].
[22] مسائل الإمام أحمد [ص/260].
[23] أي حرزًا ولا يعني التميمة التي هي خرزات التي ثبت النهي عنها بقوله عليه السلام: “إن الرقى والتمائم والتولة شرك”. فلا تغفل أيها الناظر.
[24] معرفة العلل وأحكام الرجال [ص/278-279].
[25] كتاب مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله [ص/447].
[26] مصنف ابن أبي شيبة [5/39-40].
[27] كتاب الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف [1/103-104].
[28] الآداب الشرعية [2/476]، وشمس الدين بن مفلح كان أعرف الناس بمسائل ابن تيمية التي انفرد بها، توفي سنة 763هـ.
[29] مصنف ابن أبي شيبة [5/43].
[30] مصنف ابن أبي شيبة [5/44].