قال الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} [ءال عمران: 7].
أخبرنا الله تعالى في هذه الآية أن القرءان فيه ءايات محكمات هن أم الكتاب أي أصل الكتاب، وأن فيه ءايات متشابهات ترد لفهمها إلى الآيات المحكمات.
والآيات المحكمة هي ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجها واحدا، أو ما عرف بوضوح المعنى المراد منه كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] وقوله: {هل تعلم له سميا} [مريم: 65].
وأما المتشابه فهو ما لم تتضح دلالته، أو يحتمل أوجها عديدة واحتيج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوىٰ} [طه: 5].
قال الـمحدث اللغوي مرتضى الزبيدي نقلا عن كتاب التذكرة الشرقية لأبي نصر القشيري ما نصه: «وأما قول الله عز وجل: {وما يعلم تأويله إلا الله} [ءال عمران: 7] إنما يريد به وقت قيام الساعة، فإن الـمشركين سألوا النبي ﷺ عن الساعة أيان مرساها ومتى وقوعها([1])، فالـمتشابه([2]) إشارة إلى علم الغيب، فليس يعلم عواقب الأمور إلا الله عز وجل، وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته وأن النبي ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم([3])، أليس الله يقول: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195] فإذا على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195] إذ لم يكن معلوما عندهم([4]). ثم كان النبي ﷺ يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى فلو كان في كلامه وفيما يلقيه إلى أمته شيء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى لكان للقوم أن يقولوا بين لنا أولا من تدعونا إليه وما الذي تقول فإن الإيمان بما لا يعلم أصله غير متأت([5]) ونسبة النبي ﷺ إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل أمر عظيم لا يتخيله مسلم([6]) فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالـموصوف([7]) والغرض أن يستبين من معه مسكة من العقل أن قول من يقول: «استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها والقدم صفة ذاتية لا يعقل معناها» تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل انتهى باختصار الحافظ الزبيدي مما نقله عن أبي نصر القشيري رحمه الله.
والتأويل التفصيلي وإن كان عادة الخلف فقد ثبت أيضا عن غير واحد من أئمة السلف، فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42] قال: عن شدة من الأمر، وعن مجاهد في قوله عز وجل: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] قال: قبلة الله.
وعن حنبل([8]) أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: {وجاء ربك} [الفجر: 22]([9]) جاء ثوابه. قال البيهقي: «وهذا إسناد لا غبار عليه»، نقل ذلك ابن كثير في تاريخه([10]).
وأول البخاري([11]) الآية {ءاخذ بناصيتها} [هود: 56]([12]) بقوله: «أي في ملكه وسلطانه» اهــ.
كذلك الآيات والأحاديث التي يوهم ظاهرها أن الله في السماء أو هو فوق السماء بالمسافة فلا بد من تأويلها وإخراجها عن ظواهرها، كآية: {ءأمنتم من في السماء} [الملك: 16] فيقال المراد بمن في السماء: الملائكة.
كما يصح تأويل حديث: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فاستجيب له» برواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري التي رواها النسائي وصححها عبد الحق ولفظها: «إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا» فيكون المعنى أن الملك ينادي مبلغا عن الله إن ربكم يقول هل من داع فيستجاب له هل من مستغفر فيغفر له وهل من سائل فأعطيه؛ أما الحديث المعروف بحديث الجارية الذي رواه مسلم([13]) أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فسأله عن جارية له، قال: قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها، قال: «ائتني بها» فأتاه بها فقال لها: «أين الله»، قالت: في السماء قال: «من أنا»، قالت: «أنت رسول الله»، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة». فليس معناه أن الله يسكن السماء كما توهم بعض الجهلة بل معناه أن الله عالي القدر جدا. وهذا يوافق اللغة.
ثم إن رواية مسلم طعن فيها بعض العلماء بالاضطراب سندا ومتنا، وروي بلفظ عند مالك([14]): «أتشهدين أن لا إلٰه إلا الله»، قالت: نعم، وهي الصحيحة التي توافق الأصول فترجح على رواية مسلم لأنها في معنى الحديث المشهور([15]): «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلٰه إلا الله» الحديث.
ولو صح حديث الجارية لم يكن معناه أن الله ساكن السماء كما توهم بعض الجهلة بل لكان معناه أن الله عالي القدر جدا كما ذكرنا وعلى هذا المعنى أقر بعض أهل السنة بصحة رواية مسلم هذه وحملوها على خلاف الظاهر، وحملها المشبهة على ظاهرها فضلوا.
([1]) أي: أن المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله هو كوقت قيام الساعة، وقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} معناه ذلك لا يعلمه إلا الله وقد تقدم بيان ذلك. انتهى مؤلفه.
([3]) معناه لا يليق أن يقول قائل في القرءان يوجد ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله هذا من أعظم القدح في النبوات يعني جرحا في أمور النبوات، وفيه ما يتضمن أن النبي ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم أي أنه هو نفسه لا يعرف ودعا الناس إلى علم ما لا يعلم. انتهى مؤلفه.
([4]) معناه أن العرب الذين جاءهم ليدعوهم إلى الإيمان بالقرءان سيقولون كيف يقول أنزل علي بلسان عربي مبين أي ظاهر ثم نحن لا نعرف، كيف صار إذا مبينا إن كان لا يعلم تأويل هذه الكلمات. انتهى مؤلفه.
([5]) أي: لا يمكن، هذا معناه أن العرب الذين أرسل إليهم كانوا قالوا له هذا لا يمكن.
([6]) أي: لا يعقل أن يدعو الرسول إلى الإيمان برب لا تعقل صفاته. انتهى مؤلفه.
([7]) لو كان الله لا تعلم صفاته معناه أن الذات أيضا غير معلوم. انتهى مؤلفه.
([8]) هو حنبل بن إسحاق ابن عم الإمام أحمد وتلميذه.
([9]) صح التأويل التفصيلي عن الإمام أحمد فقد ثبت عنه أنه قال في قوله تعالى: {وجاء ربك} جاءت قدرته، صحح سنده الحافظ البيهقي، أي الأمور العظيمة التي خلقها الله تعالى ليوم القيامة هذه الأمور هي أثر القدرة وهي بقدرة الله تأتي حين يحضر الملك أي الملائكة صفوفا لعظم ذلك اليوم حتى يحيطوا بالإنس والجن ولا أحد يستطيع أن يخرج من هذا المكان إلا بسلطان أي بإذن من الله وحجة فتظهر في ذلك اليوم أمور عظيمة، جهنم التي مسافتها بعيدة تحت الأرض السابعة سبعون ألفا من الملائكة يجرونها أي يجرون جزءا منها وكل ملك بيده سلسلة مربوطة بجهنم يجرونها ليراها الناس وهم في الموقف ثم ترد إلى مكانها، انتهى مؤلفه.
([10]) البداية والنهاية (10/327).
([11]) صحيح البخاري: كتاب التفسير: باب قوله: {وكان عرشه على الماء} [هود: 7]، فتح الباري (8/352).
([13]) صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.
([15]) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5]، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إلٰه إلا الله محمد رسول الله.