الدرس الثامن والثلاثون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى وهو في بيان تنزه الله عن الحدود والمكان. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد النبيّ وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين.
وبعد المحدود عند علماء التوحيد ما كان له حدّ والحدّ هو الحجم، فالعرش له حدٌّ والذرة لها حدّ والسموات والأرض لها حدّ والظلمات والنور والريح كلٌّ له حدٌّ. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى يعني الله عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات وقال: «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر».
وقال الإمام عليّ رضي الله عنه من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود([i]). قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء}([ii]) وقال الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه صونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسُّنَّة فإن ذلك من أصول الكفر. وقال غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده تعالى بلا كيف ولا مكان.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}([iii]) هذه الآية الشريفة مع خِفَّةِ ألفاظها جمعت معانِيَ عظيمةً، الله تعالى هو الذي أوجدَ السموات والأرض وخلَقَ النور والظلام أفهمنا أنه خالقُ كلّ جسم كثيفٍ وكلّ جسم لطيفٍ لأنه ذكر السموات والأرض وهما جسمان كثيفان كذلك الشمس والقمر كذلك الإنسان جسمٌ كثيفٌ والبهائم وذكر – الجسم – اللطيف النور والظلام أفهمنا أنه خالق كل شيء من أنواع العالم الكثيف واللطيف ومعنى هذا أن الله لا يُشبهُ العالم كلَّهُ لا يُشبهُ الجسم الكثيف كالأرض والشمس والقمر واللطيف كالنور والظلام والريح والروح فمن اعتقد أن الله جسم كثيف كالشمس والقمر أو الإنسان أو العرش أو اعتقد أن الله جسم لطيف كالنور والريح والروح فقد جعلَهُ مِثلَ خَلْقِهِ. كلُّ جسم مخلوقٌ إن كان كثيفًا وإن كان لطيفًا والخالقُ لا يجوزُ أن يُشبه مخلوقَهُ فهو ليس كشيء من خلْقِهِ، والعرش جسمٌ كثيفٌ مِثل الأرض والسمٰوات لذلك يحملُهُ أربعةٌ من الملائكة في الدنيا وثمانية يوم القيامة، هو سرير بشكل مربع، العرشُ الله خلَقَهُ وحفظَهُ في ذلك المكان بقدرته ولولا أنّ الله أمسكَهُ بقدرته وحفظه في ذلك الـمَركَز ما ثبت لحظة كان هوى أي وقع ولما كان الجسم الكثيف والجسم اللطيف يأخذ قدْرًا من الفراغ الإنسان والبهائم والشمس والقمر حتى هذا الذي يُقال له الهباء وحبة الخردل وما كان أصغرَ من ذلك وما كان أكبَر من ذلك كل يأخذ مقدارًا من الفراغ، ولَما قد ثبت أن الله لا يشبه المخلوقات بأي وجه من الوجوه تبيّن أن الله ليس جسمًا لطيفًا وليس جسمًا كثيفًا لا يأخذ حيّزًا من الفراغ لذلك نقول الله موجود بلا مكان ليس متحيّزًا في جهة ولا في كل الجهات بل هو موجود بلا مكان لأن الذي يأخذ مقدارًا من الفراغ هو الجسم. نورُ الشمس له مقدار من الفراغ ونور الكهرباء له مقدار من الفراغ أصغرُ من ذلك ونور الشمعة أصغر من ذلك وبعض الحشرات بين الحشيش تُرى تلمع الله جعل لها مقدارًا، الريح لها حيّز تأخذه، الريح يُرسلها الله تعالى بمقدار، الريح يُرسلها الملائكة بقدْرِ يعرفونه الريح لها صفات كذلك الإنسان له صفات وكل الأجرام لها صفات الله تعالى لا يُشبهُ الأجرام ولا يتصف بصفات الأجرام. من صفات الأجرام الحركة والسكون، بعض الأجرام تتحرك دائمًا حتى التي لا تظهر حركتها للناظرين لكن من شدة بُعدها تظنها لا تتحرك وهي تتحرك وبعض الأجرام هي ساكنة في مركَزها منذ خلقها الله كالسمٰوات ساكنة في مركزها والإنسان ساكن مرة ومتحرك مرة والبهائم والملائكة والجن والطيور كذلك، والله ليس كذلك ليس متحركًا ولا ساكنًا.
ثم إن الأجسام الكثائف واللطائف الله جعل قسمًا منها في جهة العلوّ كالعرش واللوح المحفوظ والملائكة الذين حول العرش جعلهم في جهة فوق خصصهم في التحيّز بجهة فوق وخصص البشر والبهائم والحشرات بالتحيّز في جهة تحت فهو ليس متحيّزًا في جهة فوق ولا تحت إذ لو كان متحيّزًا في جهة فوق لكان مثل الملائكة والعرش واللوح المحفوظ ولو كان متحيّزًا في جهة تحت لكان مثل الإنسان والبهائم والحشرات، فالله الذي خصص بعض الأجسام بجهة فوق وبعضها بجهة تحت لا يجوز أن يُتصور في جهة تحت ولا بين سماءَينِ من السمٰوات السَبْعِ، كلُّ هذا من صفات الخلْق لا يجوز على الله إنما هو موجود لا كالموجودات كما قال الأئمة أئمة الهدى مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك. قاله ثوبان بن إبراهيم تلميذ الإمام مالك.
يُروَى عن أُمّ سلَمَة إحدى أزواج الرّسول ويُروى عن سفيانَ بنِ عُيَينَة ويُروَى عن مالكِ بنِ أنَس أنّه فَسّرَ استواءَ اللهِ على عَرشِه بقوله: الاستواءُ معلُومٌ ولا يُقال كيفَ والكيفُ غيرُ معقُول، الاستواءُ معلومٌ معناهُ: الاستواءُ معلومٌ ورُودُه في القرءانِ نؤمن بأن الله مُسْتَو على عرشه استواءً يَليق به، والكيفُ غيرُ معقْول أمّا الكيفيّةُ الشّكلُ الهيئةُ الجُلوس والاستقرارُ هذا غيرُ مَعقُول لا يَقبَلُه العَقل.
والله تعالى أعلم. انتهى.
([i]) رواه أبو نعيم في الحلية.