الأحد ديسمبر 7, 2025

بيان بطلان قول المعتزلة بخلق العبد فعله، وأنه كفر

يجب تكفير المعتزلة القائلين بأنّ العبد يخلق أفعاله الاختيارية أي يحدثها من العدم إلى الوجود لأنهم كذّبوا قول الله تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ {3} [سورة فاطر]، وقول الله: قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ {16} [سورة الرعد] وءايات أخرى كثيرة وأحاديث عديدة. وهؤلاء المعتزلة هم القدرية الذين سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، وهم الذين شدّد عليهم النكير عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من أكابر الصحابة ومن جاء بعدهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كلام القدرية كفر”، وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه للقدري: “إن عُدت إلى هذا لأقطعن الذي فيه عيناك”، وكذلك الحسن بن علي بن أبي طالب والإمام المجتهد عبد الله بن المبارك فقد حذّر من ثور بن يزيد وعمرو بن عبيد الذي كان من رءوس المعتزلة، وقد ألّف في الرد عليهم الحسن ابن محمد ابن الحنفية حفيد سيّدنا علي بن أبي طالب، وكذا الإمام الحسن البصري، والخليفة الأموي المجتهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وعلى تكفيرهم كان الإمام مالك فقال حين سُئل عن نكاح المعتزلة: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ {221} [سورة البقرة]، نقل ذلك عنه أبو بكر بن العربي المالكي، والزركشي في شرحه على أصول ابن السبكي، وكذلك كفّرهم إماما أهل السنّة أبو منصور الماتريدي الحنفي، وأبو منصور عبد القاهر البغدادي التميمي الشافعي شيخ الأشاعرة وشيخ الحافظ البيهقي الذي قال فيه ابن حجر الهيتمي: “الإمام الكبير إمام أصحابنا أبو منصور البغدادي”.

وقد قال شارح إحياء علوم الدين الإمام الفقيه المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي: “لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة” اهــ. وقال الزاهد الصفّار من أكابر الحنفية: “يجب إكفار القدري – أي المعتزلي – في قوله: إن العبد يخلق أفعال نفسه، وفي قوله: إن الله لم يشأ وقوع الشر” اهــ.

وممن نقل أيضًا تكفيرهم الإمام شيخ الإسلام البلقيني، وردّ عليهم الإمام المتولي في كتابه الغنية في العقيدة وهما من أكابر أصحاب الوجوه من الشافعية، والإمام أبو الحسن شيث ابن إبراهيم المالكي، وكذلك الإمام ابن التّلمساني المالكي في كتابه شرح لمع الأدلة لإمام الحرمين وغيرهم، ولم يصح عن إمام مجتهد كالشافعي وغيره القول بترك تكفير هذا الصنف من المعتزلة.

فبعد هذا لا يلتفت إلى ما يخالفه ولا يغترّ بعدم تكفير بعض المتأخرين لهم، فقد نقل الأستاذ أبو منصور التميمي في كتابه التذكرة البغدادية وكتابه تفسير الأسماء والصفات تكفيرهم عن الأئمة فقال: “أصحابنا أجمعوا على تكفير المعتزلة”. وقوله: “أصحابنا” يعني به الأشاعرة والشافعية لأنه رأس كبير في الأشاعرة الشافعية، وهو إمامٌ مقدّم في النقل معروف بذلك بين الفقهاء والأصوليين والمؤرخين الذين ألّفوا في الفِرق، فمن أراد مزيد التأكد فليطالع كتبه هذه، فلا يُدافع نقله بكلام بعض المتأخرين.

وما يذكر من العبارات التي تفهم ترك تكفيرهم عن بعض المشاهير كالنووي فقد يؤول بأن مراده من لم يثبت فيهم ما يقتضي تكفيرهم من مسائلهم، لأن منهم من ينتسب إليهم ولا يقول بجميع مقالاتهم كبشر المريسيّ والمأمون العباسي، فإن بشرًا كان موافقهم في القول بخلق القرءان وكفَّرهم في القول بخلق الأفعال؛ فلا يحكم على جميع من انتسب إلى الاعتزال بحكم واحد ويحكم على كل فرد منهم بكونه ضالاً، فالذين لا يعتقدون من الاعتزال أصوله الكفرية إنما ينتسبون إليهم ويعتقدون بعض المسائل الأخرى كعدم رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة فهؤلاء الذين لم يكفّرهم من تحاشى تكفيرهم. ومن أراد المزيد فليراجع الكتب التي ألّفت في الفِرق لبيان مقالاتهم وأقوال العلماء فيهم.

وقد أنكر الحافظ البلقيني في حواشي الروضة قول صاحب الروضة بصحة القدوة بهم في الصلاة قال: “وقول الشافعي رضي الله عنه: “أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية” محمول على من لم تثبت فيهم قضية معينة تقتضي تكفيرهم، واستدلَّ لذلك بقوله لحفص الفرد لما جادله في مسئلة القول بخلق القرءان فأفحمه الشافعي: “لقد كفرت بالله العظيم”.

وردّ البلقيني تأويل قول الشافعي هذا بكفران النعمة فقال في حاشيته على روضة الطالبين ما نصه: “قوله – يعني النووي -: وأطلق القفال وكثيرون من الأصحاب القول بجواز الاقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون، قال صاحب العُدة: هو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه، زاد – أي النووي – هذا الذي قاله القفّال وصاحب العدة هو الصحيح أو الصواب، فقد قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة وغيرهم”. قال البلقيني: “فائدة: الصحيح أو الصواب خلاف ما قال المصنف – يعني النووي – وقول الإمام الشافعي رضي الله عنه محمول على من ذكر عنه أنه من أهل الأهواء ولم يثبت عليه قضية معينة تقتضي كفره، وهذا نص عام، وقد نص خاصًّا على تكفير من قال بخلق القرءان، والقول بالخاص هو المقدّم، وأمّا الصلاة خلف المعتزلة فهو محمول على ما قدمته من أنه لم يثبت عند المقتدين بهم ما يكفرهم”. ثم قال البلقيني: “قوله – يعني النووي – وقد تأوّل البيهقي وغيره من أصحابنا المحققين ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء من تكفير القائل بخلق القرءان على كفران النعم لا كفران الخروج عن الملّة”. قال البلقيني: “فائدة: هذا التأويل لا يصح لأن الذي أفتى الشافعي رضي الله عنه بكفره بذلك هو حفص الفرد، وقد قال: أراد الشافعي ضرب عنقي، وهذا هو الذي فهمه أصحابه الكبار وهو الحقّ وبه الفتوى خلاف ما قال المصنّف”اهــ.

فلا يجوز التردّد في تكفير المعتزلة القائلين بأن الله كان قادرًا على خلق حركات العباد وسكونهم ثم لما أعطاهم القدرة عليها صار عاجزًا عنها، حكى ذلك غير واحد من الأكابر منهم الإمام أبو منصور الماتريدي، والإمام أبو منصور البغدادي، والإمام أبو سعيد المتولي، والفقيه المالكي شيث بن إبراهيم، وإمام الحرمين وغيرهم كما تقدم، فكيف يسوغ ترك تكفيرهم بعد هذا الذي هو صريح في نسبة العجز إلى الله.

قال الفقيه الأصولي الزركشي في تشنيف المسامع ما نصه: “وقد نص الشافعي على قبول شهادة أهل الأهواء وهو محمول على ما إذا لم يؤد إلى التكفير، وإلا فلا عبرة به”اهــ. وهذا يؤكد ما قاله البلقيني في حواشي روضة الطالبين بأن مراد الشافعي بقوله أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من لم تثبت بحقه قضية تقتضي تكفيره منهم، يعني كقولهم إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وإن الله كان قادرًا على خلقها قبل أن يعطيهم القدرة فلما أعطاهم صار عاجزًا.

أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور: “القدرية مجوس هذه الأمة” فمعناه أمّة الدعوة، وأمّة الدعوة تشمل الكافرين والمؤمنين، لأن لفظ أمتي ونحوه يحمل على من اتبعه في بعض المواضع، وفي بعض المواضع يطلق على من توجهت إليه دعوته فمنهم من ءامن ومنهم من أبى.

قال الإمام أبو منصور البغدادي السابق الذكر في كتابه التبصرة البغدادية: “اعلم أن تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب من وجوه: أما واصل بن عطاء فلأنه كفر في باب القدر بإثبات خالقين لأعمالهم سوى الله تعالى، وأحدث القول بالمنزلة بين المنزلتين في الفاسق، ولهذه البدعة طرده الحسن البصري عن مجلسه”.

ثم قال: “وأما زعيمهم أبو الهُذَيل فإنه قال بفناء مقدورات الله تعالى حتى لا يكون بعدها قادرًا على شىء. وأما زعيمهم النظّام فهو الذي نفى نهاية الجزء، وأبطل بذلك إحصاء البارىء تعالى لأجزاء العالم وعلمه بكمية أجزائه.

ثم قال: “وزعم أن الإنسان هو الروح وأن أحدًا ما رأى إنسانًا قط وإنما رأى قَالَبَهُ”، وزعم المعروف منهم بمعمر أن الله تعالى ما خلق لونًا ولا طعمًا ولا رائحة ولا حرارة ولا برودة، ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا حياة ولا موتًا، ولا صحة ولا سقمًا، ولا قدرة ولا عجزًا، ولا ألمًا ولا لذة، ولا شيئًا من الأعراض، وإنما خلق الأجسام فقط وخلقت الأجسام الأعراض في أنفسها”.

ثم قال: “وزعم المعروف منهم ببشر بن المعتمرِ أن الإنسان قد يخلق الألوان والطعوم والروائح، والرؤية والسمع والبصر، وسائر الإدراكات على سبيل التولد. وزعم الجاحظ منهم أن لا فعل للإنسان إلا الإرادة وأن المعارف كلها ضرورية ومن لم يضطر إلى معرفة الله لم يكن مكلّفًا ولا مستحقًّا للعقاب، وزعم أيضًا أن الله لا يدخل أحدًا النار وإنما النار تجذب أهلها إلى نفسها وتمسكهم فيها على التأبيد بطبعها. وزعم ثمامة أن المعارف ضرورية وأن عامّة الدهرية وسائر الكفرة يصيرون في الآخرة ترابًا لا يعاقب واحد منهم وحرّم السبي واسترقاق الإماء وقال بأن الأفعال المتولدة لا فاعل لها. وزعم البغداديون منهم أن الله لا يرى شيئًا ولا يسمع شيئًا إلا على معنى العلم بالمسموع والمرئي، وزعم الجبّائي منهم أن الله مطيع عباده إذا فعل مرادهم، وقال ابنه أبو هاشم باستحقاق العقاب والذمّ لا على ذنب، وقال أيضًا بأحوال لله تعالى لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة. وأنواع كفرهم لا يحصيها إلا الله تعالى، وقد اختلف أصحابنا فيهم، فمنهم من قال: حكمهم حكم المجوس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “القدرية مجوس هذه الأمة” ومنهم من قال: حكمهم حكم المرتدين” اهــ.

ثم قال: “أجمع أصحابنا على أنه لا يحلّ أكل ذبائحهم وكيف نبيح ذبائح من لا يستبيح ذبائحنا، وأكثر المعتزلة مع الأزارقة من الخوارج يحرمون ذبائحنا. وقولنا فيهم أشد من قولهم فينا ولا يجوز عندنا تزويج المرأة المسلمة من واحد منهم”.

ثم قال: “والمرأة منهم إن اعتقدت اعتقادهم حرم نكاحها وإن لم تعتقد اعتقادهم لم يحرم نكاحها لأنها مسلمة بحكم دار الإسلام. وقد شاهدنا قومًا من عوام الكرّامية لا يعرفون من الجسم إلا اسمه ولا يعرفون أن خواصهم يقولون بحدوث الحوادث في ذات البارىء تعالى، فهؤلاء يحل نكاحهم وذبائحهم والصلاة عليهم. وأجمع أصحابنا على أن أهل الأهواء لا يرثون من أهل السنّة واختلفوا في ميراث السني منهم فمنهم من قطع التوارث من الطرفين، وبه قال الحارث المُحَاسِبي، ولذلك لم يأخذ ميراث والده لأن والده كان قدريًّا، ومنهم من رأى توريث السني منهم وبناه على قول معاذ بن جبل: “إن المسلم يرث من الكافر وإن الكافر لا يرث من المسلم”، وعلى قول أبي حنيفة: “يرث السني من المبتدع الضال ما اكتسبه قبل بدعته”، كما قال في المسلم يرث من المرتد ما اكتسبه قبل ردّته ويكون كسبه بعد الردة فيئًا للمسلمين”اهــ .

وقال في تفسير الأسماء والصفات ما نصه: “فأما أصحابنا فإنهم وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغلاة من الخوارج والنجارية والجهمية والمشبّهة، فقد أجازوا لعامة المسلمين معاملتهم في عقود البياعات والإجارات والرهون وسائر المعاوضات دون الأنكحة، فأما مناكحتهم وموارثتهم والصلاة عليهم وأكل ذبائحهم فلا يحل شىء من ذلك، إلا الموارثة ففيها خلاف بين أصحابنا فمنهم من قال مالهم لأقربائهم من المسلمين لأن قطع الميراث بين المسلم والكافر إنما هو في الكافر الذي لا يعد في الملّة، ولأن خلاف القدري والجهمي والنجاري والمجسّم لأهل السنّة والجماعة أعظم من خلاف النصارى واليهود والمجوس”اهــ.

ثم قال ما نصه: “وأما الكلام في طاعات المعتزلة وسائر أهل الأهواء الضالة، فإن أهل السنة والجماعة يجمعون على أن أهل الأهواء المؤدية إلى الكفر لا يصح منهم طاعة الله عزّ وجل مما يفعلونه من صلاة وصوم وزكاة وحج لأن الله تعالى أمر عباده بإيقاع هذه العبادة على شرط مقارن كاعتقاد صحيح بالعدل والتوحيد، وبشرط أن يراد بها التقرّب إلى الله تعالى مع اعتقاد صفة الإله على ما هو عليه، ولا يجوز أن يقصده بالطاعة من لا يعرفه، وقد بيّنّا قبل هذا أن المعتزلة وسائر أهل البدع الضالة غير عارفين بالله عزّ وجلّ لاعتقادهم فيه خلاف ما هو عليه في عدله وحكمته” اهــ.

وقال في كتابه التبصرة البغدادية في ترتيب أئمة الفقه من أهل السنة ما نصه: “وقد دمّر أبو حنيفة في كتابه الذي سمّاه بالفقه الأكبر على المعتزلة ونصر فيه قول أهل السنّة في خلق الأفعال وفي أن الاستطاعة مع الفعل”اهــ

فهذه عبارات الإمام أبي منصور فكن على ذُكْرٍ منها، وفي ضمنها فوائد يحتاج مطالعها إلى التنبّه لها، منها:

* أن المعتزلة كفّار بشرط أن يكون هذا المعتزلي يعتقد أصول مقالاتهم وهي إثبات الخلق بمعنى الإحداث من العدم للعبد بقدرة أعطاه الله إياها، وأنه كان قادرًا على خلقها قبل أن يعطيه القدرة عليها فلما أعطاه القدرة عليها صار عاجزًا، والقول بأن الله لم يرد ما يقع من العباد من المعاصي والمكروهات، إلا ما يقع منهم من الحسن.

* ومنها أن كلام الشافعي بقبول شهادة أهل الأهواء بالمعنى الشامل للمعتزلة وغيرها محمول على أنه أراد من لم يقل منهم بما يؤدي إلى الكفر، لأنه ليس كل منتسب إليهم يعتقد عقيدة الآخرين، لأن الواحد قد ينتسب إلى المعتزلة والكرامية وغيرهم من أهل البدع المشتملة على الكفر من غير أن يشارك الآخرين في تلك المسائل المؤدية إلى الكفر، كما ذكر أبو منصور أنه لقي أناسًا من الكرامية لا يعرفون عقائدهم إنما يتعلقون بالاسم، وكذلك في المعتزلة أناس ينتسبون إليهم وهم خالون عن اعتقاد أقوالهم التي تؤدي إلى الكفر، وهذا ما صرَّح به الإمام سراج الدين البلقيني في عبارته التي نقلناها من حاشيته على روضة الطالبين، وذلك محمل كلام بعض الشافعيين الذين ذُكر عنهم أن المعتزلة لا يكفّرون. فتبين بهذا أن لا عبرة بقول من أطلق ترك تكفيرهم على غير هذا المعنى كبعض المتأخرين من الشافعية حيث صرّح بعدم تكفيرهم مع نسبة القول بخلق العبد فعله إليهم، فإن هذا ليس من كبار أصحاب الشافعي.

* وهنا دقيقة يجب التنبّه لها وهي أن القول بخلق القرءان كفر بالنسبة لأناس وليس بكفر بالنسبة لأناس، فمن نفى ثبوت صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق به، وهو كونه متكلمًا بكلام أزلي أبدي، بل يعتقد أن الله متكلم بمعنى أنه خالق الكلام في غيره، ويطلق مع ذلك القول بأن القرءان مخلوق، فهو الذي يكفر. وأما من يطلق هذا اللفظ ويثبت الكلام بمعنى الصفة الأزلية الأبدية بمعنى أنه قائم بذات الله، كقيام علمه وغيره من صفاته بذاته، ويقول مع ذلك بأن القرءان يطلق على هذا الكلام الذي هو صفة أزلية أبدية ويطلق على اللفظ المنزل، ويعتقد في اللفظ المنزل أنه مخلوق لله ليس من تأليف أحد من خلق الله، فهذا لا يكفر ولا يدخل تحت قول الشافعي لحفص الفرد: لقد كفرت بالله العظيم، كما لا يدخل تحت ما شهر عن كثير من الأئمة أنهم قالوا: من قال القرءان مخلوق فهو كافر، فإنه لا يظن بإمام من أئمة الهدى أنه يعتقد أن اللفظ المنزل صفة قائمة بذات الله، لأنه يلزم من ذلك جعل ذات الله القديم محلاًّ للحادث، والذات الذي يكون محلاًّ للحادث حادث لا يكون قديمًا، وذلك مما يجل عنه مقام أئمة الهدى كجعفر الصادق وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم، لأن ذلك مما لا يخفى بطلانه على أدنى طالب علم، بل ولا أدنى مسلم عرف تنزيه الله عن مشابهة خلقه من جميع الوجوه.

وقد نقل عن الإمام أبي حنيفة ما هو صريح فيما قلنا، فإنه قال في مسألة الكلام: “ما قام بالخالق فهو غير مخلوق، وما قام بالخلق فهو مخلوق” اهــ .يعني بالجزء الأول من هذه العبارة الكلام الذاتي القائم بذات الله الذي هو أزلي أبدي كسائر صفاته، ويعني بالجزء الثاني اللفظ المنزل. وما نُقل عن الإمام أحمد من نهيه عن القول: “لفظي بالقرءان مخلوق” والقول: “لفظي بالقرءان غير مخلوق” ينزل على أنه أراد ما ذكرنا.

* ومنها أنه ليس كل من شهر بأنه وافق المعتزلة في مسألة معتزليًّا على الحقيقة فيحكم عليه بحكمهم، وذلك كالخلفاء الثلاثة من العباسيين المأمون وتالييه، فإنه لا يجوز الشهادة عليهم بأنهم معتزلة لأنه لم يثبت عنهم سوى القول بهذا اللفظ: “القرءان مخلوق”، والظن بهم أنهم قصدوا اللفظ المنزل من غير نفي الكلام الذاتي. ونظير هذا قول بعض الفقهاء في الخوارج إن بعضهم يكفّرون وبعضهم لا يكفّرون كما ذكره الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في أثناء شرح الأحاديث الواردة في الخوارج.

فتبصر أيها المطالع ولا تكن مترددًا.

فوائد مهمة

* الأولى: جاء في كِتَابِ “القَدَرِ” للبَيهقِيّ وكتابِ “تَهذيب الآثَار” للإمامِ ابنِ جَريرٍ الطَّبَريّ رحمهُما الله تعالى عن عبدِ الله بنِ عمرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “صِنْفَان من أُمَّتي ليسَ لَهُما نَصِيبٌ في الإسْلامِ القَدَرِيَّةُ والمرجئَةُ” فالمعتزلةُ همُ القَدَرِيّةُ لأنَّهُم جَعلُوا الله والعَبدَ سَواسِيَةً بنَفْيِ القُدْرَةِ عَنْهُ عزَّ وجَلَّ على مَا يُقْدِرُ علَيه عَبْدُه، فَكأنَّهُم يُثْبتُونَ خَالِقِيْنَ في الحَقِيقةِ كَمَا أَثْبتَ المجُوسُ خَالِقَيْنِ خَالِقًا للخَيْرِ هوَ عندَهُم النّورُ وخالقًا للشّرّ هو عندَهُمُ الظَّلامُ.

هذا الحديثُ فيه دليلٌ على أنّ كلًّا من هذينِ الفريقينِ كُفَّارٌ، أمّا المعتزلةُ فقد مرَّ بيانُ حالِهم وهم نحو عشرينَ فرقةً منهم من وَصَلَ إلى حَدّ الكفرِ كالذين ذكرناهم ومنهم من لم يَصِل إلى ذلكَ الحَدّ بل اقتصروا على قول إن الله لا يُرى في الآخرة كما لا يُرى في الدنيا وقولهم إن مرتكب الكبيرة إن مات قبل أن يتوب لا هو مؤمن ولا هو كافر لكن يخلّد في النار بلا خروج وقولهم إنه لا شفاعة لبعض عصاة المؤمنين من الأنبياء والعلماء والشهداء، فمن وافق المعتزلة في هذا ولم يوافقهم في قولهم إن العبد يخلق أفعاله استقلالا بقدرة أعطاه الله إياها ولا في قولهم إن الله شاء أن يكون كل العباد طائعين ولكنّ قسمًا منهم كفروا وعصوا بغير مشيئته فلا يكفر.

وأمّا المرجئةُ فهم طائفةٌ انتسبوا للإسلامِ كانوا يعتقدونَ أنَّ العبدَ المؤمنَ مهما عَملَ من الكبائرِ وماتَ بلا توبةٍ ليسَ عليه عذابٌ. قالوا لا يضرُّ مع الإيمانِ ذنبٌ كما لا ينفعُ مع الكفرِ طاعةٌ، قاسوا هذه على هذه فضَلّوا وهَلَكوا، لأنَّ قولهم: “لا ينفعُ مع الكفرِ طاعةٌ” صحيحٌ لأنَّ الكافرَ مهما قامَ بصورِ أعمالِ الطاعةِ وهو على كفرِهِ لا ينتفعُ بذلكَ، وأمّا قولُهم: “لا يضرُّ مع الإيمانِ ذنبٌ لمن عَمِلَهُ” فهو كفرٌ وضلالٌ لأنَّ المؤمنَ ينضرُّ بالمعاصي التي يرتكبها، والإرجاءُ معناه التّأخيرُ، وإنّما سُمّوا بالمرجئةِ لأنّهم أَخَّروا عنهم العذابَ، أي قالوا لا يصيبهم العذابُ أي لمن عَصوا وَهُم على الإيمانِ، معناهُ الإيمانُ يؤخّرُ عنهم العذابَ أي لا يلحقهم العذابُ.

والسّببُ في هلاكِهم في هذه المسئلةِ أنّهم فَهِموا بعض الآياتِ على غيرِ وجهِهَا كقولِه تعالى: وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ {17} [سورة سبإ] فظنّوا أنَّ غَيرَ الكافرِ لا يعذّبُ، إنما معنى الآية أنَّ ذلكَ العذاب الذي ذُكِرَ لا يلقاهُ إلا الكفورُ. هؤلاءِ ولله الحمدُ كأنَّهم انقرضوا منذ زمانٍ ما بَقِيَ منهم أحدٌ فيما نعلمُ إنَّما لهم ذِكرٌ في كُتُبِ الاعتقادِ.

تِتِمّة: المعتزلة يعتقدون جملة من العقائد شذُّوا فيها عن أهل السنة منها قولهم بأن الله ما شاء حصول المعاصي والشرور وإنما يحصل الكفر والمعاصي بغير مشيئة الله، ومنها قولهم إن الإنسان هو يخلق أفعاله الاختيارية بقدرة أعطاه الله إياها وليس الله يخلقها يقولون إن الله كان قادرًا على أن يخلق حركات العباد وسكناتهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها فبعد أن أعطاهم القدرة عليها صار عاجزًا، ومنها قولهم بنفي صفات الله تعالى من علم وقدرة وحياة وبقاء وسمع وبصر وكلام فهم يقولون الله عالم بذاته لا بعلم، قادر بذاته لا بقدرة، حي بذاته لا بحياة وهكذا في سائر الصفات. وهذه الأقوال الثلاثة يجب تكفيرهم بها ولا يجوز أن يقال إنهم لا يكفَّرون بها وإن كانوا يفسَّقون بها ويبدَّعون من غير أن يصلوا إلى حدّ الكفر كما قال عدد من متأخري الشافعية والحنفية فإن هؤلاء المتأخرين خالفوا ما نصَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه الصحابة لا يُعرف بينهم مخالف فيه وهذا هو قول سلف الأمة فهو القول الصحيح المعتمد وما خالفه مردود على قائله لأنه لا يجوز أن يُترك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أصحابه بلا خلاف لقولٍ مستحدث مخالف بل مَنْ خالف في ذلك ينطبق عليه حديث مسلم مرفوعًا: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” اهــ.

ولذلك اعتمد المحققون من الخلف القول بتكفيرهم ولم يرتضوا قولا سواه، وإليك زيادة بيان ما قدمناه.

فأما الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه عن ابن الديلميّ عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لو عذَّب أهل أرضه وسمواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رَحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم ولو أنفقتَ مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مِتَّ على غير هذا دخلت النار” اهــ.

وروى أبو داود عن ابن عمر مرفوعًا: “القدرية مجوس هذه الأمة” اهــ وعنده من طريق حذيفة مرفوعًا كذلك “لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر” اهــ. وهذا الحديث مشهور يحتج به في العقيدة ولذلك احتج به الإمام أبو حنيفة في بعض رسائله الخمس.

وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام القدرية والمرجئة” اهــ والقدرية هم المعتزلة. والحديث رواه ابن جرير الطبري وصححه. ورواه البيهقي من أكثر من طريق عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا.

وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن زرارة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ {48} إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} [سورة القمر] قال “نزلتْ في أناس من أمتي يكونون في ءاخر الزمان يكذّبون بقدر الله” اهــ.

وروى أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن أبي هريرة قال جاءت مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47} إلى قوله خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} اهــ.

وروى البيهقي عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكفيرهم وأنهم يكونون أتباع الدجال عند ظهوره.

فهذه الأحاديث كلها تدل على كفر نفاة القدر القائلين بأن العبد يفعل بغير مشيئة الله، ولهذا لم يختلف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في كفرهم.

روى البيهقي في كتاب القدر بالإسناد الصحيح عن سيدنا عمر رضي الله عنه أن رجلًا من أهل الذمة قال أمامه في الجابية “إن الله لا يضل أحدًا” فغضب عمر وقال: “كذبتَ يا عدو الله ولولا أنك من أهل الذمة لضربتُ عنقك هو أضلك وهو يدخلك النار” اهــ.

وروى البيهقي في كتاب القدر أيضًا عن سيدنا عليّ رضي الله عنه أنه قال: “إن أحدكم لن يَخْلص الإيمانُ إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غير شك أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليُصيبه ويُقِرَّ بالقدر كله” اهــ.

وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن ابن الديلميّ عن أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت قولهم: “لو أنفقت مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا دخلت النار” اهــ وقد تقدم في غير موضع.

وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عطاء بن أبي رباح قال أتيتُ ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له: قد تُكُلم في القدر، فقال: أوفعلوها، قلت: نعم، قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم أولئك شرار هذه الأمة فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلّوا على موتاهم إن رأيتُ أحدًا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين اهــ.

ورُوي عنه أيضًا قوله: كلام القدرية كفر اهــ وقد تقدم.

وقد أُخْبِرَ ابنُ عمر رضي الله عنهما أيضًا بحدوث القول في القدر في العراق على مقتضى كلام المعتزلة فقال للمُخْبِرِ وكان يحيى بن يعمر من أجلَّاء التابعين: أخبرهم بأني بريء منهم وأنهم برءاء مني والذي يحلف به عبد الله لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبًا ما قُبِلَ ذلك منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره اهــ رواه مسلم.

وروى البيهقي في كتاب القدر عن لبيد قال: سألت واثلة بن الأسقع عن الصلاة خلف القدري فقال: لا تصلّ خلف القدري أما أنا لو صليت خلفه لأعدت صلاتي اهــ.

وروى البيهقي عن سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: والله ما قالت القدرية بقول الله ولا بقول الملائكة ولا بقول النبيين ولا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول صاحبهم إبليس اهــ .

وأما التابعون فمنهم ابن الديلميّ كما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وقد ذكر حديثه ءانفًا.

ومنهم يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري. رواه مسلم والترمذي وغيرهما وهما سمعا حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور ءانفًا.

ومنهم أبو سهيل عمُّ الإمام مالك وعمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنهما فقد روى البيهقي في القدر عن أبي سهيل أنه قال: كنت أمشي مع عمر بن عبد العزيز فاستشارني في القدرية فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف، فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي اهــ.

ولعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه رسالة مشهورة في الرد على القدرية، رواها أبو نعيم وغيره.

ومنهم التابعي الجليل محمد بن سيرين، فقد روى البيهقي عنه أنه قال: إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في ءايات الله فلا أدري من هم اهــ.

ومنهم الحسن البصري فقد روى ابن عساكر في تاريخه عن عاصم قال سمعت الحسن البصري يقول: من كَذَّبَ بالقدر فقد كذّب بالحق إن الله تبارك وتعالى قدّر خلقًا وقدر أجلًا وقدّر بلاء وقدّر مصيبة وقدّر معافاة فمن كَذَّبَ بالقدر فقد كذب بالقرءان اهـ ـ

وأفتى الزُّهْرِيُّ عبدَ الملك بن مروان بدماء القدرية كما ذكره الإمام  عبد القاهر التميمي في أصول الدين.

ولعنهم سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما روى البيهقي عن عكرمة بن عمار أنه قال سمعت سالم بن عبد الله يلعن القدرية اه‍.

ومن أتباع التابعين صرَّحَ بكفرهم جماعة كبيرة منهم الإمام مالك بن أنس فقد روى البيهقي عن إسحاق بن محمد الفروي أنه قال سئل مالك عن تزويج القدري فقال: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ {221} [سورة البقرة] اهــ.

ومنهم الإمام أبو حنيفة كما صرَّح في بعض رسائله وقد قال: الكلام بيننا وبين القدرية في حرفين يقال لهم: هل عَلِمَ الله ما يكون من العباد قبل أن يفعلوا، فإن قالوا لا كفروا لأنهم جَهَّلُوا ربَّهم، وإن قالوا عَلِمَ يقال لهم: هل شاء خلاف ما عَلِمَه، فإن قالوا نعم كَفَروا لأنهم قالوا شاء أن يكون جاهلًا، وإن قالوا لا رجعوا إلى قولنا اهــ. ولذلك قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: القدري إذا سلّم العلم خُصِمَ اهــ.

وقد كفّر الشافعيُّ حفصًا الفرد من رؤوس المعتزلة وقال له: لقد كفرتَ بالله العظيم اهــ رواه البيهقي في مناقب الشافعي.

وأما تكفير أحمد بن حنبل لهم فمعروف مشهور عنه رواه عددٌ منهم البيهقي وابن الجوزي وغيرهما.

وروى البيهقي في الأسماء والصفات تكفير أبي حنيفة وأبي يوسف لهم بل قال أبو يوسف فيهم: إنهم زنادقة اهــ.

ومنهم سفيان الثوري كما روى البيهقي عن أحمد بن يونس أنه قال سمعت رجلًا يقول لسفيان الثوري: إن لنا إمامًا قدريًّا قال: لا تقدِّموه، قال: ليس لنا إمام غيره، قال: لا تقدِّموه اهــ.

ومنهم سفيان بن عيينة، روى البيهقي عن أيوب بن حسان أنه قال سئل ابن عيينة عن القدرية فقال: يا ابن أخي قالت القدرية ما لم يقل الله عزَّ وجلَّ ولا الملائكة ولا النبيون ولا أهل الجنة ولا أهل النار ولا ما قال أخوهم إبليس… إلخ اهــ.

ومنهم محمد الباقر بن عليّ زين العابدين كما روى البيهقي عن الحارث بن شريح البزار قال قلت لمحمد بن علي: يا أبا جعفر إن لنا إمامًا يقول في هذا القدر، فقال: يا ابن الفارسي انظر كل صلاة صليتها خلفه فأعدها، إخوان اليهود والنصارى قاتلهم الله أنى يؤفكون اهــ.

ومنهم الإمام المجتهد أبو عمرو الأوزاعي فإنه كفَّر غيلان القدري وقال لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اهــ رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق بروايات عدة.

ومنهم الحافظ يحيى بن سعيد القطان فقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن سعيد بن عيسى الكُزبري يقول سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: شيئان ما يخالج قلبي فيهما شك تكفير القدرية وتحريم النبيذ اهــ.

ومنهم إبراهيم بن طهمان كما روى البيهقي عن الحسن بن عيسى أنه قال سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: الجهمية والقدرية كفار اهــ.

فهذه أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم فقهاؤهم وعلماؤهم عمرُ وعليٌّ وأبيّ وابن مسعود وحذيفة وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس مجمعة على تكفير القدرية لم يخالفهم في ذلك صحابيّ واحد، ومعهم على هذا مشاهير علماء التابعين كابن سيرين وعمر ابن عبد العزيز والحسن البصري وابن شهاب الزهري، وتبعهم على ذلك أتباع التابعين وبينهم المجتهدون أصحاب المذاهب المشهورة المتبوعة مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، ومع هؤلاء كلهم أئمة أهل البيت عليّ والحسين والباقر رضوان الله عليهم فكيف بعد هذا كله يجرؤ بعض المتأخرين على الزعم بأن القول المعتمد تركُ تكفير المعتزلة القائلين بخلق العبد لأعماله وبنفي صفات الله تعالى وبأي لسان يزعم منتسب إلى الإسلام بأن القول بعدم تكفيرهم الذي يخالف الأحاديث الصريحة وإجماع الصحابة وأقوال أئمة المجتهدين من التابعين وأتباعهم هو القول المعتمد. وإذا كان هؤلاء كلهم أخطأوا الصواب ولم يفرقوا بين الكفر والإيمان على ما يقتضيه كلام هؤلاء المتأخرين فمِنْ أين عرفوا هم الصواب بزعمهم في المسئلة ومن أي طريق بلغهم حكمها.

بل الحق ما جاء به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام والصواب ما أجمع عليه الصحابة وقاله الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والأوزاعي وغيرهم من المجتهدين، وأما ما خالف ذلك مما قاله بعض من جاء بعد هؤلاء بمئات من السنين كالباجوريّ أو الشربيني أو الأشخر ممن يُعَدّ في الأصول والفروع كالأطفال بالنسبة لهؤلاء الأساطين فيُضرب به عرض الحائط ولا يقام له وزن.

ولذلك لم يعتبر أئمة الخلف ومحققوهم هذا الرأي الشاذ بل جزموا بكفر المعتزلة ونقل الإمام أبو منصور التميمي البغدادي كفرهم عن الأئمة في كتابه أصول الدين، وقال في تفسير الأسماء والصفات: أجمع أصحابنا – أي أئمة الأشاعرة والشافعية – على تكفير المعتزلة اهــ.

وكفَّرهم إمام الهدى أبو منصور الماتريدي في كتابه التوحيد وعليه جرى أئمة الحنفية. قال الزبيدي في شرح الإحياء: إن مشايخ ما وراء النهر لم يتوقفوا عن تكفير المعتزلة اهــ، وممن نصّ على ذلك منهم نجم الدين منكوبرس شارح الطحاوية.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكيّ من أصول الإيمان القدر من كذّب به فقد كفر. نص عليه مالك فإنه سئل عن نكاح القدرية فقال: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ {221}اهــ.

وكفَّرهم الفقيه اللغوي شيث بن إبراهيم المالكي وألف في الرد عليهم كتاب “حز الغلاصم وإفحام المخاصم” وهو مطبوع.

وسئل الجنيد رضي الله عنه عن التوحيد فقال: اليقين، ثم استفسر عن معناه فقال: إنه لا مكوّن لشىء من الأشياء من الأعيان والأعمال خالق لها إلا الله تعالى اهــ.

وقال الفقيه الحنبليّ وليّ الله السيد عبد القادر الجيلاني في كتاب الغنية له: تبًّا لهم – أي للقدرية – وهم مجوس هذه الأمة جعلوا لله شركاء ونسبوه إلى العجز وأن يجري في ملكه ما لا يدخل في قدرته وإرادته، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا اهــ.

وكفَّرهم أبو حامد الأسفراييني من أصحاب الوجوه بين الشافعية ولم يصحح الصلاة خلفهم.

وقال الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني الشافعي في الأنساب في ترجمة الكعبي المعتزلي وقد كَفَرَت المعتزلة قبله بقولها إن الشرور واقعة من العباد بخلاف إرادة الله عزَّ وجلَّ ومشيئته اهــ ثم قال فزاد أبو القاسم الكعبي في الكفر فزعم أنه ليس لله عزَّ وجلَّ إرادة ولا مشيئة على الحقيقة اهــ.

ونقل النووي في الروضة عن الحنفية تكفير من قال أنا أفعل بغير مشيئة الله وأقرهم عليه اهــ.

وسبق نقل ما ذكره البلقيني في هذه المسئلة وردّه على من صحَّح الصلاة خلفهم.

فتلخص مما تقدم أن القول الصحيح المعتمد الذي لا يجوز العدول عنه هو تكفير المعتزلة بكل مسئلة من المسائل الثلاث المذكورة ءانفًا، ولله درُّ أبي القاسم العلويّ القائل فيما رواه البيهقي عن أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي يقول سمعت أبا القاسم عبد الرحمن بن محمد ابن القاسم الحسني وما رأيت علويًّا – أي من ذرية سيدنا علي – أفضل منه زهدًا وعبادة يقول: المعتزلة قَعَدَةُ الخوارج عجزوا عن قتال الناس بالسيوف فقعدوا للناس يقاتلونهم  بألسنتهم أو يجاهدونهم أو كما قال اهــ.

*الثانية: رَوى البيهقيُّ رحمَه الله تعَالى عن سيّدِنا عَليٍّ رضيَ الله عنْه أنَّه قالَ: “إنَّ أحَدَكُم لَنْ يَخْلُصَ الإيمانُ إلى قَلبِه حتّى يَستَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ أنَّ مَا أصَابَه لم يَكُن لِيُخطِئَهُ ومَا أخطأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ، ويُقِرَّ بالقَدَرِ كلِّهِ”. أيْ لا يَجوزُ أن يُؤْمنَ ببعْض القَدَرِ ويَكْفُرَ ببعضٍ.

ومعنى هذا الأثر عن سيّدنا عليّ رضي الله عنه أنه لا يتمُّ الإيمان في قلب أحدكم حتى يستيقن يقينًا غير شكّ أي حتى يعتقد اعتقادًا جازمًا لا يخالجه شكٌّ أن ما أصابه لم يكن ليخطئه إن كان من الرّزق أو المصائب أو غير ذلك وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقرَّ بالقدر كلّه، معناه لا يجوز أن يؤمن ببعض القدر ويكفر ببعضٍ بل يجب على كلّ مسلم أن يؤمن بأن كلَّ ما يجري في الكون من خيرٍ أو شرّ ضلالةٍ أو هدى عسرٍ أو يسرٍ حلوٍ أو مرٍّ كلُّ ذلك بخلق الله ومشيئته حدث وكان ولولا أن الله تعالى شاءه وكوَّنه وخلقه ما حصل.

* الثالثة: رَوَى البيهقي أيْضًا بالإسْنادِ الصّحيحِ أنَّ عمرَ بنَ الخَطّاب كانَ بالجَابيةِ – وهي أرْضٌ من الشَّام – فقامَ خطيبًا فَحَمِدَ الله وأثْنَى عليه ثمَّ قالَ: “من يَهْدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ”، وكان عندَهُ كافرٌ من كفّارِ العجَم من أهْلِ الذّمّةِ فقال بلُغَتِهِ: “إنَّ الله لا يُضِلُّ أحدًا”، فقالَ عُمَرُ للتَّرجُمان: “ماذا يقولُ”؟ قال: إنّه يقولُ: إنّ الله لا يُضِلُّ أحدًا، فقالَ عمرُ: “كذَبتَ يا عَدُوَّ الله ولَولا أنَّكَ من أهل الذّمّةِ لضَرَبتُ عنُقَكَ هُوَ أضَلَّك وهُوَ يُدخِلُكَ النَّارَ إن شاءَ”.

ومَعنى كلام عمرَ رضي الله عنه أن هذا الاعتقاد كفرٌ وضلالٌ وهو اعتقادُ أن الله لا يُضِلُّ أحدًا أي أن الإنسانَ يضلُّ بمشيئتِهِ لا بمشيئَةِ الله، وأن العبدَ هو يَخلُقُ هذه الضلالةَ ليس الله خالقَهَا.

ومعنى قول سيدنا عمر: “إن شاءَ” أي إن شاءَ أن تموتَ على كفرِكَ هذا لا بُدَّ من دخولِك النار. وقد احتجَّ سيدنا عمر بهذه الآية: وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ {37} [سورة الزمر] ومعناهُ أن الذي شاءَ الله له في الأزلِ أن يكون مهتديًا لا أحد يجعلهُ ضالا، مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ {186} [سورة الأعراف] أي ومَن شاءَ الله أن يكون ضالا فلا هادِيَ لهُ، أي لا أحد يهديه ولا أحد يجعلهُ مهتديًا. وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنذرَ قومَهُ أوَّل ما نزلَ عليه الوحيُ عملًا بقول الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ {214} [سورة الشعراء] أي حذِّرهم من الكفرِ ثم اهتدَى به أناسٌ ولم يهتد به أناسٌ حتى من أقاربِهِ كأبي لهبٍ وغيرِه فإنهم لم يهتدوا، والرّسولُ بلَّغهم دعوتَهُ لكن لم يهتدوا، وأولئكَ الذين اهتدوا اهتدوا، فما هو الموجِبُ لذلك أي لأن يهتديَ هؤلاءِ ولا يهتدي هؤلاءِ؟ الموجبُ لذلكَ أن الله تبارك وتعالى شاءَ في الأزلِ أن يهتديَ هؤلاء بمحمدٍ ولم يشأ أن يهتديَ الآخرونَ تنفَّذت مشيئةُ الله في الفريقينِ.

والله تعالى يكرَهُ الكفرَ والمعاصي لكن خصَّصَ هؤلاء بأن ينساقوا إلى الضّلالِ، كما خصَّصَ أولئكَ بأن ينساقوا باختيارِهِم إلى الهُدَى، هذا معنى المشيئةِ.

وَرَوَى الحَافِظُ أبُو نُعَيْم عن ابنِ أخي الزُّهْرِيّ عن عمّه الزُّهريّ أنّ عُمرَ بنَ الخطابِ كان يحبُّ قصيدةَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ التي مِنها هذِه الأبْياتُ، وهيَ من بَحرِ الرَّمَلِ وقد كان عمرُ يُعجبُ بها لما فيها من الفوائدِ الجليلة:

إِنَّ تَقْوى ربّنَا خَيرُ نَفَلْ

وبإذنِ الله رَيْثي وعَجَلْ

أحمَدُ الله فَلا نِدَّ لهُ

بيَدَيْهِ الخيرُ ما شَاءَ فَعلْ

مَنْ هَداهُ سُبُلَ الخَيْرِ اهتَدى

ناعِمَ البَالِ ومَنْ شَاءَ أضَل

ومَعنى قولِه: “إِنَّ تَقْوى ربّنا خَيرُ نفَل”، أي خَيرُ ما يُعطاه الإنسانُ.

فقولُه: “إن تقوى رَبّنا خيرُ نَفَل” أي أنَّ تقوى الله خيرُ ما يؤتاهُ الإنسانُ وخيرُ ما يُعطَاهُ، والتَّقوى كلمةٌ خفيفةٌ على اللسانِ لكنها ثقيلةٌ في العملِ لأنها أداءُ ما افترضَ الله على العبادِ واجتنابُ ما حَرَّمَ عليهم، وهذا أمرٌ ثقيلٌ.

ومَعْنى قَولِه: “وبإذن الله رَيْثي وعَجَل”، أي أَنّه لا يُبطِئ مُبْطِئ ولا يُسْرِعُ مُسْرِعٌ إلا بمشِيئَةِ الله وبإذنِه، أي أنه لا يبطئ مبطئ ولا يُسرعُ نشيطٌ في العملِ إلا بمشيئَةِ الله وإذنِهِ، أي أن الله تبارك وتعالى هو الذي يَخلُقُ في العبدِ القوَّةَ والنَّشاطَ للخيرِ، وهو الذي يخلُقُ فيه الكسلَ والتَّواني عن الخير، أي أن الخيرَ والشرَّ اللذين يحصلانِ من الخلقِ كلٌّ بخلقِ الله تعالى ومشيئتِهِ.

أما معنى قَوْلِه: “أحْمَدُ الله فَلا نِدَّ لَهُ”، أيْ لا مِثْلَ له.

وقولِه: “بيديه الخَيْرُ”، أيْ والشَّرُّ، أي أن الله تعالى مالكُ الخيرِ ومالكُ الشَّرّ لا خالقَ للخيرِ والشَّرّ من أعمالِ العبادِ إلا الله، ليسَ العبادُ يخلقونَهُ ولا النُّورُ ولا الظُّلمةُ يخلقانِ ذلك كما قالت المَانويَّةُ وهم قومٌ يقولونَ: النّورُ والظُّلمةُ قديمانِ أزليَّانِ ثم تمازَجَا فحدَثَ عن النّورِ الخيرُ وعن الظُّلمةِ الشرُّ وقد كذَّبهم المتنبّي الشَّاعرُ في قوله:

وكَم لظَلامِ الليلِ عِنْدِيَ مِنْ يَدٍ

تُخَبّرُ أنَّ المَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ

وإنما اقتصر لبيدُ بن ربيعة رضي الله عنه على ذِكرِ الخيرِ دون الشَّرّ اكتفاءً بذكرِ الخيرِ عن ذكر الشَّرّ لأنه معلومٌ عند أهلِ الحقّ أن الله خالقُ الخيرِ والشَّرّ وعلى هذا اتَّفَقَ أهلُ الحقّ، فإيمانُ المؤمنين وطاعاتُهم وكفرُ الكافرين كلٌّ بخلقِ الله تعالى ومشيئتِهِ، إلا أن الخيرَ الإيمانَ والطَّاعةَ بخلقِ الله ومشيئتِهِ ورضاهُ، والشرَّ أي الكفر والمعاصيَ بخلقِ الله يحصُلُ من العبادِ لا برضاهُ بل نهاهم عن ذلك، وهو الله سبحانه وتعالى فعَّالٌ لما يريدُ لا يُسأَلُ عما يفعلُ. ولا يجوزُ قياسُ الخالِقِ على الخَلقِ كالذي يقولُ كيف يكونُ خالق الشَّرّ فينا ثم يحاسبُنا في الآخرةِ على الشَّرّ، فقد قاسَ الخالقَ على الخلقِ وذلك ضلالٌ بعيدٌ، لا يتمُّ أمرُ الدّين إلا بالتَّسليمِ لله فمن سَلَّم لله سَلِمَ، ومن تَرَكَ التّسليمَ له فاعتَرَضَ لم يَسلَم.

فإن قيلَ أليسَ الله تبارك وتعالى قال: بِيَدِكَ الْخَيْرُ {26} اقتصرَ على ذكرِ الخيرِ ولم يَقُل والشَّرُ فكيف يجوزُ أن يقالَ إنه خالقُ الخيرِ والشرّ، فالجواب: في مواضعَ أخرى من القرءانِ ما يفيدُ أن الله تعالى خالقُ كلّ شىءٍ، والشّىءُ يشمَلُ الخيرَ والشرَّ قال الله تبارك وتعالى لنبيّه محمّدٍ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء {26} [سورة ءال عمران] فَعَلِمنا من قوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء {26} أنه هو خالقُ الخيرِ والشرّ لأنه هو الذي ءاتى أي أعطَى المُلكَ للملوكِ الكفرةِ كفرعونَ والملوكِ المؤمنينَ كذي القرنين، فليس في تَركِ ذكرِ الشرّ مع الخيرِ في قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ {26} دليلٌ على أن الله تعالى لَيسَ خالقًا للشّرّ، وهذا عندَ علماءِ البيانِ يُسمَّى الاكتفاء أي تركَ ذكرِ الشىءِ للعلمِ به بذكر ما يقابله.

وأما قولُه تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ {79} [سورة النساء] فالحسنةُ معناها هنا النّعمةُ، والسَّيّئةُ هنا معناها المصيبةُ والبليَّةُ، فمعنَى الآية: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ {79} أي ما أصابَك من نعمةٍ فمن فضلِ الله عليكَ  وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ {79} أي وما أصابَكَ من مصيبةٍ وبليَّةٍ فمن جزاءِ عملِكَ، أعمالُ الشرّ التي عملتَهَا نجازيكَ بها بهذه المصائبِ والبلايا، وليس المعنى أنكَ أنتَ أيها الإنسانُ تَخلُقُ الشَّرَّ، فالعبدُ لا يخلُقُ شيئًا لكن يكتسبُ الخيرَ ويكتسبُ الشَّرَّ والله خالقهما في العبدِ. وهذا التقريرُ معروفٌ عند كثيرين، وهناكَ تقريرٌ ءاخرُ للآية ينبغي أن يؤخَذَ بهِ ويُترَكَ التقريرُ السابِقُ وهو أن معنَى قوله تعالى: : مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ {79} محكيٌّ عن المشركينَ بتقدير محذوفٍ وهو: “يقولون أو قالوا” فيكونُ التقديرُ: يقولونَ أو قالوا لمحمدٍ ما أصابَكَ من حسنةٍ أي نعمةٍ فمنَ الله وما أصابَكَ من سيئةٍ أي مصيبةٍ فمنك يا محمدُ أي من شؤمِكَ، وهذا التقريرُ خالٍ عن الإشكالِ بخلافِ الأولِ فإن فيه إشكالا، وقد قال هذا التقريرَ علماءُ منهم السيوطيُّ الشافعيُّ والقونويُّ الحنفيُّ.

وإنَّما اقتَصَرَ على ذِكر الخَير من بابِ الاكتِفاءِ كقَولِه تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ {81} [سورة النحل]، أي والبردَ لأن السرابيلَ تقي منَ الأمرينِ ليسَ منَ الحرّ فقط، وهذا في لغةِ العربِ يقالُ له أسلوبٌ من أساليبِ البلاغَةِ باللغةِ العربيةِ عند الفصحاءِ البُلغَاءِ وهو أن يُذكَرَ أحدُ الشيئين الداخلَين تحتَ حكمٍ واحدٍ اكتفاءً بأحدِهما عن ذكرِ الآخرِ كما في قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ {26} [سورة ءال عمران] فليس المعنَى أنه قادرٌ على الخيرِ فقط وليس قادرًا على الشَّرّ، وكما في قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ {81} [سورة النحل] السَّرابيلُ هي القمصانُ، فقمصانُ الحديدِ الدُّروعُ التي تُلبَسُ في الحربِ هذه تقي من السّلاحِ، الله تعالى يمتنُّ علينا بأنه خَلَقَ لنا هذا وهذا، خلق لنا سرابيلَ تقينا الحَرَّ أي والبردَ وسرابيلَ أي قمصانًا أي أدراعًا من حديدٍ تقيكم بَأسَكُم أي السّلاح.

وقولِه: “ما شَاءَ فَعَل”، أي ما أرادَ الله حُصولَهُ لا بُدَّ أن يَحصُلَ وما أرادَ أن لا يَحصُلَ فَلا يَحْصُلُ.

وقولِه: “من هَداهُ سُبُلَ الخَيْرِ اهتَدَى”، أي من شَاءَ الله له أن يكونَ على الصّراطِ الصَّحيحِ المستَقيمِ اهتَدَى.

وقولِه: “ناعِمَ البالِ”، أي مُطمئنَّ البَالِ.

وقولِه: “ومَنْ شاءَ أضَلّ”، أي مَن شَاءَ له أن يكونَ ضَالا أضَلَّهُ، معناه أن الله تبارك وتعالى من هَدَاهُ سُبُلَ الخيرِ أي من شَاءَ له في الأزلِ أن يكونَ مهتديًا على الصّراطِ الصَّحيحِ المستقيمِ فلا بُدَّ أن يكونَ مهتديًا أي على دينِ الله تبارك وتعالى وعلى تقواهُ.

وقولُه: “ناعمَ البالِ” أي مطمئنَّ البالِ للإيمانِ بالله تعالى وبما جاءَ عن رسولِهِ.

وقولُه: “ومن شاءَ أضل” أي أن الله تبارك وتعالى من شَاءَ في الأزلِ أن يكونَ ضالا أضلَّهُ، أي خَلَقَ فيه الضَّلالَ، وهذا الكلامُ من أصولِ العقائدِ التي كان عليها الصحابةُ ومن تَبِعَهُم بإحسانٍ. فمن شاءَ الله له الهدايةَ لا بدَّ أن يهتديَ، الله يلهمُهُ الإيمان والتُّقى فيهتدي باختيارهِ لا مجبورًا، وأما من شَاءَ الله تعالى في الأزلِ أن يكونَ على خلافِ ذلكَ أي أن يكونَ ضالا كافرًا أضلَّهُ الله تبارك وتعالى أي جعلَهُ كافرًا، فيختارُ هذا العبدُ الكفرَ. فَلِمَا في هذهِ الأبياتِ من التّوحيدِ الخالصِ كان يُعجبُ بهنَّ عمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه فلتُحفظ فإنهن من جواهرِ العلمِ في أصولِ العقيدةِ.

ولا التفاتَ إلى ما يقولُهُ بعضُ الناس: “الله ما خلقَ الشرَّ” فلتُحذَر وليُحَذَّر منها، فيجبُ تعليمُ الأطفالِ أن الله خالقُ الخيرِ والشَّرّ ولكن يحبُّ الخيرَ ولا يحبُّ الشرَّ، والله لا يُسأَل عما يفعل.

* الرابعة: روى البيهقيُّ عن الشافعيّ أنّه قَالَ حينَ سُئِل عن القَدَرِ:

ما شِئتَ كانَ وإن لم أشأ

وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن

خَلقتَ العبادَ على ما علمتَ

ففي العلمِ يجري الفَتَى والمُسِن

على ذا منَنْتَ وهذا خذلْتَ

وهذا أَعنتَ وذا لم تُعِنْ

فمنهم شَقيٌّ ومنهم سَعيدٌ

وهذا قبيحٌ وهذا حَسَن

هذه الأبياتُ رواهَا عن الشَّافعي الرّبيعُ بنُ سليمانَ رضي الله عنه وهو من رواةِ الإمامِ الشافعي رضي الله عنه، وقد فَسَّرَ الشافعيُّ القَدَرَ في هذه الأبيات بالمشيئةِ، وهو تفسيرٌ من الإمامِ الشافعي للقَدَرِ على وجهِ البَسطِ والتَّوسُّعِ، وحاصلُهُ أن الله تبارك وتعالى مُتَّصِفٌ بمشيئةٍ أزليةٍ أبديّةٍ لا تتغيّر كسائرِ صفاتِهِ، لا يطرأُ عليها الزّيادةُ والنُّقصانُ، وَجَعَلَ للعبادِ مشيئةً حادثةً تقبلُ التغيّرَ.

يقولُ الشافعيُّ رضي الله عنه مخاطبًا لله تبارك وتعالى: “ما شئتَ”، أي يا ربَّنا “كان” أي ما سبقت به مشيئتكَ في الأزلِ لا بدَّ أن يوجدَ “وإن لم أشأ” أي وإن لم أشأ أنا أي أنا العبدُ حصولَهُ، لأنَّ مشيئةَ الله نافذةٌ لا تتغيّرُ، والمعنَى أن مشيئةَ العبدِ تابعةٌ لمشيئةِ الله فهي مخلوقةٌ حادثةٌ، فكلُّ مشيئةٍ في العبادِ حَصَلت فإنما حَصَلت فينا لأن الله تعالى شاءَ في الأزلِ أن نشاءَ فتنفَّذَت مشيئةُ الله تعالى فينا أن نشاءَ، ثم مرادُنا الذي تَعَلَّقت به مشيئتُنَا لا يحصُلُ إلا أن يشاءَ الله حصولَ هذا المراد وتحقُّقَهُ.

فمشيئةُ الله نافذةٌ لا محالةَ لأنه لو كانَ لا يتحقَّقُ شىءٌ من مُرَادَاتِ الله تعالى أي مما شاءَ الله تعالى أن يتحقَّقَ ويحصلَ لكان ذلك عجزًا والعجزُ مستحيلٌ على الله، لأن من شأنِ الإله أن تكونَ مشيئتُهُ نافذةً في كلّ المراداتِ، من خصائصِ الإله أن تكونَ مشيئتُهُ نافذةً لا تَتَخَلَّفُ، أي لا بدَّ أن يحصلَ ما شاءَ الله دخولَهُ في الوجود، فيجبُ عقلًا وشرعًا نفاذُ مشيئةِ الله تبارك وتعالى أي تحقُّقُ مقتضاها.

قالَ رضي الله عنه:” وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن” معناه إن أنا شئتُ حصولَ شىءٍ بمشيئتي الحادِثَةِ إن أنت يا ربّي لم تشأ حصولَهُ بمشيئتِكَ الأزلية لا يحصل، لأن مشيئةَ الله أزليّةٌ نافذةٌ لا تَتَخَلَّفُ وأما مشيئةُ العبدِ فحادثةٌ، منها ما هو نافذٌ ومنها ما هو غير نافذٍ أي منها ما يتحقَّقُ ومنها ما لا يتحقَّقُ.

ومعنى قوله رضي الله عنه: “خلقتَ العبادَ على ما علمتَ”، معناهُ أن الله تبارك وتعالى يبرزُ عبادَهُ من العدمِ إلى الوجودِ على حسبِ ما سَبَقَ في علمِهِ الأزليّ لا على خلافِ علمه الأزليّ، لأن تَخَلُّفَ العلمِ في حقّ الله تعالى مستحيلٌ يجبُ تنزيهُ الله عنه.

وقوله رضي الله عنه: “ففي العلمِ يجري الفتى والمُسنّ”، في هذا الكلام حكمةٌ كبيرةٌ، أي أن سَعيَ الفتى أي الشَّابّ والمُسنّ أي العجوز كلٌّ سعيُهُ في علمِ الله تبارك وتعالى أي لا يخرُجُ عن علمِ الله، هذا الفتى الذي هو ذو قوّةٍ ونشاطٍ، وهذا المُسنُّ الذي هو ذو عجزٍ وضعفٍ كلٌّ منهما لا يحصلُ شىءٌ منه من الحركاتِ والسَّكناتِ والنَّوايا والقصودِ والإدراكاتِ إلا على حَسَبِ علمِ الله الأزليّ، كلٌّ منهما في العلمِ يجريانِ أي يتقلَّبَانِ على حسبِ مشيئةِ الله الأزليّةِ، ويعملانِ على حسبِ علمِ الله الأزليّ ويتصرّفانِ ويسعيانِ على حسبِ علمِ الله الأزليّ.

قال رضي الله عنه: “على ذا مَنَنتَ وهذا خَذَلت” أي هذا مَنَنتَ عليهِ أي وَفَّقتَهُ للإيمانِ والهُدَى والصَّلاحِ وعُلوّ القدرِ في الإيمانِ، ومعنى توفيق الله لعبدِهِ أي يجعلهُ يصرفُ قدرتهُ واختيارهُ إلى الخيرِ، ومعنى: “وهذا خذلتَ”، أي وهذا ما وَفَّقتَهُ فلم يهتد للحقّ ولم يقبَل الحَقَّ، ومعنى خذلان الله لعبدِهِ أي يجعلهُ يصرفُ قدرتهُ واختيارهُ للشَّرّ.

قال رضي الله عنه: “وهذا أعنتَ وذا لم تُعِن”، أي هذا أعنتَهُ على الأعمالِ التي ترضيكَ، والآخرُ ما أعنتَهُ على ما يرضيكَ.

وليس معنى قول الشافعي: “وهذا أعنتَ وذا لم تُعِن” أن الله لا يعينُ على الشَّر وإنما يعينُ على الخيرِ فقط، فأهلُ السنة متفقونَ على أن الله هو المعينُ على الخيرِ وهو المعينُ على الشر، والإعانةُ التمكينُ أي أن الله هو الذي يُمَكّنُ العبدَ لفعلِ الخيرِ وهو الذي يمكّنهُ لفعلِ الشَّر، صرحَ بذلك إمامُ الحرمين وأبو سعيد المتولي قبلَهُ والشيخُ محمدُ الباقر النقشبنديّ والأميرُ الكبيرُ المالكيُّ صاحب المجموع وقد جَهِلَ هذا الاعتقادَ الحقَّ الضروريَّ بعضُ جهلةِ النقشبنديةِ في هذا العصرِ.

قال رضي الله عنه: “فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيدٌ، وهذا قبيحٌ وهذا حَسَن”. المعنى أن مَن شاءَ الله له أن يكونَ شقيًّا أي من أهلِ العذابِ الأليمِ كان كذلك، ومن شاءَ الله له أن يكونَ سعيدًا من أهلِ النّعيمِ المقيمِ كان كذلك.

وليُعلَم أن كتابَ الشَّقَاءِ والسَّعادةِ ثابتٌ لا يُغَيَّرُ ولا يدخلُهُ التَّعليقُ وإنما الذي يُغَيَّرُ ما كانَ من نحو الرّزقِ والمصيبةِ.

فالدّعاءُ ينفعُ في الأشياءِ التي هي مما سوى السّعادةِ والشقاوةِ، لأن السعادةَ والشقاوةَ هذا شىءٌ لا يدخلهُ التعليقُ لأن السعادةَ هي الموت على الإيمانِ والشقاوةَ هي الموت على الكفر، فمن عَلِمَ الله أنه يموتُ على الإيمانِ لا يتبدَّلُ ذلكَ، ومن عَلمهُ يموتُ على الكفر لا يتبدلُ ذلك. فكلا الفريقين يُختم له على ما كتب له ولو سبق له التنقل من إيمانٍ إلى كفرٍ أو من كفرٍ إلى إيمانٍ مرات عديدة.

أما السعادةُ الدّنيويّةُ تَتَبَدَّلُ وقد يدخلُهَا التَّعليقُ بأن يكونَ كُتِبَ في صحفِ الملائكةِ إن دَعَا بكذا أو تصدَّقَ بكذا أو وَصَلَ رَحِمَهُ أو برَّ والديهِ يَنَالُ كذا وإن لم يفعل ذلك لا ينالُ ذلكَ الشىء. السعادةُ الدنيويةُ هي كالبيتِ الواسِعِ والمركَبِ الهنيء والزوجةِ الصالحةِ والجارِ الصَّالحِ، هذه الأمورُ الأربعةُ هي من السّعادةِ الدنيويةِ كما جاءَ ذلكَ في الحديثِ الذي رواه الحافظ ضياءُ الدين المقدسيُّ.

فتبيّنَ بهذا أنَّ الضّميرَ في قولِه تعالى: يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء {93} [سورة النحل] يعودُ إلى الله لا إلى العبد كما زعمت القَدريّةُ بدليلِ قولِه تعالى إخبارًا عن سيّدنا موسى: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء {155} [سورة الأعراف] ومعنى الآية أن موسى عليه السلام لما ذَهَبَ لميقاتِ ربّه أي لمناجاة الله أي لسماعِ كلامِ الله الأزلي خَلَّفَ على قومِهِ أخاهُ هارونَ وكان نبيًّا، ثم قَضَى أربعينَ ليلةً ثم عادَ إليهم فوجدَهم قد عبدوا العجل إلا بعضًا منهم وذلك بعد أن اجتازَ بهم البحرَ ورأوا هذه المعجزةَ الكبيرةَ وهي انفلاقُ البحرِ اثني عشر فرقًا كل فرقٍ كالجبلِ العظيم وأنقذَهُم من فرعونَ، فتنهم شخصٌ يُقالُ له موسى السَّامري فقد صاغَ لهم عجلًا من ذهبٍ ووضعَ فيه شيئًا من أَثَرِ حافرِ فرسِ جبريلَ، لأنه عندما أرادَ فرعون أن يَخوضَ البحرَ كانَ جبريلُ على فرسٍ، هذا الخبيث رأى موقفَ فرس جبريل فأخذَ منه شيئًا ووضعَهُ في هذا العجلِ المصوَّرِ من ذهبٍ فأحيا الله تعالى هذا العجلَ فصارَ يخورُ كالعجلِ الحقيقي خلقَ الله فيه الحياةَ، فقال لهم السّامريُّ: هذا إلهكم وإلهُ موسى، حملهم على عبادةِ هذا العجل فَفُتنوا فعبدوا هذا العجلَ، فلما أُخبِرَ سيدنا موسى بذلك اغتاظَ على هؤلاءِ اغتياظًا شديدًا، ثم أخذَ هذا السّامري فقالَ له سيدنا موسى: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا {97} [سورة طه].

ثم اختارَ موسى وجرّدَ من قومِهِ سبعينَ شخصًا ليأخذَهم للتّضرّعِ إلى الله تعالى فأخذتهم الرَّجفةُ أي اهتزَّت بهم الأرضُ، فقال موسى متضرّعًا إلى الله: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ {155} وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ {156} [سورة الأعراف].

 

معناهُ هذا الأمر الذي حَدَثَ بقومي من عبادتهم العجلَ فِتْنتُكَ أي امتحانٌ وابتلاءٌ منكَ، تُضلُّ بها من تشاءُ وتهدي من تشاءُ أي يا ربّي أضللتَ بها قِسمًا وهديتَ قسمًا.

وقد ضلَّ عن معنى هذه الآية أناس يدّعون العلم فقالوا في قوله تعالى كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء {31} [سورة المدثر] أي إن شاء العبد الضلالة يضله الله، لأنهم يعتقدون أن الله ما شاء ضلالة من ضل إنما هم شاءوا والله شاء لهم الهداية، فجعلوا مشيئة الله مغلوبة حيث إنها لم تتنفذ على قولهم ومشيئة العبد جعلوها نافذة فجعلوا الله مغلوبًا، والله غالب غير مغلوب. وعقيدتهم هذه تنقيص لله تعالى فليعلموا ذلك.

ومن هؤلاء في هذا العصر فرقة نبغت في دمشق وهم جماعة أمين شيخو، كان لا يحسن العربية ولا علم الدين انتسب للطريقة النقشبندية على يد شيخ صالح ولم يسبق له تعلم علم العقيدة ولا الأحكام إنما كان شرطيًّا أيام الاحتلال الفرنسي فتبعه أناس جهال لم يتلقوا علم الدين وإن كان بعضهم تلقى العلوم العصرية فضلوا وأضلوا، منهم رجل يقال له عبد الهادي الباني ومنهم رجل من ءال الخطيب عمل تفسيرًا فصار يفسر بعض ءايات المشيئة بهذا الاعتقاد الفاسد.

رِسَالَةٌ مُهِمَّةٌ في الرّدِ عَلى المعتَزِلَةِ

روى البيهقيُّ عن سيّدنا الحسين بن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنهما أنّه قال: والله ما قالت القدريّةُ بقولِ الله ولا بقولِ الملائكةِ ولا بقول النبيّينَ ولا بقولِ أهلِ الجنّةِ ولا بقولِ أهلِ النّارِ ولا بقولِ صاحبِهِم إبليس، فقالَ الناس: تُفسّرُهُ لنا يا ابن رسولِ الله، فقال: “قال الله عزَّ وجلَّ: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء {25} [سورة يونس]”. فالمعتزلةُ خالفوا الله تعالى في قولهِ هذا لأنّهم قالوا والعياذُ بالله العبدُ خَلقَ الحسنات وعملَها فصارَ فرضًا على الله أن يدخلَهُ الجنّةَ، وليس إدخاله للعبادِ الجنّة فضلًا منه، معناهُ على زعمهم أنَّ الله مديونٌ للعبادِ لأنّهم خلقوا هذه الحسنات فهو ملزمٌ بأن يدخلهم الجنّةَ، والصوابُ أن الله تعالى فضلًا منه يُدخلُ المؤمنينَ الجنةَ لأنّه هو الذي خَلقَهم وهو الذي ألهمَهُم أعمالَ الخيرِ وهو الذي خلقَ فيهم هذه الجوارحَ وهو الذي خلقَ فيهم العقلَ الذي ميّزوا به بين الحقّ والباطلِ والحسنِ والقبيحِ، وهو الذي خلقَ هذه الجنّةَ، فإدخالُ الصّالحينَ الجنّةَ ليس فرضًا على الله، ليسوا ممتنينَ على الله بل هو الممتنُّ عليهم، هذا معنى كلام سيّدنا الحسين رضي الله عنه، كذلك الله تبارك وتعالى لمّا قالَ وَيَهْدِي مَن يَشَاء {25}  أفهَمَنَا أنّه لا يهتدي أحدٌ إلا بمشيئتِهِ الأزليّةِ، والمعتزلةُ ينفونَ عن الله الصّفَات، عندهم الله تعالى لا يُقالُ لهُ إرادةٌ له علمٌ له سمعٌ له بصرٌ له كلامٌ، وإنّما يقولونَ هو قادرٌ بذاتِهِ عالمٌ بذاتِهِ وأحيانًا يقولون عالمٌ لذاتِهِ قادر لذاته لا بعلمٍ وقدرةٍ، خالفوا الآية بأكثر من وجهٍ كما قالَ سيّدنا الحسين رضي الله عنه.

وقد خالفت المعتزلة الآية وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {29} [سورة التكوير]، لأنّهم قالوا نحن بإرادتنا نخلقُ المعاصيَ والشُّرورَ، قالوا الله ما له تصرّفٌ في ذلكَ، والله أخبرنا أنَّ العبادَ لا تحصلُ منهم مشيئةٌ إلا أن يشاءَ الله في الأزلِ أن يشاؤوا، فالمعتزلةُ خالفوا الآية.

وخالفوا قولَ الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى {6} إِلاَّ مَا شَاء اللهُ {7} [سورة الأعلى]. فهذه الآيةُ أيضًا فيها دليلٌ على أنَّ أعمالَ القلوب من الخَلقِ بمشيئةِ الله، لأنّ الله تعالى أخبرنا عن سيّدنا محمّدٍ أنّه يَنسَى إن شَاءَ الله نسيانَهُ، أمّا ما لم يشإ الله تعالى أن ينسى شيئًا ممَّا أنزل عليه من القرءانِ لا ينسى، ففي قوله: إِلاَّ مَا شَاء اللهُ {7}  دليلٌ على أنَّ القلبَ ما بين إصبعينِ من أصابعِ الرّحمن  كما وَرَدَ في حديثِ أبي هريرة: “إنَّ قلوب بني ءادم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن  كقلبٍ واحدٍ” رواه مسلم، ومعناه هو المتصرّفُ فيها هو يقلّبُها كيف يشاءُ، فما لهؤلاءِ التَّائهينَ بعد أن أخبرنا الله تعالى أنَّ القلوبَ هو يقلّبها يقولونَ إنَّ العبدَ هو يخلقُ أفعالَ نفسِهِ مشيئته وحركاته وسكناته، وأوّلُ من فَتَحَ هذا البابَ ممّن يدّعي الإسلامَ المعتزلةُ فأضلّوا كثيرًا من النّاسِ، كانَ في أيّامِ السَّلفِ أناسٌ بحسبِ الظَّاهِرِ أحوالُهم حسنةٌ طيّبةٌ فَتَنَهم رجلٌ من المعتزلةِ فَضَلّوا.

وأمّا مخالفتُهُم للملائكةِ فقد قالت الملائكةُ: قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا {32} [سورة البقرة]. معناه العلمُ الذي فينا أنتَ تخلقُهُ يا الله، وكذلك سائرُ أعمالنا الباطنيَّة والظّاهريَّة لا تكونُ إلا بمشيئةِ الله وخلقِهِ، أمّا المعتزلةُ قالوا علومُنَا وإدراكاتُنَا نحنُ نخلُقُهَا.

وأمّا مخالفَتهم للنَّبيّينَ فقد قالَ النَّبيّونَ: وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا {89} [سورة الأعراف] بعضُ أنبياءِ الله تعالى قالَ في مقامِ التَّبرُّىءِ من المشركينَ وأعمالِهم نحنُ ليسَ لنا أن نعودَ في مِلَّتِكُم، معناهُ نحنُ أنقذَنا الله من أن نكونَ في مِلّتِكم، أي حَمَانا الله من أن نَدخُلَ فيها ونعتقدَها كما أنتم تعتقدُونَها، إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ {89}  معناهُ أمّا لو شاءَ الله تعالى في الأزلِ أن نَتَّبِعَكم لَتَبِعنَاكُم، لكن ما شاءَ ذلك فلا نتبعكم.

وقالَ تعالى حكايةً عن نوح عليه السَّلامُ: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ {34}  [سورة هود] هنا نوحٌ أثبتَ لله تبارك وتعالى المشيئةَ لأعمالِ العبادِ خيرِها وشَرّها، أي أنَّ الطَّاعات من عبادِهِ تحصلُ بمشيئتِهِ وأنَّ معاصيهم تحصلُ بمشيئتِهِ.

وأمّا مخالفتُهم لأهلِ الجَنَّةِ فأهلُ الجنّةِ قالوا: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ {43} [سورة الأعراف]. اعترفوا بأنَّ هذه الأعمال الصَّالحة التي استحقّوا بها هذا النّعيمَ المقيمَ ليس إلا بمشيئةِ الله وخلقِهِ فيهم، ولولا أنّ الله خَلَقَ فيهم ذلك ما دخلوا هذه الجنّةَ ولا نالوا هذا النَّعيمَ. المعتزلةُ خالفت فقالت نحنُ خَلَقنَا إيمانَنَا وأعمالَنَا الصَّالحة فلذلكَ صارَ على الله فرضًا لازمًا أن يُثيبَنَا.

وأمّا مخالفَتُهم لأهلِ النَّارِ فقد قالَ أهلُ النَّارِ: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا {106} [سورة المؤمنون].

هذا الكلامُ أيضًا فيه اعترافٌ ضمنِيٌّ بأنَّ الله تبارك وتعالى شَاءَ وخَلَقَ فيهم الضَّلالَ الذي استحقّوا به هذه النَّار.

وأمّا مخالفَتُهُم لإبليس فقد قالَ أخوهم إبليسُ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} [سورة الأعراف]، فمعنى كلام إبليس يا ربّ لأنَّك أغويتَني أي كتبتَ عليَّ الغَوايةَ أي أن أضلَّ باختياري ضَلَلتُ، أنا أقعدُ لبني ءادمَ صراطكَ المستقيمَ أي لأخرِجَهُم وأُبعِدَهم منه، هذا إبليس صارَ أفقهَ من المعتزلةِ لأنَّه عَرَفَ أنَّ الله هو خالقُ الغَوايةِ والضَّلالةِ فيمن ضلّوا من عبادِ الله، وأنّهم ليسوا مستقلّينَ عن مشيئةِ الله وتخليقِهِ أي لا يعملونَ شيئًا من غيرِ أن تسبِقَ مشيئةٌ من الله في الأزلِ في ذلكَ الذي يحصلُ منهم.

ومثلُ هذا الكلام رواهُ البيهقيُّ عن سفيانَ بن عيينةَ الذي هو من الأئمَّةِ المجتهدينَ الذين أخذَ الشَّافعيُّ وغيرُهُ عنهم أحاديث نبويّةً بالأسانيدِ لأنّه كان محدثًا أكبرَ سنًّا من الشَّافعيّ.