الثلاثاء يونيو 25, 2024

الدرس الثالث عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

بيان الجزاء على الأعمال الصالحة في الدنيا وفي الآخرة

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الموافق لسنة سبع وسبعين وتسعمائة وألف ر وهو في بيان أن الجزاء على الأعمال الصالحة قد يكون أحيانًا في الدنيا. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وصحبه الأكرمين.

أما بعدُ فإنّ الشفاعة في الآخرة خاصة بالمؤمنين لا تنالُ الكافرَ. وقد دلَّ القرءان الكريم على أنّ الكفار لا يشفَعُ لهم أحدٌ من ملائكة الله ولا من غيرهم وهو قوله تعالى: ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى﴾([1]) فمن زعم أنَّ نبيًّا من أنبياء الله يشفعُ لكافر إنْ كان أباه أو ابنَهُ فقد ردَّ كتابَ الله وكذّب القرءانَ وكذلك مَن اعتقدَ أنَّ الكافر يرحمُهُ اللهُ تعالى يومَ القيامة فقد كذَّبَ القرءان وخرج من الإسلام لأنَّ الله تعالى أخبرنا أنَّ رحمتَهُ في الآخرة خاصةٌ بالمؤمنينَ قال تعالى: ﴿ورَحْمَتي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ فسَأكْتُبُها للذينَ يَتَّقُونَ﴾([2]) ورحمتي وسعت كلَّ شيء أي في الدنيا فسأكتبها للذين يتقون أي يتجنبون الشركَ أي جميعَ أنواع الكفر، فمِن هنا عَلِمْنا أنّ الله تبارك وتعالى لا يرحمُ الكافرَ يومَ القيامة إنما يرحمُهُ في الدنيا. لا يجوزُ لقائل أنْ يتمسَّك بالجزء الأول من هذه الآية وهو قوله تعالى: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كلَّ شيءٍ﴾ ويَظُنَّ أن ذلك شاملٌ للدنيا والآخرة إنما رحمةُ اللهِ تَعُمُّ وتشمَلُ المؤمنَ والكافرَ في هذه الدنيا فقط أما في الآخرة فلا يرحمُهُم.

وهناكَ أيضًا دليلٌ قرءانيٌّ وهو قوله تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَن يشآءُ ويَرْحَمُ مَن يشآءُ﴾([3]) هنا أيضًا عَلِمْنا أنَّ الله تعالى لا يرحمُ كلَّ إنسانٍ في الآخرةِ فالذي يعتقدُ أو يقولُ بلسانِهِ إنَّ الله تعالى يرحم هؤلاء الكفار في الآخرة إما بشفاعة نبيّ من الأنبياء أو بالحسنات التي كان يعملُها مع الناس في هذه الدنيا كصلة الرحم وإعتاق الرقبة وإطعام المسكين والعطف والشفقة على خلق الله تعالى فإنه يخرج من الإسلام. إذا حصل من الكفار في هذه الدنيا حسناتٌ فإنهم يُجَازَونَ في هذه الدنيا بالصحة والرزق ونحوِ ذلك أما في الآخرةِ فلا يجازيهم الله بشيء مما عملوه من الحسنات في الدنيا، أما المؤمن فإن الله تباركَ وتعالى إما أنْ يُطْعِمَهُ بحسناته التي يعملُها في هذه الدنيا ويُثيبَهُ في الآخرة في الدرجات العُلا في النعيم الـمُقيمِ الذي لا يزولُ ولا يفْنَى وهو نعيمُ الجنة وإما أنْ لا يُطْعِمَهُ بحسناته في الدنيا بل يؤخّرَ له جزاءَهُ وافرًا إلى يوم القيامة. كثيرٌ من المؤمنين يعملون الحسناتِ يَصِلُونَ الرحمَ في هذه الدنيا ويُحسنونَ إلى الفقراء والمنكوبين ومع ذلك في هذه الدنيا لا يزداد رزقُهُم ولا يتوسَّعُ رزقُهم عمّا كانَ فهؤلاء أخَّرَ اللهُ تعالى جزاءَهُم إلى الآخرةِ ومِن المؤمنين مَنْ يُجازيهم اللهُ تعالى في الدنيا وفي الآخرة، بعضُ الناس عندما يكونون محسنينَ يَصِلُونَ أرحامَهُم بمالهم ويعطفون على الفقراء ويُشفِقون ويرحمون المنكوبين منهم مَن يزداد رِزقًا في هذه الدنيا ويرجو رحمة الله تعالى في الدرجات العُلا في الآخرة ومنهم مَن لا يزداد رزقُهم في هذه الدنيا مهما عَملوا من الإحسان إلى الناس، لا يَقُل المسلمُ أنا عَمِلْتُ كذا أحسنتُ إلى الناسِ ووصَلْتُ أرحامي وأحسنتُ إلى المنكوبين فما زادَ رِزقي وما عوَّضَني اللهُ تعالى بذلك شيئًا من الرزق في الدنيا لا يقل، الذي يقولُ هذا يكون علامةَ الحِرمانِ ليُحْسِنْ ظنَّهُ بربِّهِ يقول لعلَّ ربي أخَّرَ لي جزائي إلى الآخرة، الآخرةُ هيَ دارُ القرارِ إنْ وسَّعَ عليَّ هنا بما عملتُ من الإحسان إلى عباده وإن لم يُوسِّعْ عليَّ فأنا أرجو رحمةَ اللهِ والدرجاتِ العُلا في الآخرةِ هذا الذي يليق بالمسلم لأنَّ كثيرين من الناس يعملون معروفًا مع الناس يُحسنون ويتصدقونَ على الفقراء ثم ينتظرون فينْظُرُونَ هل زادَ رِزْقُهُم فإنْ وجدوا رزقَهم لم يزْدَدْ يتشاءمُون يقولون ماذا نفَعَنا هذا الإحسانُ الذي أحسنَّاهُ إلى الفقراء وزَّعْنا وأحْسَنَّا فماذا حصل لنا من ذلك فهذا رزقُنا لم يَزِدْ بل نقصَ هؤلاءِ يُخشَى عليهم أن تسوءَ حالتُهم فيموتوا على حالةٍ سيئةٍ إما الكفر وإما ما دون ذلك. فينبغي على المؤمنِ أن لا يُعَلّق قلبه إذا أحسنَ للفقراء والمساكين وعمِلَ مبرَّاتٍ وخِدمةً لمساجد الله ونحو ذلك أن لا يعلق قلبه بأنْ يعُودَ له جزاءٌ في هذه الدنيا بتوسعة رزقه على ما كان عنده من النعم، هذا لا ينبغي بل ليقلْ عملتُ هذا لوجه اللهِ اللهُ يفعلُ بي ما يريدُ وأرجو أن أكون مِمَّنْ أخَّر اللهُ تعالى لهم جزاءهم إلى الآخرة لعلّي أنا من الذين أخَّر لهم جزاءَ إحسانِهم إلى خلقِ اللهِ تعالى إلى الآخرةِ حتى يُوَفّيَنِيهِ يومَ القيامةِ كاملاً أما إذا علق قلبه بأنه ينال جزاءَه في هذه الدنيا يُخشَى عليه من فساد الاعتقاد فيرجع القَهْقَرى والعياذ بالله تعالى.

بعضُ الناس يندفعون بُرهةً من الزمن، يندفعون إلى عمل البر والإحسان مع الناس ثم إذا بهم بعد مدة بعد زمان انقلبوا فصاروا يائسين وإذا بهم قد تغيرت عقائدُهم كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في أشدّ البؤس في زمن الرسول ثم بعدَ أن تُوُفِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرَ اللهُ تعالى لهم أرزاقَهم فصار عندهم غِنًى كبيرٌ ومنهم مَن مات ولم يوجد له ما يكفيه لِتَكْفينِه ولعله عند الله من أهل الدرجات العُلا.

الذي يفهم قدرَ الآخرةِ لا يُبالي إنْ توسَّعَ عليه رزقُهُ في هذه الدنيا أو لم يتَوَسَّعْ لا يُبالي لأنه يبتغي وجهَ اللهِ فالمؤمن يعلم يقينًا أنَّ الله لا يُخلِفُ الميعادَ وأنه غنيٌّ واجِدٌ لا يُعْوِزُهُ شيء وأنَّ خزائنَهُ مَلْأَى لا ينقُصُها الرزقُ الذي يُفيضُهُ اللهُ على عباده الليلَ والنهارَ هذا لا ينقُصُ خزائن الله تعالى لذلك مَن قَوِيَ يقينُهُ بالله تعالى لا يُبالي مهما أنفق في وجوه الخير ومهما عمِل من الـمَبرَّاتِ لوجه الله تعالى لا يُبالي يَعلَمُ يقينًا أنَّ الله تعالى لا يُخلِفُ الميعادَ يقول إنْ خَتم اللهُ تعالى لي بالحُسْنَى وحَفِظَني من الكفر والشرك وخرجتُ من هذه الدنيا سالمًا فإني ألقَى جزائي عند الله تعالى الذي هو خيرُ مَن أعْطَى الذي هو يُجازي بالكثير على عملٍ قليلٍ، إنما الذي يُعامِلُ الإنسانَ ويُعلِّقُ قلبه بانتظار الجزاء من الإنسان هذا قد لا ينال من هذا الإنسان مكافأتَهُ على معروفه بالمثل أو بأكثرَ، العبد قد يعجِزُ أما الله تبارك وتعالى لا يَعْجِزُ لكن إنْ أخَّرَ لبعضِ الناسِ جزاءَهم إلى الآخرة كذلك لا يَضيعُ له شيءٌ عند الله وإن عجَّلَ لهم وأخَّرَ لهم ثوابًا في الآخرةِ أيضًا فذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيه مَن يشاء.

مِن أوْلَى وجوه البِرّ صلة الرحم، الرَّحِمُ إذا لم يَزُرْ رَحِمَهُ ولم يُكاتِبْ ولم يبعَثْ رسالةً شفويةً بالسلامِ ولم يُساعِدْ إنْ كانَ رَحِمُهُ بحالةِ الضرورةِ وكان عندهُ فضلٌ من المالِ أي ما يزيدُ على حاجاته فإنه قد عرَّضَ نفسَهُ لعذابِ اللهِ لأنَّ ذلكَ قطعُ رحمٍ، الرسولُ عليه الصلاة والسلام قال: لا يدخلُ الجنةَ قاطِعُ رَحِمٍ([4]) اهـ أي لا يدخُلُ مع الأولينَ وإنْ دخلَ بعد ذلك بإسلامه وإيمانه لكن ذنبه هذا أي قطع الرحم يُؤخِّرُهُ عن دخول الجنة مع الأولين من أهل الجنة.

أهلُ الجنةِ ليسَ كلُّهُم يدخلونَ دفعة واحدة إنما أولُ مَنْ يدخُلُ الجنة رسولُ الله ثم أنبياءُ الله ثم الصُّلَحاءُ من أمةِ محمّد وقِسمٌ من غيرِهم من غير الصلحاء من أمة محمّد ثم الآخرون.

هو أوَّلُ مَنْ يدخلُ من أمة محمّد الجنة بل قبل سائر الأمم فقراءُ المهاجرين أي المؤمنين الذين كانوا من أهل مكة ثم تركوا وطنَهم مكةَ وهاجروا ليُؤازِرُوا رسولَ الله بالمدينة لأن المدينةَ دارُ هجرةٍ فَبِتَكَتُّلِهِمْ في المدينةِ حولَ رسول الله يكونون ءازَرُوا دينَ الله هؤلاء الذين تركوا مكةَ أهلَهم وأموالَهم التي لم يستطيعوا أن يحملوها معهم تركوها رغبةً وحُبًّا بالله ورسوله، هؤلاءِ المهاجرون مَن كان من الفقراءِ منهم هو أولُ مَنْ يدخل الجنة من الأمم من أمم الأنبياء يدخلون الجنة قبل باقي الأولياء بخمسمائة عام أي بتقدير خمسمائة عام باعتبار أيام الدنيا هذه يسبقون غيرهم مثل أهل الصُّفة الذين كانوا يأوُون إلى مسجد رسول الله لم يكن لهم بالمدينة أهلٌ ولا مالٌ كانوا يأوُون إلى المساجد كانوا في الليالي يتَهَجَّدُونَ لربهم وفي النهار واحدٌ منهم يأتي بالماء للمصلين للوضوء ونحوِهِ وللسَّقْيِ سَقْيِ العطشِ ونحو ذلك كانوا يُقاسُونَ مرارَاتِ الفقرِ ويصبرون احتسابًا لله تعالى الذي قال الله تعالى فيهم: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغنياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾([5]) ومنهم أبو هريرة كان أبو هريرة اللهُ تعالى أعطاه من اليقين والصبر على الجوع وغير ذلك لا تُزَعْزِعُهُ الـمَشَقَّاتُ والشدائدُ كان أحيانًا من الجوع يُغْشَى عليه يَدُوخُ يقع على الأرض فيظنه مَن لا عِلمَ له بحاله أنه أصابه الصَّرْعُ يظنه أنه مُصابٌ بداءِ الصَّرعِ لكنه بعد وفاة رسول الله أغناه الله تعالى، وسَّعَ اللهُ تعالى عليه في المعيشة مما فتح اللهُ على المسلمين من أموال الكفار التي اغتنموها ولا سيما أيام عمرَ وعثمانَ بنِ عفانَ لكنَّ قسمًا ءاخَرينَ منهم ماتوا على مِثلِ ما كانوا عليه في زمن الرسول ومنهم مَن كانوا ماتوا في زمن الرسول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلُ مُصعَبِ بنِ عُمَيرٍ، لما كان مع أهله على الشرك والكفر كان مِن أنعم الناس، هو من بيت ثَروةٍ وغِنًى لكنه انخلع من هذا المال حُبًّا في الله ورسوله ورَضِيَ بالفقر وقَنِعَ وتجرَّدَ في طاعةِ الله ورسوله ومات وهو بتلك الحالِ فلم يوجد ما يسَعُهُ لتكفينه لم يوجد له إلا ثوبٌ واحدٌ لا يُغَطّي رأسَهُ وقدَمَيهِ، إنْ غُطِّيَ رأسُهُ بهذا الثوبِ تبدُوا قدماهُ وإن غُطِّيَتْ قدماه بدَا رأسُهُ ظهرَ رأسُهُ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: غَطُّوا رأسَهُ واجعَلوا على رجلَيه إذْخِرًا([6]) اهـ الإذخِرُ هو نَبتٌ طيب الرائحة موجود في الحجاز.

مثلُ هذا، هذا انقطع إلى الله تبارك وتعالى هذا تركَ النعيمَ نعيمَ الدنيا وءاثَرَ الآخرةَ جعل الله جزاءه في الآخرة بالدرجات العُلا التي هُو لها أهلٌ بفضل الله تعالى بما رزقه من اليقين وحُبّ الله ورسوله الحبَّ الكاملَ الذي لا تزعزعه عواصف المشقَّات.

ثم صلة الرحم درجاتٌ منها أن تكون صلته لرحمه بحيث لا يشعُرُ رحمُه بالجفاء أي بحيث لا يشعُرُ رحِمُهُ بأنه جافاه ولو تباعدت الأوقات، إن كانت بحيث لا يشعُرُ بالجفاء فقد حصَلَتِ الصلةُ أما إذا قطع مدةً تُشعِرُ رَحِمَهُ بأنه جفاهُ فهذا ما وصل رحمه. عادة الناس جرت بالصلة بالسلام والزيارة في رمضان وفي الأعياد أليس هكذا وفي أيام الحزن إذا حصل موت لأحد من الرحم، يراعِي هذه الأوقات أكثرَ من غيرها لأن مَنْ ترك الصلة في هذه الأوقات يكون أشعر رحمه بالجفاء لأنه أهمله لأنه لا يبالي به فيكون قد ترك الصلة.

أما رحِمُهُ الذي يكفرُ([7]) فهذا يُعلِمُهُ أنه إنما يَجْفُوهُ لأجل ما فيه من الكفر فإن رجعَ عن غَيِّهِ فذلك الأمر وإن لم يرجع فما عليه إنْ هَجَرَهُ إلى الممات.

وكذلك إن هجره للفسق مما هو دون الكفر كشرب خمر أو قطع صلاة أو أكل الربا أو نحو ذلك إذا أشعره أنه جفاه لذلك وأنه إن تاب يعود لصلته فإن لم يتب ذاك ولم يعد هذا إلى صلته فليس عليه أيضًا عقوبةٌ في الآخرة لأنه جفاه لسبب شرعيّ.

انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

[1])) سورة الأنبياء/الآية 28.

[2])) سورة الأعراف/الآية 156.

[3])) سورة العنكبوت/الآية 21.

[4])) رواه البخاريُّ في صحيحه باب إثم القاطع.

[5])) سورة البقرة/الآية 273.

[6])) رواه النسائي في السنن باب القميص في الكفن.

[7])) أي: رحمه الذي كان مسلمًا ثم ارتدَّ.