الخميس نوفمبر 21, 2024

الدرس الرابع والثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم

بيان بر الوالدين وخطر عقوقهما

درس ألقاهُ المحدث الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى وهو في بيان بر الوالدين وخطر عقوقهما. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله رب العالمين له النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وحبيب رب العالمين.

أما بعد فإنّ من معاصي البدن التي هي من الكبائر أي من المعاصي التي لا تَلْزَمُ جارحةً من الجوارح عقوق الوالدين أو أحدِهما وإن علا ولو مع وجود أقربَ منه، قال بعض الشافعية في ضبطه هو ما يتأذَّى به الوالدان أو أحدُهما تأذِّيًا ليس بالهيّن في العرف.

ومن عقوق الوالدين الذي هو من الكبائر تركُ الشخص النفقةَ الواجبةَ عليهما إن كانا فقيرين، أما إن كانا مكتفيين فلا يجب الإنفاق عليهما، لكن ينفق عليهما من باب البر والإحسان إليهما، فيُسَنُّ له أن يعطيَهما ما يحبانه، بل يسن أن يطيعَهما في كل شيء إلا في معصية الله، حتى في المكروهات، إذا أطاع أبويه يكون له ذلك رفعة درجة عند الله إن نوى نية حسنة. قال الفقهاء إذا أمر أحدُ الوالدين الولدَ أن يأكل طعامًا فيه شبهة أي ليس حرامًا مؤكدًا يأكلُ لأجل خاطرهما ثم من غير علمهما يتقايؤه اهـ وقالوا إذا أمر أحد الوالدين ولده بفعل مباح أو تركه وكان يغتمُّ قلب الوالد أو الوالدة إن خالفهما يجب عليه أن يطيعَهما في ذلك اهـ.

ومن بر الوالدين أن يَبَرَّ مَنْ كان أبوه يحبه بعد وفاة أبيه بالزيارة والإحسان، كذلك من كانت تحبه أمُّهُ بعد وفاتها، أي أن يصِلهم ويحسنَ إليهم ويزورَهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِن أبَرِّ البِرّ أن يبَرَّ الرجلُ أهلَ وُدّ أبيهِ بعد أن يُوَلّي([1]) اهـ أي بعد أن يموت. ومن بِرّ الوالدين زيارتُهما بعد موتهما.

ومن أرادَ أن يكون بارًّا فعليه أن يطيعَهما في كل المباحات أو أغلبها. قال أهل العلم يُشرَعُ أن يطيع الولد والديه في المباح والمكروه، لكن لا يجب طاعتهما في كل مباح بل يجب أن يطيعَهما في كل ما في تركه يحصل لهما غم بسببه وإلا لا يكون واجبًا، فإذا طلب أحدُ الوالدين من الولد أن لا يسافرَ وكان سفرُه بلا ضرورة وجب عليه ترك ذلك السفر إذا كان يغتمّ بسفره. وإذا أراد الأب أو الأم منعَ ولدِهما من الخروج من البيت بدون إذنه فإن كان خروجه يُسَبِّبُ للأب غمًّا شديدًا بحيث يحصل له انهيارٌ أو شبهُ ذلك عندئذ لا يجوز له الخروجُ بدون إذنه بل يكون خروجه من الكبائر لأنَّ الأذى الذي يحصل شديدٌ فدرجةُ المعصية في ذلك على حسب الإيذاء الذي يحصل للوالد.

وإذا طلب الأب أو الأم من ابنه شيئًا مباحًا كغسل الصحون أو ترتيب الغرفة أو تسخين الطعام أو عمل الشاي أو ما أشبه ذلك ولم يفعل فإن كان يغتمُّ قلب الوالد أو الوالدة إن لم يفعل حرامٌ عليه أن لا يفعل.

قال الله تعالى في سورة الإسراء: ﴿وقَضَى ربُّكَ ألَّا تَعبُدُوا إلا إيَّاهُ وبِالوالِدَينِ إحسانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أحدُهُما أوْ كِلاهُما فلا تَقُل لَّهُما أفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُل لَّهُما قولاً كريمًا* واخْفِضْ لهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرحمةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُما كما رَبَّياني صغيرًا.

أمرَ الله عباده أمرًا مقطوعًا به بأن لا يعبدوا إلا إياه وأمرَ بالإحسان للوالدين، والإحسان هو البر والإكرام، قال ابن عباس لا تنفضْ ثوبَكَ فيصيبَهما الغبار([2]) اهـ وقال عروة لا تمتنع عن شيء أحباه([3]) اهـ.

وقد نهى الله عبادَه في هذه الآية عن قول أفّ للوالدين وهو صوتٌ يدل على التضجر، وأصلها نفخُك الشيءَ الذي يسقط عليك من تراب ورماد والنفخ للمكان تريد إماطة الأذى عنه فقيل لكل مستثقل.

وقوله: ﴿ولا تَنْهَرْهُما معناه لا تزجرهما عمّا يتعاطيانه مما لا يعجبك.

﴿وقُل لَّهُما قولًا كريمًا أي لينًا لطيفًا أحسنَ ما تجد كما يقتضيه حسن الأدب.

﴿واخْفِضْ لهُما جَناحَ الذُّلِّ منَ الرحمةِ أي ألِنْ لهما جانبك متذللاً لهما من فرط رحمتك إياهما وعطفك عليهما ولكبرهما وافتقارهما اليوم إلى مَن كان يفتقر إليهما بالأمس، وخفضُ الجناح عبارةٌ عن السكون وترك التصَعُّب والإباء، أي ارفُقْ بهما ولا تغلظ عليهما. ﴿وقُل ربِّ ارْحَمْهُما كما ربَّياني صغيرًا أي مثل رحمتهما إياي في صغري حين ربياني ولا تكتفِ برحمتك عليهما التي لا بقاء لها.

وروى الحاكم([4]) والطبرانيُّ([5]) والبيهقيُّ([6]) في شعبه مرفوعًا رضا الله في رضا الوالدين وسخَطه في سَخَطهما اهـ وعن بهزِ بنِ حكيمٍ عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال قلت يا رسول الله من أبَرُّ قال أمَّكَ قلتُ ثم من قال أمَّك قلت ثم من قال أمَّك قلت ثم من قال أباك ثم الأقرب فالأقرب اهـ أخرجه أبو داود([7]) والترمذي([8]) وحسنه.

فيُفهم من هذا الحديث تقديمُ الأم على الأب في البِرّ، فلو طلبت الأم من ولدها شيئًا وطلب الأب خلافه وكان بحيث لو أطاع أحدهما يُغضِبُ الآخر يقدّم الأمَّ على الأب في هذه الحالة.

وإنما حضَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا على برّ الأم ثلاثًا وعلى بر الأب مرة لعنائها وشفقتها مع ما تقاسيه من حمل وطلق وولادة ورضاعة وسهر ليلٍ. وقد رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يحمل أمَّه على ظهره وهو يطوف بها حول الكعبة فقال يا ابن عمر أتراني وفيتها حقها قال ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن قد أحسنتَ واللهُ يثيبك على القليل كثيرًا اهـ.

وقد قال العلماء بوجوب الاستغفار للأبوين المسلمين في العمر مرةً ثم الزيادة على ذلك قربة عظيمة، وليس شرطًا أن يكون هذا الاستغفار بعد وفاتهما. لكن الولدُ إن استغفر لوالديه بعد موتهما ينتفع والداه بهذا الاستغفار حتى إنهما يلحقهما ثوابٌ كبيرٌ فيعجبان من أيّ شيءٍ جاءهما هذا الثوابُ فيقول لهما الملَك هذا من استغفار ولدِكما لكما بعدكما.

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاثة لا يدخلونَ الجنةَ العاقّ لوالديه والديوث ورَجُلةُ النساء اهـ رواه ابن حبان أي لا يدخل هؤلاء الثلاثةُ الجنةَ مع الأولين إن لم يتوبوا وأما إن تابوا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له([9]) اهـ رواه ابن ماجه. والديوثُ هو الذي يعرف الزنى في أهله ويسكت عليه مع مقدرته على منعهم ورَجُلَةُ النساء هي التي تَتشَبَّهُ بالرجال.

وأخرج البخاريُّ ومسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مِن الكبائر شتمُ الرجلِ والديه قيل وهل يسب الرجل والديه قال نعم يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ الرجلُ أباه ويسبُّ أمَّه فيسبُّ أمه([10]) اهـ.

وروى الحاكم بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه([11]) اهـ يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة.

وقال عليه الصلاة والسلام: ثلاث دعوات مستجابات لا شكَّ فيهن دعوةُ المظلوم ودعوةُ المسافر ودعوةُ الوالد على ولده([12]) اهـ رواه الترمذيُّ وأبو داود وابن ماجه وأحمد. أي إن دعا عليه بحقّ أما إن دعا عليه بغير حق فلا يضر ذلك.

فمن أراد النجاح والفلاحَ فليبرَّ أبويه تكُن عاقبتُه حميدةً فبِرُّ الوالدين بركةٌ في الدنيا والآخرة. وءاخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

انتهى والله تعالى أعلم.

 

[1])) رواه مسلم في صحيحه باب صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما.

[2])) انظر: زاد المسير في علم التفسير.

[3])) انظر: زاد المسير في علم التفسير.

[4])) رواه الحاكم في المستدرك باب كِتاب البِرّ والصلةِ.

[5])) رواه الطبراني في المعجم الكبير باب عبد الله بن عمرو بن العاصِ.

[6])) رواه البيهقي في شعب الإيمان باب بر الوالدين.

[7])) رواه أبو داود في سننه بابٌ في بِرّ الوالدَين.

[8])) رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في بر الوالدين.

[9])) رواه ابن ماجه في سننه باب التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

[10])) رواه البخاري في صحيحه بابٌ لا يَسُبُّ الرجلُ والِدَيهِ ورواه مسلم في صحيحه باب بيان الكبائر وأكبرها.

[11])) رواه الحاكم في المستدرك باب كتاب البِرّ والصلةِ.

[12])) رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في دعوة الوالدين ورواه أبو داود في سننه بابُ الدُّعاءِ بظَهرِ الغيبِ ورواه ابن ماجه في سننه بابُ دعوةِ الوالدِ ودعوةِ المظلومِ ورواه أحمد في مسنده باب مسند أبي هريرة رضي الله عنه.