درس ألقاه المحدث الأصولي الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي بيروت فِي الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق للثالث من شهر ءاذار سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وألف رومية وهو فِي بيان بعض أحوال ما بعد الموت من النعيم والعذاب. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين وصلاةُ الله البَرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من النبيِّينَ والمرسلين وسلامُ الله عليهم أجمعين.
أمَّا بعدُ: فإن الله تبارك وتعالى أرسَلَ الرّسُلَ رحمةً بعباده، وفرض عليهم طاعَتَهُم، فكلُّ رسول فِي زمانِه يجبُ التقيُّدُ بشرعِه، وأوّلُ الرسُل ءادمُ u، ءادمُ أوّلُ الأنبياء، ءادم كان الله تبارك وتعالى عَلَّمَهُ اللغات من دون دراسة وعلّمَه أصُولَ المعيشة، أنزلَ لَهُ من الجنّة القَمحَ وأنزَل له أشياءَ أُخرى وعَلَّمَهُ الله تعالى كيف يُستخرَجُ الذّهَب من مَعْدِنِه وكيفَ تُستَخرج الفِضَّةُ مِن مَعدِنِها وكيف يتَّخَذُ منهما عملة، اللهُ علَّمَهُ ثم هو عَمِلَ للنّاس عُملَةً من الذهب وعملة من الفضة وعَلَّمَهُ كيف يزرَعُ القمح وغيره مما أنزل له من الجنة لكن هذه الأشياء التي خرَجَت من الجنّة تغيرت إنّما الاسمُ بَقِيَ لكن الصفة تغيّرت لو بَقِيَ القمحُ وغيره ممّا أنزلَه الله من الجنّة لآدم كان اللونُ غيرَ هذا والطعمُ غيرَ هذا، أفضلَ من هذا، أفضلَ من هذا طَعمًا ولَونًا ومنفَعَةً لكن يتغيّر لأنَّ الدّنيا دارُ متاعب، الله تعالى خلقها ليقاسِي العِبادُ فيها المتاعب، وجعلَ لَذَّات الدّنيا مُنَغَّصَةً بالمصائب والبَلَايا، إنّما أخّرَ جزاءَ أوليائه بالنّعيم الـمُقيم الذي لا يخالِطه أدنَى غُصَّة إلى الآخرة، جزاء المؤمنين بالثواب الجَزيل، أي: الثواب الكبير النعيم المحض الذي ما فيه نكد ولا ضيق ولا مَرَض أخّرَهُ للآخرة، الأنبياءُ والأولياءُ ومن ءامن بالأنبياء لو كان من أهل المعاصِي لا بدّ أن يُدخِلَهُم الجنّة وينعّمَهُم هناك نعيمًا ما فيه نكَدٌ، لا يخالِطه نكد، فِي الجنّة لا يوجد نكد، لذلك لا يتحوَّلُ طعامُهُم وشرابُهُم إلى الغائِط والبول إنّما يَفِيضُ من الجسم عَرَقٌ كالـمِسك ليس كعَرَقَ الدُّنيا، عَرَقُ الدنيا يتولَّدُ منه القمل وغيرُ ذلك.
اللهُ جَعَلَ نعيم الجنّة نعيمًا خالصًا، ليس فيها نكد، لا يخالِطُها نكد بوَجهٍ من الوجوه، وجعلَ جزاءَ الكافرين الذينَ كذّبوا الأنبياء ولم يتّبعوهم العذابَ الأليم؛ أي: الذِي لا يَنقَطِع، ثم الله تباركَ وتعالى جعلَ فِي القبرِ أيضًا نعيمًا للمؤمنين وعذابًا على الكافرين، بعض عصاة المسلمين الذين ماتوا بلا توبة، ليس كلهم، الله تعالى يسامِحُهم، لا يعذّبُهم فِي قبورهم ولا فِي ءاخرتهم وبعضهم يعذّبُهم فِي قبورهم ثم يقطعُ عنهم عذابَ القبر ثم يؤخّر إلى الآخرة بقيّةَ عذابهم، ثم فِي الآخرة أيضًا ينقطِعُ عذَابُهم بعد برهة والنهايةُ النعيمُ المحضُ، نهايةُ الجميع النعيم المحض.
هذا القبر وصفَهُ سيّدُنا عيسى u. مرّةً عيسى هو وجماعَتُه المؤمنون أتَوا إلى قبرٍ فالذين معه جماعَتُه، قالوا: ما أضيَقَ القَبر فقال لهم: «قد كنتم فيما هو أضيقُ منه فِي أرحام أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسّع»([i]).اهـ. معناه: أن للقبر حالاتٍ خفيّةٍ على الناس الذين على وجه الأرض، هذا القبرُ الذي ترونَه مسافةً قصيرةً ضيّقةً اللهُ تبارك وتعالى يجعَلُه واسعًا على من شَاء من عباده المؤمنين يتنعمون فيه، أرواحُهم مع أجسادهم تظلُّ فيه حتّى يبلَى الجسَدُ كُلُّه، بعد بِلَى الجسد كلّه تنتقل الأرواحُ أرواحُ المؤمنين الأتقياء الذين يؤدُّونَ الفرائضَ كلَّها ويجتنبون المعاصِي كلَّها إلى الجنّة أرواحُهم تنتقل إلى الجنّة أما الجسدُ أكلَهُ التّرابُ لم يَبْقَ منه إلّا عظمٌ صَغيرٌ قَدْرُ الخَردَلَة، أي: قدر رُبُع حبَّة سِمسِم، هذا العَظمُ هو أوَّلُ ما يُخلَقُ من الإنسان فِي رَحِم الأُمَّهات، هو هذا العَظمُ صغيرٌ جدًّا، عليه تُركَّبُ سائرُ العظام ثم تُكسَى العِظَامُ لحمًا، هذا العَظمُ لا يأكُلُه التّراب أمّا ما سِواه فيأكُلُه التّرابُ لكنّ الشّأنَ للرُّوح. كلام سيدنا عيسى u معناه: لا تظنُّوا أن الأمر ينتهي إلى هذا الـمَنظَر من القبر البُقعَة الضَّيقَة الصغيرة لا، بعدَ ذلك أشياء، من الناس من يوسّع اللهُ له القبر ويملؤهُ نورًا ويأتيه رائحةُ الجنّة إلى القبر، يتنعّمون أكثرَ ممّا كانوا يتنعّمون على وجه الأرض أكثرَ من ذلك، وأمّا عُصَاة المسلمين كتارك الصّلاة وءاكِل الرّبا وعاق الوالدين هؤلاء إن ماتوا قبلَ التوبة قِسمٌ منهم يعذبهم الله فِي القبر يصير عليهم نكَد، أي: ضِيقٌ وشِدَّةٌ كما أنّ أولئك المؤمنين الأتقياء تحصل لهم فِي القبر حالاتٌ من النّعيم لا تُوصَف، يحصل فِي القبر عجائب كثيرة للمؤمنين الأتقياء. من سبع سنوات فِي الحبشة رجل دَيّنٌ تقي مؤمنٌ خالصٌ خَفِيّ من الأخفياء لا يُعرَف بأنه شيخ تقيٌّ دَيّن إنّما هو فيما بينه وبين ربّه تقيٌّ يؤدّي الواجبات الشرعية، تعلّم الحلالَ والحرام من أهل المعرفة ويعمَلُ مولِدًا مِن حُبّه الشّديد للرسول r فِي شهر ربيع الأوّل فيُطعِمُ الناسَ الطعام الفاخِرَ يشبِعُهُم، نِيّتُهُ تكون خالصةً لله تعالى، هذا الإنسان توفِّي لـمَّا شيَّعُوهُ وتم الدفن وقبل أن ينصرف الناس سِمَعُوا دَوِيًّا شديدًا كصوت الطّيران الحربيّ، الناس ظنُّوا أن هذه غارَةٌ جويّة لأنه كان فِي تلك الناحية فِي تلك الأيام ثورة إسلاميّة ضِدَّ دولة الحبشة الكافرة الشّيوعية، كانوا نصارى ثم انقلبُوا شيوعيّين قام شباب من المسلمين بثورة ضِدَّ هذه الدولة، ظنّ الناسُ أولَ ما سمعوا الصوتَ الشّديد أنه الهواء من الغارات، ثم تبيّن لهم أنه ليس هناك غارات جوّية وإذا بالأرض التي تلِي القبر بعد القبر بمترين انشقّت فخرج الميّتُ فطار، طار كما كانَ بكَفَنه والناسُ ينظُرونَ إليه، تغيَّبَ عن أبصار الناس لا يدرُون إلى أين ذهب، هذا الرّجُل نفسُه كان له جَدٌّ حصَلَ له مثلُ هذا. هذا شيءٌ قليل مما يحصُل من الغرائب التِي تصير للمؤمنين بعدَ دفنهم.
ومن الناس من كان سأل الله تعالى من المؤمنين الأتقياء سأل الله تعالى أن يُمَكّنَهُ الله تعالى الصلاة فِي القبر قال فِي دعائه اللَّهُمَّ إن مَكَّنتَ أحَدًا مِنَ الصَّلَاة فِي القبر فَمكِّنِّي من الصَّلاة فيه.اهـ. بعدما تُوُفِّي شاهَدَهُ الناسُ وهو يصلِّي فِي قبرِه يقَظَةً ليس منامًا، هذا يقال له: ثَابِتٌ البُنَانِيّ هذا ما رأى الرسول r لكن رأى أصحاب رسول الله r، كان لازَمَ أنسَ بنَ مالك t خادمَ رسول الله r الذي خدمَ الرسول عشرَ سنوات بالمدينة وأخذ منه العلم وكان يحبُّه ويتعلّقُ به، لازَمَهُ ملازمَةً شَدِيدةً، كان عابدًا تقيًّا عالِمًا من علماء الحديث كان يقال له: ثابت البُنَانِيّ قال: اللَّهُمَّ إن كنتَ مكَّنتَ أحدًا من الصلاة فِي القبر فمكِنِّي من الصلاة فِي قبري.اهـ. الله تعالى حقّقَ له دعوتَه فشاهدهُ الناسُ عِيَانًا وهو يصلِّي فِي قبره.
وبعضُ الصالحين أيضًا يحصلُ لهم فِي القبر شيءٌ عجيب وهو أن بعضَ الناس الذين هم أتقياء أمثالُهم يتخاطبون معهم، يتكلّمون معهُم فِي ما يُهَمُّهم من الأمور، ذاكَ الوليّ فِي قبره وهذا واقفٌ على رأس القبر يتخاطبُ معه، هذا حصَلَ كثيرًا، هذا دليلٌ على أنّ صاحبَ القبر فِي نعيم عظيم لا يشكُو ضيقًا ولا شيئًا ولا همًّا ولا غمًّا ممتلئٌ روحُهُ سرورًا وفرحًا، وكلُّ هذا شرطُه المحافظَةُ على الإيمان، الثباتُ على الإيمان، إذا الإنسان عرف الله ورسولَه وتجنب بعد ذلك الكفريّات القولية والفِعليّة والاعتقادية فثبتَ على الإيمان لا بدَّ أن يَرَى النعيم الـمُقيم فِي الآخرة ولو حصل له قبل ذلك ما حصل من التعب والنكد وكان من أهل الكبائر الذين لم يسامحهم الله.
أما بعض المسلمين مهما كانوا مذنبين متلوثين بالمعاصي مقصرين يسامحهُم الله منهم من يموتُ شهيدًا فيقاتل الكفارَ لله ليس للرياء ليس ليقال عنه فلان بطَلٌ ليس ليُرْضَى عنه بل لأنّ الله يحبُّ الجهاد فِي سبيله، ومن الناس المسلمين العصاة من يسامحهم الله لأنهم نالُوا نوعًا من الشهادة بغير القتل فِي سبيل الله وهم ثمانية أقسام، فمن يموت بمرض البَطن لا يعذّبُه الله فِي قبره مهما كان عاصيًا مهما كان له من الذنوب لا يعذبه، الذي يموت بمرض البطن وكذا الذي يموت بمرض يُسَمَّى ذاتَ الجَنب وهو مرضٌ يَحدُثُ هنا فِي جَنب الإنسان ورَمٌ داخِلي ثم يَظهَرُ إلى خارج الجلد، صَعبٌ هذا المرض، هذا إذا ما ابتُلِي به فمات مهما كان عليه من ذنوب بشرط أن يكون متجنّبًا للكفر لا يعذِّبُه الله لا فِي القبر ولا فِي الآخرة، كذلك المرأة تموتُ فِي الطَّلق هذه أيضًا إن ماتت على الإيمان والإسلام وتجنّبت الكفر إن كانت تقيّة وإن كانت غيرَ تقيّة لا يعذّبُها الله لا فِي القبر ولا فِي الآخرة، ثمّ هناك أصنافٌ وأشكال وألوان من الناس المؤمنين الذين كانوا من أهل الكبائر ماتوا وهم غافلون لكنّ الله تعالى غفَر لهم بنوع من أنواع الشهادة التي ذكرنَاها والتي لم نذكُرهَا.
ثم الله تعالى فضّلَ الذين يخافون الوقوف يومَ القيامة للحساب فيَنهَون أنفسهم عما تميل إليه من ذنوب، هؤلاء فضَّلَهُم على غيرهم ممن يتبعُون أهواءَهُم، هؤلاء أفضل عند الله من الآخَرين هؤلاء من شأنِهم أنّهُم يَكفُّون ألسنتهم عند الغضب وعن الشّجَار، كثيرٌ من النّاس يكفرون عند الغضب؛ لأنّ النفسَ الأمّارَة بالسّوء تريدُ التغلّبَ على الشخص الذي يشاجِرُه إن كان بصدق وإن كان بكذب، يقول لازم أن أتغلب على هذا الإنسان فيكذِبُ وقد يكفر من أجل أن يكسِرَ هذا الإنسان الذي يغاضِبُه، فالذي يَكُفُّ نفسَه عندَ الغضب، يخالِفُ هواه يخالف نفسَه، لا يبالِي إن قال عنه الناس هذا جبان هذا لا يعرف أن يردَّ الجواب لا يبالِي لما يُقال فيه يسكت فيكفُّ لسانَهُ، هذا له عند الله فَضلٌ عظيم، كثير من الناس يكونون متوادّين متحابّين ثم يصير فيما بينهم خلاف ويصير شِجَارٌ فكلا الطرفين يؤذي الآخر يَفجُرُ معناه يكذب يَفَتَرِي أنت كذا هذا يقول أنت كذا وليس هو كذلك إنما يريدُ أن يَشْفِي غَيظَهُ فيُهلِكُ نَفسَهُ، بعضُ النّاس يقولون إذا لم أَرُدّ له يقولون عني هذا لا يعرف الكلام، لذلك يتكلّف أن يَكيلَ للشّخص كَيلًا زائدًا فيكذب ويفترِي، يكذب على الشخص يفترِي عليه ينسُب له ما لم يَفعَلهُ. انتَهَى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[i])) أخرجه أحمد بن حنبل فِي الزهد وابن أبي الدنيا فِي القبور وأبو نعيم فِي الحلية.