الأحد ديسمبر 22, 2024

بيان التقوى وأنواع الصبر

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي النساء فِي بيروت فِي الثلاثين من رجب سنة، سبع وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق الحادي والثلاثين من شهر ءاذار لسنة سبع وثمانين وتسعمائة وألف رومية فِي بيان التقوى وأنواع الصبر. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد له ربّ العالمين وصلاة الله البَّرِ الرحيم والملائكة المقرّبين على سيّدِنا محمّدٍ أشرف المرسلين وعلَى ءاله وجميع إخوانِه من النّبِيّينَ والمرسلين.

أمَّا بعدُ: فقد روينا فِي «صحيح البخاري» أنّ رسول الله r قال: «إنَّ ءالَ أَبِي طالِبٍ لَيسُوا بأوليائِي إنَّمَا وَلِيّي الله وصَالِحُ الـمُؤمِنين»([i]).اهـ. وقال r: «إِنّ أَوْلَى النَّاسِ بِي المتّقُونَ مَن كانوا وحَيثُ كانوا»([ii]).اهـ. معنى الحديث: أنّ أولى الناس برسول الله r هم المتّقون هم الذين يؤدّون الواجبات ويجتنبون المحرمات، هؤلاء المتقون، من كان بهذه الحالة ءَامَنَ بالله ورسوله عرفَ الله ورسولَهُ بقلبِه واعتقدَ اعتقادًا لا يُخَالِجُه شَكٌّ وأدّى الواجبات، ومن جملة الواجبات أن يتعلم علمَ الدين الضرورِيّ ما يَحِلُّ وما يحرم من المأكَلِ والملبَسِ والمشرَب والمالِ، المالُ منه حلالٌ ومنه حرامٌ، هذا كيف يُعرَف؟ بالتّعلُّم من أهلِ المعرفة، يتعلّم من أهل المعرفة الذين تعلّمُوا ممّن قبلَهُم من أهلِ المعرفة إلى أن يتسَلسَل الاتصالُ إلى الصّحابة، الذِي تعلَّمَ علم الدين بهذه الطريقة، تعلّم القدرَ الضروريَّ، ليس شرطًا أن يتوسّع يصير مفتيًا يُعْطِي لهذا جوابَ سؤاله ولهذا ولهذا ولهذا إنّما يكون تعلَّم الضروريّات، من تعلّمَ هذه الضروريّات وعَمِلَ بها، أيْ: أدَّى الواجبات، أيْ: أدّى كلَّ ما تعلَّم أنَّهُ فرضٌ فرضَهُ الله على عبادِه أن يفعَلُوه، وكلَّ ما حرَّم الله تبارك وتعالى عَرَفَ فتجنّبَهُ، هذا الـمُتَّقي ويقال لهم: إن كانوا جمعًا المتّقُون، الرسول r يقول: «إنّ أَولَى الناسِ بِي المتّقون».اهـ. من كان تقيًّا هذا أولى الناس بي، «مَن كانوا» مِن أيّ جِنسٍ كانوا، مِن أيّ أجناسِ الناس كانوا، إن كان تقيًا هذا هو أقرَبُ الناسِ إليَّ مِن حيثُ المعنى، «وأينَ كانوا»، أيْ: فِي أيّ رُكْنٍ كانوا، الذِي يكون بأقصى الشرق أو أقصى الغرب يؤدِّي الواجبات ويجتنب المحرّمات فهو أقربُ إلى الرسول r مِن حيث المعنى من الذي وُلِدَ فِي المدينة المنوّرة وعاشَ فيها إذا لم يكن تقيًّا، الذِي وُلِدَ بالمدينة وعاش فيها إذا لم يكن تقيًّا ذاكَ الذِي بأقصى الشرق أو بأقصى الغرب ويكونُ تقيًّا، أيْ: يُؤدِّي ما افترضَ الله ويجتنب ما حرّم الله أفضلُ عند الرسولِ وعند الله، فالقُربُ الحقيقيُّ مِن رسولِ الله r القربُ النافعُ الذِي تعلُو به الدَّرَجَاتُ هو تقوى الله، ليس النَّسَبَ، لا يكفِي الشخصَ أنه من ذرّيةِ الحسن أو من ذرّية الحسين رَضِيَ الله عنهما، الإنسان مِن أيّ جنسٍ من أجناس الناس كان إذا تعلّم دينَ الله وعرفَ الحلالَ والحرام وعمِلَ كما تعلَّم طبّقَ ما تعلّمَ بالعمل هذا أقربُ إلى الرسول r وأفضَلُ عند الله تعالى مِن ذاك الآخر الذي نَسَبُه حَسَنيّ أو حُسَيْنيّ ولم يفعل ذلك.

ثم إنَّ رسولَ الله r قال حديثًا ينفَعُ مَن عَمِلَ به نفعًا كبيرًا وهو «ليسَ الشّدِيدُ مَن غَلَبَ الناسَ ولكنَّ الشَّدِيدَ مَن غَلَبَ نَفسَه»([iii]).اهـ. هذا الحديث هو خفيف على اللسان لكن العمل به متروكٌ عند أكثر الناس، قليلٌ من يعملُ بهذا الحديث.

«ليسَ الشّدِيدُ مَن غلَبَ الناسَ ولكنَّ الشَّدِيدَ مَن غَلَبَ نَفسَه».

«ليسَ الشّدِيدُ مَن غلَبَ الناسَ ولكنَّ الشَّدِيدَ مَن غَلَبَ نَفسَه».

«ليسَ الشّدِيدُ مَن غلَبَ الناسَ ولكنَّ الشَّدِيدَ مَن غَلَبَ نَفسَه».

الإنسانُ تعلو درجَتُه عِندَ الله بحسب صَبْرِه والصبرُ ثلاثةُ أنواع الصّبرُ عن المحرّمات هذا أشَدُ أنواع الصّبر، والصَّبرُ على الطّاعات، أي: على المواظبة على الصلوات مثلًا بحيثُ لا يشغلُه عن الصلاةِ ولدٌ ولا مالٌ ولا صَدِيق، بعضُ النّاس ينشغلون عن الصلاةِ لأجل الولد، من أجل الأطفال وبعضُهم حتّى لغير الأطفال قد تترك المرأةُ الصّلاةَ حتّى تُرضِيَ أولادَها الذين هم بالغون بتهيئةِ الطعام لهم، تُعَطِل صلاةً أو صلاتين مِن أجلِهم، هذه ناقِصَةٌ عند الله، بعيدةٌ من الله. وكذلك بعضُ النساء من أجل أزواجِهِنَّ يُعَطِّلنَ صلاةً أو صلاتَين أو أكثَر، من أجلِ إرضاء أزواجهنَّ يُعَطِّلنَ صلاةً أو صلاتين، هؤلاء ما صَبَروا على الطاعة، نَقَصَهُم الصّبر على الطّاعة. كذلك بعض النساء وقتَ البرد يتكاسَلنَ عن الصّلاة فتفوتُهُنَّ صلاةٌ أو صلاتان مِن أجل البرد هؤلاء أيضًا ليسُوا من أهل الصَّبر على الطّاعة. الصَّبرُ على الطاعة هو الذِي لا تفوتُه صلاةٌ، أي: لا يتَرُكُها من أجلِ ولد ولا من أجلِ خاطِر الزّوج ولا مِن أجلِ الصّديق أو الصَّديقة، هؤلاء الصّابرون الذين لهم أجرٌ عظيم عند الله تبارك وتعالى. كذلك من هذا النوع الثاني الصَّبرُ على الطاعات أن يَصبِرَ الإنسان فِي أيام الحرّ التِي يشتد فيها العطش والجُوع على الصيام، الذي يَحبِسُ نفسَهُ على الصّيام ولا يأكُلُ ولا يشرب مع مَيلِ نفسِهِ فِي رمضان إلى الأكلِ والشّرب هذا صابرٌ على الطاعة هذا من جُملَةِ الصَّبر على الطاعة، لكن الإنسان إذا شعر من نفسه أنّه ينهار إذا لم يأكل فِي نهار رمضان وجَدَ نفسَهُ مُتْعَبَةً بحيث يخشى الضّرَرَ على نفسه هذا أكلَ أو شرب ليُنقِذ نفسَهُ من الضّرر هذا ليس فيه معصيةٌ وينوِي أنّه يقضِي يومًا ءاخر، أمّا الذِي مِن أجل شهوةِ الطعامِ يُفطِر أو لَذّةِ الشراب لذة الماء، نفسُه تقول له أنتَ عطشَان وهذا الماء اللذيذ العَذب الـمُرْوِي يَفُوتُكَ أثناء الصيام فيُفطِر ويعصِي ربَّهُ هذا تركَ الصَّبرَ على الطّاعة، ويوجد غيرُ هذا. الصّبرُ على الطاعة بابٌ واسِع. هذا النوعُ الثاني من الصّبر. والثالثُ: هو الصبرُ على الـمَكارِهِ والشّدَائِدِ والمصائب، هذا أيضًا شديدٌ لكن ليس كشِدَّةِ الصَّبرِ عن المعاصِي، كَفُّ النّفسِ عن المحرّمات على اختلاف أنواعِها هذا أشدُّ أنواعِ الصَّبر، وهذا أفضل مِن كثير من النوافل، مثلًا إنسانٌ يصلِّي فِي اليوم والليلة مائةَ ركعة تطوُعًا غيرَ الفرض وإنسانٌ ءاخر لا يصلِّي إلَّا الفرض، لا يصلِّي شيئًا من السُّنَّة إلّا الفرض لكنّ هذا كفّ نفسَهُ عن ارتكاب معصيةٍ أو أكثرَ مِن معصيةٍ أما ذاك الذي يصلِّي مائة ركعة كلَّ يوم تطوُّعًا له معاصٍ يقَعُ فيها أيّهُما أفضلُ عند الله؟ هذا الذي يَكُفُّ نفسه عن المعاصِي ولا يصلِّي النّفلَ إلَّا الفرضَ أفضَلُ عند الله، هذا أفضلُ من ذاك الذِي يصلِّي مائةَ ركعة تطوُّعًا غيرَ الفرض ويرتكب معصية أو معصيتين أو ثلاثًا مِن المعاصِي وعلى هذا يُقاس. تركُ معصيةٍ واحدةٍ أفضلُ عند الله من عَمَل ألفِ حسنة، الذي يكُفُّ نفسَه عن معصية مِن معاصي الله تعالى عند الله أعلى درجةً مِن الذي يُواقِعُ المعاصِي ويُكثِرُ النَّوافِل، الأول أفضلُ، ليس بَينَهُ وبين الولاية إلّا مرتَبَةٌ واحدة وهِيَ أن يُكثِرَ من النوافل من نوعٍ من أنواع النّوافل، هذا الذي يتجنّبُ المعاصِي إن كانت المعصية تَركَ فرض أو ارتكابَ محرّم، الذِي يتجنّب هذا ويَكُفُّ نفسَه، يصبرُ يحبِسُ نفسه على ترك المعصية هذا إذا أكثَرَ منَ النوافل صارَ من أولياء الله، لو مِن نوعٍ واحدٍ، أولياءُ الله يفترقونَ عن غيرِهم من المسلمين حتّى إنّهم أعلَى درجَةً عند الله من الشهيد الذي قاتَلَ العدُوَّ طلبًا للجهاد فِي سبيل الله، تَقَرُّبًا إلى الله خاطرَ بنفسه، ذهب إل الكفّار وقاتَلهُم لوجه الله تعالى، أيْ: لأن الله يحبُّ الجهاد وهو أمر المؤمنين بالجهاد قاتلهم فقُتِل، هذا الذي أدّى الواجبات كلَّها واجتنب المعاصي كلَّها وأكثَرَ من النَّوافل أفضَلُ عندَ الله من ذاك الشّهيد، والشهيدُ مرتبتُهُ عند الله عالية جدًّا لكن هذا الولِي أفضَلُ عند الله، الأولياء أفضَلُ عند الله، مَن أفضل الأولياء بعد الأنبياء؟ أبو بكرٍ الصّدّيق t أفضل الأولياء بعد الأنبياء، الأنبياءُ أفضَلُ من كلّ خلقِ الله حتّى من الملائكةِ، ابتداءً من ءادم إلى سيّدنا محمد الأنبياءُ كلُّ واحدٍ منهم أفضلُ من الملائكة وأفضلُ من الأولياء لا يوجد فِي خلق الله من هو أفضَلُ من الأنبياء، الأنبياءُ أعلى مرتبةً، وءَادَمُ u الذي كثيرٌ من الناس لا يَعْرِفُ له الفضلَ أفضلُ من الأولياء من كل الأولياء، أفضل من أبي بكر أفضل من عمر بن الخطاب أفضل من عثمان بنِ عفان أفضلُ من علِيّ بنِ أبي طالب، أفضل مِن كلّ الأولياء، وكذلك كلُّ نبيٍّ أفضَلُ من جميع الأولياء، بعد الأنبياء الأفضلُ هو أبو بكر باعتبار البشر، أفضلُ البشر بعدَ الأنبياء هو أبو بكر ثم عمرُ ثم عثمانُ ثم عليٌّ أمّا بالنسبة لغير البشر خواصُّ الملائكة، أي: أكابِرُ الملائكة جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعَزْرَائيلُ وحَمَلةُ العرش هؤلاء أفضل مِن خواصّ الأولياء، خواصُّ الملائكة، أي: أكابِرُهم أفضلُ عند الله من أولياء البشر بعد الأنبياء، أما الأنبياء فلا يزيدُ عليهم أحدٌ مِن خلق الله فِي عُلُوّ الدّرجات، هم أفضَلُ خَلقِ الله. انتهى.

([i]) رَواهُ البُخَاريُّ فِي صَحِيحِهِ، بَابٌ تُبَلُّ الرَّحِمُ بِبَلَالِهَا.

([ii]) رواه أحمد فِي مسنده من حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه.

([iii]) رواه ابن حبان فِي صحيحه ذكر الإخبار بأن الشديد الذي غلب نفسه عند الشهوات والوساوس لا من غلب الناس بلسانه.