الأحد ديسمبر 7, 2025

الدرس الحادي عشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ

بيان بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى وهو في بيان بعض معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه.

قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه الأنبياء.

أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى أكرم أنبياءه بالمعجزات وهي الأمور الخارقة للعادة الموافقة لدعوى النبوة التي لا يستطيع المعارضون المكذبون أن يأتوا بمثلها، في هذا المعنى فارقت المعجزة السحر لأنّ السحر يُعارَضُ بالمثل أما المعجزة فلا يستطيع المعارضون أن يأتوا بالمثل وكان ذلك شهادة من الله تبارك وتعالى لصدق هؤلاء الأنبياء في ما جاؤوا به من الإخبار بالمغيبات التي ستحدث في الآخرة لأنهم أخبروا أنه يكون في القبر عذاب وأنه يكون في الآخرة حساب وثواب وعقاب وأنَّ فعل كذا حرام أي يبغضه الله تعالى ويعاقُب عليه في الآخرة وأن فعل كذا قُرْبَةٌ إلى الله وهم صادقون في كل ذلك فكانت المعجزات شاهدة لهم على ذلك لأنهم بشر مثلنا وقد أتَوا بهذه الخوارق التي لا يستطيع المكذبون أن يأتوا بمثلها فتعين ووجب وثبت صدقهم.

وكان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أكثَرَهُم معجزاتٍ وأقواهم لأن من معجزاته إحياءَ الجماد وإنطاقَه، هذا من جملة معجزات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معجزاتُهُ أكبر وأكثر من معجزات غيره كإحياء الموتى الذي حصل لعيسى لأن هؤلاء الموتى كانوا قبل أن يموتوا أحياءَ ثم عادوا إلى ما كانوا عليه أمَّا الجمادُ فإنه لم يسبق له أنه كان يتكلم لم يسبق له حياةٌ وقد حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في أكثر من حادثة، من ذلك حنينُ الجذع أي النخل أي أصلِ شجرةِ النخلِ المقطوعةِ اليابسةِ كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في قبلة المسجد يستند إليها حين يخطب للجمعة ثم عُمل له منبر فوقف على المنبر فبدأ يخطب فحَنَّ ذلك الجذع الذي كان يستند إليه عند الخطبة بشدّةٍ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنزل إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أثناء خطبته فالتزمه أي ضمّه إليه حتى سكن وسكت، هذه خارقة عظيمة لأنه إنطاق للجماد.

وشبيهُ هذا أنه صلى الله عليه وسلم أتى إلى العباس عمه فقال له لا تَرُمْ أنت ولا أولادك أي أثبتوا في البيت ثم جاء إليهم الرسول ووضع عليهم أيْ على الجميع ثوبًا ودعا لهم فأمّنت أُسُكُفَّة الباب وجدران البيت بصوت مسموع قالوا ءامين ءامين ءامين، هذا أعجبُ من إحياء الميت الذي حصل لعيسى ابن مريم لأنّ هذا إنطاق الجماد فهو أعجب من عَوْدِ شخص ميت إلى حالته التي كان عليها من النطق والكلام.

ثم كان من معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه أُسْرِيَ به من مكة إلى المسجد الأقصى في جزء من ليلة ثم عُرج به عقب ذلك إلى السموات العُلَى إلى حيث شاء الله أُسْرِيَ به وعُرج بجسده وروحه يقظة لا بروحه فقط ولا بالمنام هذا القول الصحيح الذي ثبت في الحديث الذي رواه أنسُ بن مالك رضي الله عنه، ليس فيه ذكر أنه كان نائمًا، وكان ذلك في شهر رجب قبل الهجرة بخمس سنوات ففُرضت عليه الصلوات الخمس في تلك الليلة في المقام الذي سمع فيه كلامَ الله المنزَّهَ عن الشكل والهيئة والشبه لكلام المخلوقين سمع كلامه الأزلي الأبدِيّ الذاتِيّ الذي ليس بحرف ولا صوت لأن الله تبارك وتعالى لا يجوز عليه أن يتكلم كما يتكلم الواحد منا بلغة معينة أو أن يكون متكلمًا بجميع اللغات كما يتكلم العباد هذا لا يجوز عليه لأنه لو كان يتكلم بلغة أو بجميع اللغات كما يتكلم العباد بها لكان مثل العباد ولو كان مثل العباد لم يكن إلهًا لم يكن منفردًا بالألوهية بل لجاز أن يشاركه في الألوهية غيره وذلك مستحيلٌ لأن غير الله سبحانه وتعالى قم به دلائل الحدوث أيْ كلُّ ما سوى الله دلَّ الدليلُ العقليُّ على أنه لم يكن موجودًا ثم كان موجودًا.

ثم رأى ذاتَ الله تبارك وتعالى في وقتٍ غير وقتِ سماعِ الكلام رءاه بفؤاده لا بعينه. وفي حديثٍ صحيح الإسناد عن عائشة رَضِيَ الله عنها أنه قيل لها إن محمدًا رأى ربه فقالت من قال إن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية أيْ كَذَبَ كذبًا كبيرًا ثم قال لها الشخص يحاورها ألم يقل الله تعالى: {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزلَةً أُخْرَىٰ}([i]) فقالت أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال إنما هو جبريل. اهـ. ورَوَى أبو ذَرّ الغِفاريُّ رضيَ الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال حين سأله هل رأيت ربك، رأيته بفؤادي ولم أرهُ بعينِي. اهـ. وكان وقتُ رؤية النبيّ لربه غيرَ وقت سماع كلامه لأنه لا يحصل في الدنيا لأحد من البشر رؤية الله وسماع كلامه في ءانٍ واحدٍ وذلكَ مأخوذٌ من قولِ الله تبارك وتعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}([ii]) فمعنى أو من وراءِ حجاب أيْ من غير رؤيةٍ، تكليمٌ من غير رؤية، يصح للبشر، حصلت لموسى سمع كلام الله وهو في جبل الطور في الأرض أما محمد فقد سمع كلامه في ذلك المستوى الذي كان يسمع به صريف الأقلام فوق السموات السبع حيث شاء الله تعالى وموسى صلى الله عليه وسلم اخْتَصَّ بتسميته كليم الله لأنه لم يسمع كلام الله الذاتِيّ أحد في الأرض إلا هو فلذلك خصَّ بالشهرة بكليم الله لا لأن أحدًا سواه لم يسمع كلام الله الذاتِيَّ فموسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم سِيَّان في انهما سمعا كلام الله الذاتي لكن موسى سمعه وهو في هذه الأرض التي خُلق فيها فسمى كليم الله أما محمد فقد سمع في غير هذه الأرض وهو ذلك المستقرُّ الذي وصل إليه بعد أن جاوز سدرة المنتهى.

الله تبارك وتعالى لا يجوز اعتقاد الحركة والتنقل في حقه، هو مُنَزَّهٌ عن الحركة والسكون والتنقل فلا يجوز اعتقاد أن الله تعالى دنا فتدلى إلى محمد بذاته بمعنى الحركة والنزول الحسيّ فهذا مستحيل على الله بل معنى قول الله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ}([iii]) أن جبريل دنا من محمد فتدلى عليه فكان ما بينهما من القرب قاب قوسين أي قدر ذراعين العرب تسمى الذراع قوسًا لأنه يقاس به. ومعنى {أَوْ أَدْنَىٰ} بل أقربُ من قاب قوسين، {أَوْ} بمعنى بل، ومن اعتقد أن هذا الدنو من الله أن الدنو والتَّدلّى من الله إلى محمد من دون أن يعتقد أن هذا الدنو والتَّدلّى حِسّيّان أي بالمسافة والحركة فليس عليه ضررٌ في اعتقاده وهذا يُروى عن جعفر الصادق رَضِيَ اللهُ عنهُ لكن ما ثبتَ عنه ويُرْوَى عن غيره أيْ أن هذا الدنو والتَّدلّى من الله إلى محمد بالمعنى لا بالحس الدُّنُوُّ المعنوي والتَّدلّى المعنوي ليس فيه ما يضرُّ الاعتقاد إذا قيل إنّ الله دنا من محمد تَدلّى إليه ليس بطريق الحسّ والحركة والمسافة بل بالمعنى أيْ زاده إكرامًا ورِفعة وشرفًا بهذا المعنى جائزٌ لكن الضلال والكفر هو أن يعتقد أنّ الله تعالى حرك من المكان الذِي كان فيه حتى نزل إلى محمد فاقترب منه حِسًّا وَمَسَافَةً حتى كان ما بينهما كالحاجب من الحاجب، في دمشق كانوا يذكرون هذا، بعض الجهلة الذين لا يفهمون العقيدة يقولون دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى أي اقترب من حيث المسافة حتى صار ما بينهما كهذا الحاجب من هذا الحاجب وهذا ضلال مبين.

وسبحان الله والحمد لله رب العالمين لا إله إلا أنت.

([i]) سورة النجم، الآية: (13).

([ii]) سورة الشورى، الآية: (51).

([iii]) سورة النجم، الآية: (8، 9).