بيان تحريم الإعانة على المعصية
اعلم أن الله تعالى واجب طاعته فيما أمر به ونهى عنه، ومن ذلك قوله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {2} [سورة المائدة]، والإثم هو المعصية الصغيرة والكبيرة، فالآية دليل لتحريم معاونة شخص لشخص في معصية الله كائنة ما كانت، سواء أعان مسلمًا أو كافرًا. فيحرم على الشخص بيع الشىء الحلال الطاهر على من يعلم أنه يريد أن يعصي به كالعنب لمن يريده للخمر لأن في ذلك إعانة له على فعل المحرم، روى الترمذي واللفظ له، وأبو داود وابن ماجه وأحمد والحاكم وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة: “عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وءاكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له”، وأصرح منه في التحريم قوله عليه الصلاة والسلام: “من حَبَسَ العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرًا فقد تقحَّم النار على بصيرة”.
قال الحافظ ابن حجر: “رواه الطبراني في “الأوسط” بإسناد حسن”، ورواه البيهقي بلفظ: “من حبس العنب زمن القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا فقد تقدم النار على بصيرة”.
قال ابن رشد المالكي: “قال أصبغ: “لا يبيع الرجل عنبه لمن يعصره خمرًا، لا يحل ذلك ولا المعاونة عليه” اهــ
وقال الحافظ الفقيه اللغوي محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء ممزوجًا بالمتن ما نصه: “(فهو كبيع العنب ممن يعلم) ويتحقق منه (أنه يتخذ منه الخمر وذلك محظور) شرعًا (و) فيه (إعانة على الشر) وترخيص لطرقه (ومشاركة فيه) فهو شريك للعاصر في الوزر، وكل معين لمبتدع أو عاص فهو شريكه في بدعته ومعصيته” اهــ
وقال في موضع ءاخر: (إن علم أنهم يعصون الله به فذلك حرام) وبيعه منهم إعانة على المعصية والإعانة عليها معصية (كبيع العنب من الخمار) الذي يعصره خمرًا، وهذا لا خلاف فيه (وإنما الخلاف في الصحة) هل يصح هذا البيع أو يبطل أو يفسد” اهــ
وقال الشيخ ظفر أحمد التهانوي في “إعلاء السنن”: “فما في بعض الروايات عنه – أي عن أبي حنيفة – من الجواز محمول على صحة البيع قضاء، وكذا ما روي عنه أنه لا بأس بإجارة الدار ممن يتخذها كنيسة أو بيعة، معناه صحتها قضاء وإن الأجرة تحل للمؤجر ولا نزاع في كراهتها ديانة، فافهم. فإن القول بجوازها مطلقًا مخالف لحديث بريدة المذكور في المتن، فلا بد من القول بكراهة أمثال هذه العقود ديانة، والذي أدين الله به أن أبا حنيفة الإمام لم ينف الكراهة ديانة قط، وإنما قال بصحة العقد قضاء فقط” ا-، ومراده بالكراهة أي أنه حرام.
ومما يحرم الإعانة عليه أن يعين شخصًا على الكفر فالأبوان الكافران لا يجوز لابنهما أن يعينهما على الكفر، فإن حملهما إلى الكنيسة فإن ذلك معاونة لهما على الكفر، وكذلك لا يجوز حمل الزوج المسلم للزوجة النصرانية إلى الكنيسة لتؤدي شعائرهم فإن ذلك معاونة لها على الكفر، وقد قال الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرها: إن المساعدة على الكفر لأيّ شخصٍ كان كفرٌ، فمن استحل ذلك فقد كفر لأن تحليل ذلك مصادم لشريعة الله وتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: إن الكفار غير مكلفين بالفروع.
فيقال له: “قال صاحب “جمع الجوامع”: “وهي مفروضة في تكليف الكافر بالفروع، والصحيح وقوعه خلافًا لأبي حامد الإسفراييني وأكثر الحنفية مطلقًا، ولقوم في الأوامر فقط والآخرين فيما عدا المرتد” ا-ه، قال الشارح الفقيه الأصولي الزركشي: “ذهب الأئمة الثلاثة إلى أنهم مخاطبون بها مطلقًا في الأوامر والنواهي وخالف الحنفيّة وساعدهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني منا وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في أصوله قولا للشافعي، والثالث أن النواهي متعلقة بهم دون الأوامر لإمكان الانتهاء مع الكفر بخلاف المأمور فإن شرطه القربة ونقله صاحب “اللباب” من الحنفيّة عن أصحابهم، وأغرب الشيخ صدر الدين بن الوكيل في كتاب “النظائر” فحكى عن بعض الأصحاب عكس هذه المذاهب وتابعه العلائي في القواعد وهذا لا يعرف بل قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه في الأصول وصاحبه البندنيجي في باب قسم الصدقات من تعليقه إن الخلاف في تكليفهم بالأوامر وأما المعاصي فمنهيون عنها بلا خلاف بين المسلمين”، انتهت عبارة الزركشي في كتابه “تشنيف المسامع”.
فانظر إلى قوله: “وأما المعاصي فينهون عنها بلا خلاف بين المسلمين” فهذا نقل يُفهمنا على أن الإجماع على ذلك وما عزي إلى “العتبية” عن مالك مما يخالف هذا فهو ليس معتبرًا، والأمر كما قال القائل:
وليس كلّ خلاف جاء معتبرًا
إلا خلاف له حظ من النّظر
فقد نقل عن بعض مجتهدي السلف إباحة وطء الجارية بطريق القرض وكذلك نقل عن بعض غيره إباحة الأكل في رمضان إلى طلوع الشمس، فهذا الذي نقل عن مالك أن الكفار ليسوا مخاطبين بالنهي عن المعاصي مثل ذلك فهو كالعدم ومن يتعلق به في إثبات مدعاه فهو كالغريق الذي يتعلق بالغثاء، فمن استحل مساعدة المسلم للكافر في وصوله إلى الكنيسة ليؤدي كفره فقد كذب الله ورسوله فهو الكافر، وأما النقل عن “العتبيّة” فلا عبرة به عند أهل المذهب فإن الصحيح عند الأئمة الثلاثة أن الكفار مخاطبون في أمور الشريعة في الأمر والنهي، وهذا الذي عزاه ابن الحاجب في أصوله إلى المحققين، كذلك شهاب الدين القرافي وأبو القاسم المالكي المعروف بابن الشاط وكذلك السيد علي بن محمد المالكي المكي وهؤلاء الثلاثة مالكيون كلٌّ صرح بأن الصحيح في المذهب المالكي أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة مطلقًا أي في الأوامر والنواهي وكذلك صرح بذلك ابن التلمساني المالكي في كتابه في الأصول.
وأما المسألة المعروفة عند المالكية بأن الرجل المسلم لا يمنع زوجته الذمية الكافرة من الذهاب إلى الكنيسة فهي مسألة غير مسألة دعوى جواز مساعدتها على نحو حملها في السيارة إلى الكنيسة لغرض عمل دينها من عبادتها الفاسدة التي هي إشراك بالله تعالى فالقائل بجواز هذا هو الكافر الذي لا خلاف في كفره على أن المقرر في المذاهب الثلاثة أن الزوج يمنع زوجته الذمية.
هذا كلامهم في الذمية أما غير الذمية فإن المالكية لا يقولون بترك منعها من الذهاب إلى الكنيسة فمن يزعم أن ءاية وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {2} حكمها مقصور على المسلمين فمعنى كلامه أنه يجوز إعانة الكافر على كل معصية على الزنا وشرب الخمر والسرقة إلى غير ذلك وكفى هذا الرأي الذي يؤدي إلى هذا خزيًا وضلالا، ويكفي للمناقشة لمن يجوّز نقل الكافر ليؤدي عمل الكفر أن يحصر على مضمون هذه الآية بأن يقال له: تعترف بأن ذهابها إلى الكنيسة لأمور دينها معصية أم لا؟ فإن قال: ليس معصية فقد كفر بذلك، وإن قال إنه معصية فقد أقرَّ على نفسه بأنه على خلاف الصواب، ويقال له: ليس بعد بيان الله تعالى بيان، القرءان كفانا المؤنة.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في أكبر كتبه كتاب “الأم” ما نصه: “وله – أي الزوج المسلم – منعها – أي زوجته الكافرة الذمية – من الكنيسة والخروج إلى الأعياد وغير ذلك مما تريد الخروج إليه، إذا كان له منع المسلمة إتيان المسجد وهو حق كان له في النصرانية منع إتيان الكنيسة لأنه باطل” اهــ
وقال ابن قدامة الحنبلي في “المغني” ما نصه: “فصل: قال أحمد في الرجل له المرأة النصرانية: لا يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعة وله أن يمنعها ذلك” اهــ
وفي كتاب “الفتاوى الهندية” في الفقه الحنفي ما نصه: “ثم إذا تزوج المسلم الكتابية فله منعها من الخروج إلى البيعة والكنيسة كذا في السراج الوهاج” اهــ
فقد بان من مجموع الأدلة المذكورة للمنصف في هذه المسألة من تحريم مساعدة الزوجة الكافرة على الذهاب إلى كنيستها لمعصية الله أن ذلك قطعي التحريم وإنكار ذلك تكذيب لله ورسوله، فإذا كان هذا الوعيد الشديد في حديث بيع العنب لمن يتخذه خمرًا لأن فيه إعانة على معصية فما بالك فيمن يعين على الكفر.
وأما مسألة التكفير بإعانة شخص على معصية فهي مسألة مستقلة وإن كانت تلتقي مع هذه المسألة في بعض صورها وتحصيل القول فيها إن إعانة الشخص على عمل الكفر كفر كما قال الإمام أبو الحسن الأشعري في المسلم الذي بنى كنيسة: “إن إرادة الكفر كفر” فمن قصد بإيصال هذه الكافرة إلى كنيستها أن تؤدي شعارها الكفري كالتصليب أمام المذبح إذا حاذته فقد كفر وكذلك إذا فعلت ما بعد ذلك من شعار الكفر وعبادتهم وصلاتهم، وأما من لم يخطر له ذلك إلا مجرد المساعدة على بناء الكنيسة أو حمل المرأة الكافرة إلى الكنيسة فلا يكفَّر لكن المعصية حاصلة قطعًا.