الأحد ديسمبر 7, 2025

بيان التأويل في القرءان والحديث

قال الله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} [سورة ءال عمران]  .

أخبرنا الله تعالى في هذه الآية أن القرءان فيه ءايات محكمات هن أمّ الكتاب أي أصل الكتاب، وأن فيه ءايات متشابهات تردّ لفهمها إلى الآيات المحكمات.

والآيات المحكمة: هي ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجهًا واحدًا، أو ما عُرف بوضوح المعنى المراد منه كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} [سورة الشورى]  وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} [سورة الإخلاص] وقولِهِ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {65} [سورة مريم].

وأما المتشابه: فهو ما لم تتضح دلالته، أو يحتمل أوجهًا عديدة واحتيج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق، كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [سورة طه] .

وقوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ {7} [سورة ءال عمران] يحتمل أن يكون ابتداءً، ويحتمل أن يكون معطوفًا على لفظ الجلالة، فعلى الأول المراد بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه كوجبة القيامة وخروج الدجال ونحو ذلك، فإنه لا يعلم متى وقوع ذلك أحد إلا الله؛ وعلى الثاني: المراد بالمتشابه ما لم تتضح دلالته من الآيات أو يحتمل أوجهًا عديدة من حيث اللغة مع الحاجة إلى إعمال الفكر ليحمل على الوجه المطابق كآية: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [سورة طه]؛ فعلى هذا القول يكون الراسخون في العلم داخلين في الاستثناء، ويؤيد هذا ما رواه مجاهد عن ابن عباس أنه قال: “أنا ممن يعلم تأويله”.

قال القشيري في التذكرة الشرقية: “وأما قول الله عزّ وجلّ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ {7} [سورة ءال عمران] إنما يريد به وقت قيام الساعة، فإن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة أيان مرساها ومتى وقوعها، فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب، فليس يعلم عواقب الأمور إلا الله عزّ وجلّ ولهذا قال: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ {53} [سورة الأعراف] أي هل ينظرون إلا قيام الساعة. وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا من أعظم القدح في النبوات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى، ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم، أليس الله يقول: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} [سورة الشعراء] فإذًا على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195}  إذ لم يكن معلومًا عندهم، وإلا فأين هذا البيان؛ وإذا كان بلغة العرب فكيف يَدَّعِي أنه مما لا تعلمه العرب لما كان ذلك الشىء عربيًّا، فما قول في مقال مآله إلى تكذيب الرب سبحانه.

ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فلو كان في كلامه وفيما يلقيه إلى أمته شىء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، لكان للقوم أن يقولوا بيّن لنا أولاً من تدعونا إليه وما الذي تقول، فإن الإيمان بما لا يعلم أصله غير متأت، ونسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف، والغرض أن يستبين من معه مُسْكَةٌ من العقل أن قول من يقول: “استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقدَم صفة ذاتية لا يعقل معناها” تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل؛ وقد وضح الحق لذي عينين، وليت شعري هذا الذي ينكر التأويل يطرد هذا الإنكار في كل شىء وفي كل ءاية أم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى.

فإن امتنع من التأويل أصلًا فقد أبطل الشريعة والعلوم، إذ ما من ءاية وخبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرف في الكلام – إلا ما كان نحو قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {101} [سورة الانعام] – لأن ثَمَّ أشياء لا بدّ من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع بزعمه.

وإن قال: يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق بالله وبصفاته فلا تأويل فيه. فهذا مصير منه إلى أنّ ما يتعلق بغير الله تعالى يجب أن يعلم وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى به مسلم؛ وسرّ الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يُدَلّسون ويقولون: له يد لا كالأيدي وقدم لا كالأقدام واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا. فليقل المحقق هذا كلام لا بد من استبيان، قولكم نجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه تناقض، إن أجريت على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ {42} [سورة القلم] هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر، وإن لم يمكنك الأخذ بها فأين الأخذ بالظاهر، ألست قد تركتَ الظاهر وعلمت تقدس الربّ تعالى عما يوهم الظاهر، فكيف يكون أخذًا بالظاهر؟ وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا معنى لها أصلًا، فهو حكم بأنها ملغاة، وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدَر وهذا محال. وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب، وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد، فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية، ومن أحاط بطرق من العربية هان عليه مدرك الحقائق، وقد قيل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ {7} [سورة ءال عمران] : فكأنه قال: والراسخون في العلم أيضًا يعلمونه ويقولون ءامنا به. فإن الإيمان بالشىء إنما يتصور بعد العلم، أما ما لا يعلم فالإيمان به غير متأت، ولهذا قال ابن عباس: “أنا من الراسخين في العلم”اهــ.

فتبين أن قول من يقول إن التأويل غير جائز خبط وجهل، وهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: “اللهم علّمه الحكمة وتأويل الكتاب”.

هذا وقد شدّد الحافظ ابن الجوزي الفقيه الحنبلي وهو حرب على حنابلة المجسمة وما أكثرهم في كتابه “المجالس” النكيرَ والتشنيع على من يمنع التأويل ووسّع القول في ذلك، فمما ورد فيه: “وكيف يمكن أن يقال إن السلف ما استعملوا التأويل وقد ورد في الصحيح عن سيد الكونين صلى الله عليه وسلم أنه قدّم له ابن عباس وضوءه فقال: “من فعل هذا” فقال: قلت: أنا يا رسول الله، فقال: “اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل” فلا يخلو إما أن يكون الرسول أراد أن يدعو له أو عليه، فلا بدّ أن تقول أراد الدعاء له لا دعاءً عليه، ولو كان التأويل محظورًا لكان هذا دعاءً عليه لا له. ثم أقول: لا يخلو إما أن تقول: إن دعاء الرسول ليس مستجابًا فليس بصحيح، وإن قلت: إنه مستجاب فقد تركت مذهبك، وبَطَل قولك: إنهم ما كانوا يقولون بالتأويل، وكيف والله يقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ {7} [سورة ءال عمران] وقال: الم {1} [سورة البقرة] أنا الله أعلم، و كهيعص {1} [سورة مريم] الكاف من كافي،، والهاء من هادي، والياء من حكيم، والعين من هُوَ عليم، والصاد من صادق، إلى غير ذلك من المتشابه”اهــ.

توجيه :القرائتين في آية {هُوَ الّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ} {7}[سورة ءال عمران] إلى قوله تعالى{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ}{7}  [سورة ءال عمران]  فبقراءة الوقف على لفظ الجلالة والابتداء بما بعده يكون المعنى : الغيب الذي لم يجعل الله سبيلًا للخلق إلى علمه كوجبة الساعة وما شابهها ، وأما بقراءة الوقف على  {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ } {7}  يكون المعنى :أن الله يعلم تأويل الآيات المتشابهات والراسخون يعلمونه وذلك فيما ليس من نحو وجبة القيامة ونحوها، فهذا الذي يعلمه الله تعالى ويعلمه الراسخون في العلم ، وعلى هذا التوجيه ينتظم المعنى ويزول الإشكال ،وبهذا حُجةٌ لصحة من ذهب إلى التأويل التفصيليّ للآيات المتشابهات كتأويل العين المذكورة في قوله تعالى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِىٓ} {39} [سورة طه] بالحفظ، وأمثاله ، والله أعلم.

ثبوت التأويل التفصيلي عن السلف

والتأويل التفصيلي وإن كان عادة الخلف فقد ثبت أيضًا عن غير واحد من أئمة السلف وأكابرهم كابن عباس من الصحابة، ومجاهد تلميذ ابن عباس من التابعين، والإمام أحمد ممن جاء بعدهم، وكذلك البخاري وغيره.

أما ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: “وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ {42} [سورة القلم] قال: عن شدة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه:

قد سَنّ أصحابك ضرب الأعناقْ

وقامت الحرب بنا على ساقْ

وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها: عن نور عظيم، قال ابن فورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف، وقال المُهَلَّب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة، وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن وزاد: إذا خفي عليكم شىء من القرءان فابتغوه من الشعر، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد:

في سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا” اه‍

وأما مجاهد فقد قال الحافظ البيهقي: “وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن ابن علي بن عفان، ثنا أبو أسامة، عن النضر، عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ {115}  [سورة البقرة] قال: قبلة الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها” اهـ .

وأما الإمام أحمد: فقد روى البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأوّل قول الله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ {22} [سورة الفجر]  أنه جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: “وهذا إسناد لا غبار عليه”، نقل ذلك ابن كثير في تاريخه.

وفي رواية أخرجها البيهقي في كتاب مناقب أحمد تأويل: وَجَاء رَبُّكَ {22} [سورة الفجر]  بمجيء ثوابه، ثم قال البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه. قال البيهقي في مناقب أحمد: “أنبأنا الحاكم، قال حدثنا أبو عمرو بن السماك، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت عمي أبا عبد الله – يعني أحمد – يقول: احتجوا عليّ يومئذ – يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين – فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم: إنما هو الثواب قال الله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ {22} [سورة الفجر] إنما يأتي قدرته وإنما القرءان أمثال ومواعظ.

قال البيهقي: وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالاً من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته، فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه”اهــ.

وهذا دليل على أن الإمام أحمد رضي الله عنه ما كان يحمل ءايات الصفات وأحاديث الصفات التي توهم أن الله متحيّز في مكان أو أن له حركة وسكونًا وانتقالاً من علو إلى سفل على ظواهرها، كما يحملها ابن تيمية وأتباعه فيثبتون اعتقادًا التحيز لله في المكان والجسمية ويقولون لفظًا ما يموهون به على الناس ليظن بهم أنهم منزهون لله عن مشابهة المخلوق، فتارة يقولون بلا كيف كما قالت الأئمة وتارة يقولون على ما يليق بالله. نقول: لو كان الإمام أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال لترك الآية على ظاهرها وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو إلى سفل كمجيء الملائكة وما فاه بهذا التأويل.

وقد روى البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي الحسن المقرىء قال: “أنا أبو عمرو الصفار، ثنا أبو عوانة، ثنا أبو الحسن الميموني قال: خرج إليّ يومًا أبو عبد الله أحمد بن حنبل فقال: ادخل، فدخلت منزله فقلت: أخبرني عما كنت فيه مع القوم وبأيّ شىء كانوا يحتجون عليك؟ قال: بأشياء من القرءان يتأولونها ويفسّرونها، هم احتجوا بقوله: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ {2} [سورة الانبياء] قال: قلت: قد يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المُحْدَثُ لا الذكر نفسه هو المُحْدَثُ. قلت – أي قال البيهقي – : والذي يدل على صحة تأويل أحمد بن حنبل رحمه الله ما حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن ابن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله . هو ابن مسعود . رضي الله عنه قال: “أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد عليّ فأخذني ما قَدُمَ وما حَدَث، فقلت: يا رسول الله أحدث فيَّ شىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عزّ وجلّ يحدث لنبيه من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة” اهــ.

وورد أيضًا التأويل عن الإمام مالك فقد نقل الزرقاني عن أبي بكر بن العربي أنه قال في حديث: “ينزل ربنا” : “النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره ونهيه. فالنزول حسيّ صفة الملك المبعوث بذلك، أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل، فسمى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة”اهــ.

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: “وقال ابن العربي: حكي عن المبتدعة ردّ هذه الأحاديث، وعن السلف إمرارها، وعن قوم تأويلها وبه أقول. فأما قوله: ينزل فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة المَلَك المبعوث بذلك، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة انتهى. والحاصل أنه تأوّله بوجهين: إما بأن المعنى ينزل أمره أو المَلَك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطّف بالداعين والإجابة لهم ونحوه” ا.ه كلام الحافظ، وكذا حكي عن مالك أنه أوّله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملِك كذا أي أتباعه بأمره.

وروى الحافظ البيهقي أيضا عن أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال: “أنا أبو الحسن محمد بن محمود المروزي الفقيه، ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدثني سعيد بن نوح، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد الله بن موسى الضبي، ثنا معدان العابد قال: سألت سفيان الثوري عن قول الله عزّ وجلّ: وَهُوَ مَعَكُمْ {4} [سورة الحديد] قال: علمه”اهــ.

وفي صحيح البخاري عند قوله تعالى: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} [سورة القصص]  قال البخاري: “إلا ملكه. ويقال: إلا ما أُريد به وجهُ الله”اهــ.

وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يضم” أو: “يضيف هذا”؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانِه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ضحك الله الليلة” أو: “عجب من فعالكما”. فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} [سورة الحشر]، قال ابن حجر: “ونسبة الضحك والتعجّب إلى الله مجازية والمراد بهما الرضا بصنيعهما”اهــ.

وأوّل البخاري الضحك الوارد في الحديث بالرحمة نقل ذلك عنه الخطابي فقال: “وقد تأوّل البخاري الضحك في موضع ءاخر على معنى الرحمة وهو قريب وتأويله على معنى الرضا أقرب”اهــ.

وأوَّل البخاري الآية ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا {56} [سورة هود] بقوله: “أي في مُلكه وسُلطانه” اهــ.

تفسير بعض الآيات والأحاديث المتشابهة

من الآيات المتشابهات قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [سورة طه] فهذه الآية السلف لم يشتغلوا بتأويلها بتعيين معنى خاص، إنما قالوا استوى استواءً يليق به مع تنزيهه عن صفات الحوادث، ونفوا الكيفية عن الله تعالى؛ وما يروى عن الإمام  مالك أنه قال حين سُئل عن الاستواء: “الاستواء معلوم والكيفية مجهولة” فلم يصح عنه، وإنما الصحيح الذي رواه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عبد الله بن وهب ويحيى بن يحيى قال: “أخبرنا أبو عبد الله، أخبرني أحمد بن محمّد بن إسماعيل بن مهران، ثنا أبي، حدثنا أبو الربيع ابن أخي رِشدِين بن سعد، قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرُّحَضَاءُ ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، قال:  فأُخرج الرجل.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن الحارث الفقيه الأصفهاني، أنا أبو محمّد عبد الله بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ،، ثنا أبو جعفر ابن زيْرَك البزي، قال: سمعت محمّد بن عمرو بن النضر النيسابوري يقول: سمعت يحيى ابن يحيى يقول: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرُّحضاء، ثم قال: “الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا”. فأمر به أن يخرج. وروي ذلك أيضًا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أستاذ مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما”اهــ.

وأما تلك الرواية التي تنسب لمالك فليس لها إسناد صحيح، وإنما يلهج بها المشبهة لأنها وافقت هواهم الذي هو التشبيه، لأن اعتقادهم أن استواءه كيفٌ لكن لا نعلمه، وهذا إثبات للكيف لا تنزيه لله عن الكيف.

أما الخلف فقد اشتغلوا بتأويله وتعيين معنى للاستواء فقالوا: الاستواء معناه القهر والغلبة والاستيلاء. وتفسير الاستواء بالاستيلاء لا يقتضي المغالبة لأن المراد به القهر وقد وصف الله تبارك وتعالى نفسه بأنه القاهر فوق عباده قال: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ {18} [سورة الأنعام]، وقد أشار إلى ذلك الفقيه المحدث الحافظ اللغوي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الذي قال فيه الذهبي:

ليَهْنَ المنبر الأموي لما

علاه الحاكم البرُّ التقي

شيوخ العصر أحفظهم جميعًا

وأخطبهم وأقضاهم علي

قال ما نصه: “فالمقْدم على هذا التأويل – أي على تفسير الاستواء بالاستيلاء – لم يرتكب محذورًا ولا وصف الله بما لا يجوز عليه” اهــ.

وبذلك فسّرها القشيري أبو نصر فقال: “ولو أشعر ما قلنا توهم غلبته لأشعر قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {18} [سورة الانعام] بذلك أيضًا حتى يقال كان مقهورًا قبل خلق العباد، هيهات إذ لم يكن للعباد وجود قبل خلقه إياهم، بل لو كان الأمر على ما توهمه الجهلة من أنه استواء بالذات لأشعر ذلك بالتغيير واعوجاج سابق على وقت الاستواء، فإن البارىء تعالى كان موجودًا قبل العرش، ومن أنصف علم أن قول من يقول العرش بالرب استوى أمثل من قول من يقول: الرب بالعرش استوى ه فالرب إذًا موصوف بالعلو وفوقية الرتبة والعظمة منزّه عن الكون في المكان وعن المحاذاة” اهــ.

ثم قال: “وقد نبغت نابغة من الرعاع لولا استنزالهم للعوام بما يقرب من أفهامهم ويتصور في أوهامهم لأجللت هذا المكتوب عن تلطيخه بذكرهم، يقولون نحن نأخذ بالظاهر ونجري الآيات الموهمة تشبيهًا والأخبار المقتضية حدًّا وعضوًا على الظاهر ولا يجوز أن نطرق التأويل إلى شىء من ذلك، ويتمسكون بقول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ {7} [سورة ءال عمران] وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضرّ على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، لأن ضلالات الكفار ظاهرة يتجنبها المسلمون وهؤلاء أتوا الدين والعوام من طريق يغترّ به المستضعفون، فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلّوا في قلوبهم وصف المعبود سبحانه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء بالذات والتردد في الجهات، فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيّل المحسوسات فاعتقد الفضائح فسال به السيل وهو لا يدري”اهــ.

تنبيه: ليحذر من تمويه الوهابية وتلبيسهم بقولهم نحن نثبت لله ما أثبت لنفسه وهو أثبت لنفسه الاستواء على العرش، يريدون باستواء الله استواء الأجسام، يقال لهم: الاستواء الذي أثبته القرءان ليس الاستواء الذي أنتم تريدونه بل الله أراد بالاستواء معنى لائقًا به، لأن كلمة استوى ليست مرادفةً لجلس، بل استوى له معان في لغة العرب عديدة بعض معانيه من صفات المخلوقين كالجلوس والاستقرار، ومنها ما هو لائق بالله تعالى كالاستيلاء والقهر، فمن اللغويين الذين فسروا الاستواء المذكور في الآية بالاستيلاء صاحب القاموس في كتابه بصائر ذَوِي التمييز، والإمام المجتهد الفقيه الحافظ اللغوي تقي الدين السبكي، والمحدّث الحافظ الفقيه خاتمة اللغويين محمد مرتضى الزبيدي كما تقدم.

وأما الآيات والأحاديث التي يوهم ظاهرها أن الله في السماء أو هو فوق السماء بالمسافة فلا بدّ من تأويلها وإخراجها عن ظواهرها أيضًا، كآية: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء {16} [سورة الملك] فيقال المراد بمن في السماء: الملائكة، وقد مال الحافظ العراقي إلى ذلك في تفسير حديث: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”؛ فقد روى بالإسناد إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الراحمون يرحمهم الرحيم ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء” قال: “واستُدِلَّ بهذه الرواية: “أهل السماء” على أن المراد بقوله: “من في السماء: الملائكة”اهــ .لأن خير ما يفسر الوارد بالوارد كما نص على ذلك الحافظ العراقي في ألفيته قال: [رجز]

وخيرُ ما فسرتَه بالواردِ

كالدُّخ بالدخانِ لابن صائد

فهذه الرواية لهذا الحديث تبين المراد بقوله تعالى: مَّن فِي السَّمَاء {16} [سورة الملك]، فمن في الآية واقعة على الملائكة لأن الملائكة قادرون على أن يخسفوا بأولئك المشركين الأرض، فلو أُمروا لفعلوا، وقادرون على ما ذكر في الآية التالية لها وهو إرسال الحاصب أي الريح الشديدة بأمر الله تعالى.

وكذلك يقال في الحديث الذي رواه مسلم: “والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها” فيحمل أيضًا على الملائكة بدليل الرواية الثانية الصحيحة التي رواها ابن حبان وغيره، والتي هي أشهر من هذه وهي: “لعنتها الملائكة حتى تصبح”.

فإن قيل: قد ورد حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {58} [سورة النساء] إلى قوله تعالى إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا {58} [سورة النساء] ويضع أصبعيه قال ابن يونس أحد رواته: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه.

فالجواب ما قال البيهقي: “قلت: والمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله عز وجل بالسمع والبصر، فأشار إلى محلي السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى كما يقال قبض فلان على مال فلان ويشار باليد على معنى أنه حاز ماله، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير له سمع وبصر لا على معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب لأنه محل العلوم منا، وليس في الخبر إثبات الجارحة، تعالى الله عن شبه المخلوقين علوًا كبيرًا”.

وأما حديث الطبراني: “وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل واحد سبعين ألفًا وثلاث حَثَيَات من حثيات ربي عز وجل” فقد أعلّه الحافظ ابن حجر في الفتح بالاختلاف في سنده، وكذا الحافظ البيهقي.

وأما ما ورد عن مجاهد في تفسير المقام المحمود بأنه إجلاس الله للنبي معه على عرشه فليس فيه حجة قال بعض الحفاظ: أما رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فباطل، وكذا ما ورد عن عائشة، قال الحافظ ابن الجوزي: “قلت: هذا حديث مكذوب لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم” اه‍، وأما ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل فيغبطه بذلك أهل الجمع فلا حجة فيه أيضًا فإنه مرسل، وكذلك ما أخرجه الطبري عن عبد الله بن سلام أن محمدًا يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب.

قلنا: الجواب يكفي لعدم إثبات صورة لله بهذه المرويات أن الصفة عند العلماء لا تثبت بقول صحابي أو تابعي إنما تثبت الصفة لله بالكتاب والأحاديث المرفوعة الصحاح، فهذه القاعدة تريح من تكلف الجواب عن بعض ما يروى عن أفراد الصحابة والتابعين.

وقال الحافظ البيهقي في كتاب الأسماء والصفات ما نصه: “قال الشيخ رضي الله عنه: المحبة والبغض والكراهية عند بعض أصحابنا من صفات الفعل، فالمحبة عنده بمعنى المدح له بإكرام مكتسبه، والبغض والكراهية بمعنى الذم له بإهانة مكتسبه، فإن كان المدح والذم بالقول فقولُه كلامه وكلامه من صفات ذاته” اهــ.

وقال ما نصه: “فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ينظر إليهم” أي لا يرحمهم، والنظر من الله تعالى لعباده في هذا الموضع رحمته لهم ورأفته بهم وعائدته عليهم فمن ذلك قول القائل: انظر إليَّ نظر الله إليك أي ارحمني رحمك الله” اهــ.

وقال ما نصه: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته”. قال أبو الحسن بن مهدي قوله: “تبشبش الله” بمعنى رضي الله، وللعرب استعارات في الكلام، ألا ترى إلى قوله: فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ {112} [سورة النحل] بمعنى الاختبار وإن كان أصل الذوق بالفم، والعرب تقول ناظر فلانًا وذق ما عنده أي تعرّف واختبر، واركب الفرس وذقه، قال الشيخ: وقد مضى في حديث أبي الدرداء: “يستبشر”، وروي ذلك أيضًا في حديث أبي ذر ومعناه يرضى أفعالهم ويقبل نيتهم فيها والله أعلم” اهــ.

وقال ما نصه: “قال أبو سليمان: فيها قوله: “لله أفرح” معناه أرضى بالتوبة وأقبل لها. والفرح الذي يتعارفه الناس من نعوت بنى ءادم غير جائز على الله عز وجل إنما معناه الرضا” اهـ.

وقال ما نصه: “قال أبو زكريا الفراء: العَجَبُ وإن أسند إلى الله تعالى فليس معناه من الله كمعناه من العباد، ألا ترى أنه قال: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ {79} [سورة التوبة] وليس السخري من الله كمعناه من العباد وكذلك قوله: اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ {15} [سورة البقرة] ليس ذلك من الله كمعناه من العباد، وفي هذا بيان الكسر لقول شريح وإن كان جائزًا لأن المفسرين قالوا: بل عجبتَ يا محمد ويسخرون هم، فهذا وجه النصب. قال الشيخ: وتمام ما قال الفراء في قول غيره وهو أن قوله: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ {12} بالرفع أي جازيتهم على عجبهم لأن الله سبحانه أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق فقال: وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ {4} [سورة ص] فأخبر عنهم أيضًا أنهم قالوا: إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ {5} [سور طه] فقال تعالى: بَلْ عَجِبْتَ {12} [سورة الصافات] أي بل جازيت على المتعجب، وقد قيل إن قل مضمر فيه ومعناه قل يا محمد بل عجبتُ أنا من قدرة الله، والأول أصح. وقد يكون العَجَبُ بمعنى الرضا في مثل ما مضى من قصة الإيثار وحديث الاستغفار، وقد يكون العَجَبُ بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله عظيمًا” اهــ.

وقال البيهقي في الكلام على حديث مما ضحكت يا رسول الله، قال: “من ضحك رب العالمين” ما نصه: “فأما المتقدمون من أصحابنا فإنهم فهموا من هذه الأحاديث ما وقع الترغيب فيه من هذه الأعمال وما وقع الخبر عنه من فضل الله سبحانه، ولم يشتغلوا بتفسير الضحك مع اعتقادهم أن الله ليس بذي جوارح ومخارج، وأنه لا يجوز وصفه بكشر الأسنان وفغر الفم، تعالى الله عن شَبَهِ المخلوقين علوًّا كبيرًا” اهــ.

وقال ما نصه: “قال أبو الحسن: فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:” يضحك الله” أي يبين ويبدي من فضله ونعمه ما يكون جزاءً لعبده”.

وقال ما نصه: “وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا {22} [سورة الفجر] والمجيء والنزول صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه” اهــ.

وقال ما نصه: “والله تعالى لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون، وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين، والله تبارك وتعالى متعال عنهما ليس كمثله شىء” اهــ.

وقال في قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً {25} [سورة الفرقان] ما نصه: “قلت: فصح بهذا التفسير أن الغمام إنما هو مكان الملائكة ومركبهم وأن الله تعالى لا مكان له ولا مركب. وأما الإتيان والمجيء فعلى قول أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه: يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلاً يسميه إتيانًا ومجيئًا لا بأن يتحرك أو ينتقل، فإن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام، والله تعالى أحد صمد ليس كمثله شىء. وهذا كقوله عز وجل: فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ {26} [سورة النحل] ولم يرد به إتيانًا من حيث النقلة وإنما أراد إحداث الفعل الذي به خرب بنيانهم وخرَّ عليهم السقف من فوقهم، فسمَّى ذلك الفعل إتيانًا. وهكذا قال في أخبار النزول إن المراد به فعل يحدثه الله عز وجل في سماء الدنيا كل ليلة يسميه نزولاً بلا حركة ولا نقلة، تعالى الله عن صفات المخلوقين” اهــ.

وقال ما نصه: “قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: قوله: “فإن الله تعالى قِبَلَ وجهه” تأويله أن القبلة التي أمره الله تعالى بالتوجه إليها للصلاة قبل وجهه فليصنها عن النخامة” اهــ.

فإن قيل كيف يصح تأويل حديث: “ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فاستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له وهل من سائل فأعطيه” برواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري التي رواها النسائي وصححها عبد الحق ولفظها: “إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا” إلى ءاخره مع أن في الرواية المشهورة: “أن الله يقول هل من داع فاستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له وهل من سائل فأعطيه” فكيف ينسجم هذا مع القول بأن الملائكة هم الذين ينزلون بأمر الله؟ فالجواب: أن يحمل على أن الملك ينادي مبلغًا عن الله لا على أنه يقول عن نفسه تلك الكلمات، فيكون هذا كالذي ورد في الصحيحين في حديث المعراج وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “فلما جاوزت نادى منادٍ أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي” وكما أن هذا المنادي يقول هذا مبلغًا عن الله لأنه لا يجوز أن يقال عن الملك إنه يعبر عن نفسه بهذا الكلام؛ وكذلك الألفاظ التي وردت في حديث النزول على الرواية المشهورة لا يقوله الملك على معنى أنه هو الذي يجيب ويغفر ويعطي، فيكون المعنى في حديث النزول على الرواية المشهورة: إن ربكم يقول هل من داع فيستجاب له هل من مستغفر فيغفر له وهل من سائل فأعطيه؛ وحديث المعراج يكون معناه إن المنادي وهو الملك قال قال الله تعالى: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي؛ ونقول: كما صح ذاك صح هذا. والشأن في تنزيل الألفاظ على المعاني التي جرت عليها أساليب العرب في لغتهم من المجاز والكناية، ولهذا شاهد في قوله تعالى: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ {79} [سورة النساء] فإن المعنى لا يستقيم إلا بالتأويل بأن يقدر “وقالوا” أي المشركون أو “يقولون” لأنهم كانوا يقولون ما يحصل من رخاء ونعمة فمن الله وما كان من جدب وقحط فمن شؤم محمد. لأن الحق الذي يجب اعتقاده أن الخير أي الرخاء والسيئة أي القحط والمصائب كلاهما بتقدير الله ومشيئته وخلقه كما قال قبل هذه الآية: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ {78} [سورة النساء] فكما أنه لا بدّ من تقدير “يقولون” أو “قالوا” كذلك لا بد في حديث النزول من تأويل ينزل ربنا بنزول الملائكة بأمر الله وندائهم بأمر الله بما ذكر.

فإن قيل: كيف عاب على المنافقين والمشركين قولهم وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ {78} [سورة النساء] ورد عليهم ذلك بقوله: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ {78} [سورة النساء] ثم قال بعد ذلك مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ {79} [سورة النساء] أخبره بعين قولهم المردود عليهم.

قلنا: إن الثاني حكاية قولهم أيضًا، وفيه إضمار تقديره: فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا {78} [سورة النساء] فيقولون مَّا أَصَابَكَ {79} [سورة النساء] الآية.

قال الحافظ البيهقي ما نصه: “قلت: وهو كما روي في حديث ءاخر: “”سبحان الذي في السماء عرشه، سبحان الذي في الأرض موطئه” وإنما أراد ءاثار قدرته، والله اعلم.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس، قال: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: سمعت علي ابن المديني يقول في حديث خولة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن ءاخر وطئة بوجٍّ” قال سفيان – يعني ابن عيينه – فسره فقال: إنما هو ءاخر خيل الله بوج، قال الدارمي: والوج مدينة الطائف. قلت الوج واد بالطائف كما قال ابن مهدي، وهو من حصنها قريب. وكانت مدينة الطائف أيضًا تسمى وجًّا كما قال الدارمي” اهــ.

ثم قال ما نصه: “باب ما جاء في قوله عز وجل: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14} [سورة الفجر] أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد الطرائفي، ثنا عثمان بن سعيد، ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14} يقول: يسمع ويرى” اهــ.

وقال ما نصه: “باب ما جاء في إثبات الوجه صفة لا من حيث الصورة لورود خبر الصادق به” اهــ.

فائدة: الأصل الذي يبنى عليه إثبات قدم صفات الله تعالى هو الإجماع القطعي، قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: “اعلم أن حكم الجواهر والأعراض كلها الحدوث فإذًا العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف في هذا فهو كافر لمخالفة الإجماع القطعي” اه‍، انظر إتحاف السادة المتقين، فلا مخلص من مخالفة هذا الإجماع إلا بالتأويل الإجمالي أو التفصيلي.

قواعد نافعة:

أحدها: ما ذكره الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقّه ونصه: “والثانية: لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلاّ بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُختَلَف فيه وجاء حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتَجُّ به” اهــ.

الثانية: قال فيه أيضًا ما نصّه: “وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متّصل الإسناد رُدّ بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول وأمّا بخلاف العقول فلا، والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ، والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه” انتهى.

الثالثة: ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النّص القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يَقبل تأويلاً فهو باطلٌ، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في جمع الجوامع وغيره.

قال أبو سليمان الخطابي: “لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن اطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه”.

ثم قال: “وذكر الأصابع لم يوجد في شىء من الكتاب ولا من السنة التي شرطها في الثبوت ما وصفناه، وليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه”اهــ.

أما الحديث المعروف بحديث الجارية الذي رواه مسلم أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن جارية له، قال: قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها، قال: “ائتني بها” فأتاه بها فقال لها: “أين الله”، قالت: في السماء، قال: “من أنا”، قالت: “أنت رسول الله”، قال: “أعتقها فإنها مؤمنة”. فليس معناه أن الله يسكن السماء كما توهم بعض الجهلة بل معناه أن الله عالي القدر جدًّا. وهذا يوافق اللغة قال النابغة الجعدي:

بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

ثم إن رواية مسلم طعن فيها بعض العلماء بالاضطراب سندًا ومتنًا لأمرين: الأول: الاضطراب لأنه روي بلفظ رواه ابن حبان في صحيحه عن الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت يا رسول الله: إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء، قال: “ادع بها” فجاءت فقال: “من ربك” قالت: الله، قال: “من أنا”، قالت: رسول الله، قال: “أعتقها فإنها مؤمنة”، ورواه البيهقي بلفظ: “أين الله”، فأشارت إلى السماء بإصبعها، وروي بلفظ: “من ربك” قالت: الله ربي، قال: “فما دينك” قالت: الإسلام، قال: “فمن أنا” قالت: أنت رسول الله، قال: “أعتقها”. وروي بلفظ عند مالك: “أتشهدين أن لا إله إلا الله”، قالت: نعم، قال: “أتشهدين أني رسول الله”، قالت: نعم، قال: “أتوقنين بالبعث بعد الموت”، قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعتقها”.

فرواية مالك هي الصحيحة التي توافق الأصول لكونها جاءت على الجادة إلا أنه ليس فيها: “فإنها مؤمنة”، فترجح على رواية مسلم لأنها في معنى الحديث المشهور: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله” الحديث، وفي معنى الحديث الذي رواه النسائي في السنن الكبرى عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على غلام من اليهود وهو مريض فقال له: “أسلم”. فنظر إلى أبيه فقال له أبوه: أطع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحمد لله الذي أنقذه بي من النار”.

والأمر الثاني: أن رواية: “أين الله” مخالفة للأصول لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يُحكَمُ له بقول الله في السماء بالإسلام لأنها ليست كلمة التوحيد، ولأن هذا القولَ مشترَكٌ بين اليهود والنصارى وغيرهم وإنما الأصل المعروف في شريعة الله ما جاء في الحديث المشهور المتقدم ذكره.

فإن قيل: كيف تكون رواية مسلم “أين الله، فقالت: في السماء” إلى ءاخره، مردودةً مع رواية مسلم له وكلّ ما رواه مسلمٌ موسومٌ بالصّحّة، فالجوابُ: أن عددًا من أحاديث مسلم ردَّها علماء الحديث.

ولو صحّ حديثُ الجارية لم يكن معناه أنّ الله ساكنُ السماء كما توهّم بعضُ الجهلة بل لكان معناه أن الله عالي القَدْرِ جدًّا وعلى هذا المعنى أقرَّ بعض أهل السنة بصحة رواية مسلم هذه وحملوها على خلاف الظاهر، وحملها المشبهة على ظاهرها فضلّوا، ولا ينجيهم من الضلال قولهم إننا نحمل كلمة في السماء بمعنى أنه فوق العرش لأنه بقولهم ذلك أثبتوا له مثلاً وهو الكتاب الذي كتب الله فيه: “إن رحمتي سبقت غضبي” وهو فوق العرش فيكونون أثبتوا المماثلة بين الله وبين ذلك الكتاب لأنهم جعلوا الله وذلك الكتاب مستقِرَّيْن فوق العرش فيكونون كذبوا قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11}.

وعلى اعتقادهم هذا يلزم أن يكون الله محاذيًا للعرش بقدر العرش أو أوسع منه أو أصغر وأن يكون مربعًا كما أن العرش مربع إن قالوا بقول ابن تيمية إنه ملأ العرش. وكل ما جرى عليه التقدير حادث محتاج إلى من جعله على ذلك المقدار قال تعالى: وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ {8} [سورة الرعد].

قال الحافظ الفقيه اللغوي محمد مرتضى الزبيدي: “من جعل الله تعالى مُقَدَّرًا بمقدار كفر” أي لأنه جعله ذا كمية وحجم والحجم والكمية من موجبات الحدوث، وهل عرفنا أن الشمس حادثة مخلوقة من جهة العقل إلا لأن لها حجمًا، ولو كان لله تعالى حجمٌ لكان مثلاً للشمس في الحجمية ولو كان كذلك ما كان يستحق الألوهية كما أن الشمس لا تستحق الألوهية. فلو طالب عابد الشمس هؤلاء المشبهة بدليل عقلي على استحقاق الله الألوهية وعدم استحقاق الشمس الألوهية لم يكن عندهم دليل، وغاية ما يستطيعون أن يقولوا قال الله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ {62} [سورة الزمر] فإن قالوا ذلك لعابد الشمس يقول لهم عابد الشمس أنا لا أؤمن بكتابكم أعطوني دليلاً عقليًّا على أن الشمس لا تستحق الألوهية فهنا ينقطعون. وكون ذلك الكتاب فوق العرش ثابت أخرج حديثه البخاري وغيره، ولفظ البخاري ومسلم: “لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي”، وفي رواية عند مسلم: “لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي”. ولفظ رواية ابن حبان: “لما خلق الله الخلق كتب في كتاب يكتبه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي”.

فإن حاول محاول أن يؤوّل فوق بمعنى دون قيل له هذا التأويل لا يجوز إلا بدليل ولا دليل على لزوم التأويل في هذا الحديث، كيف وقد قال بعض العلماء: إن اللوح المحفوظ فوق العرش لأنه لم يرد نص صريح بأنه فوق العرش ولا بأنه تحت العرش فبقي الأمر على الاحتمال أي احتمال أن اللوح المحفوظ فوق العرش واحتمال أنه تحت العرش فعلى قول إنه فوق العرش يكون المشبّه قد جعل اللوح المحفوظ معادلا لله أي أن يكون الله بمحاذاة قسم من العرش واللوح بمحاذاة قسم من العرش، وهذا تشبيه له بخلقه لأن محاذاة شىء لشىء من صفات المخلوق.

ومما يدل على أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقية حقيقية لا تحتمل التأويل الحديث الذي رواه النسائي: “إن الله كتب كتابًا قبل خلق السموات والأرض بألفي سنة وقال إبراهيم: بألفي عام، فهو عنده على العرش” الحديث. وكذلك ينافي تأويل “فوق” في الحديث بمعنى تحت رواية ابن حبان التي فيها: “مرفوع فوق العرش” ورواية النسائي التي فيها: “على العرش” فثبت بهذا أن الموجود فوق العرش هو هذا الكتاب، وبطل قولهم إن فوق العرش لا مكان.

وأما معنى “عنده” المذكور في الحديث فهو للتشريف كما في قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ {55} [سورة القمر] وقد أثبت اللغويون أن عند تأتي لغير الحيّز والمكان، فكلمة عند في هذا الحديث لتشريف ذلك المكان الذي فيه الكتاب، وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.

وقال الحافظ المحدّث ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن عبد الرحيم العراقي ما نصه: “وقوله – أي النبي – “فهو عنده فوق العرش” لا بد من تأويل ظاهر لفظة “عنده” لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منزه عن الاستقرار والتحيّز والجهة، فالعنديّة ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل معظّم عنده” اهــ.

وكذلك قوله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ {82} مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ {83}  [سورة هود] إنما تدل عند في هذه الآية أن ذلك بعلم الله وليس المعنى أن تلك الحجارة مجاورة لله تعالى في المكان، فمن يحتج بمجرّد كلمة عند لإثبات المكان لله ومجاورته شيئًا من خلقه فهو من أجهل الجاهلين. وهل يقول عاقلٌ إن تلك الحجارة التي أنزلها الله على أولئك الكفرة نزلت من العرش إليهم.

والحاصل أن عند تأتي للمكان والزمان وبمعنى الحكم، يقال هذا عند الله أفضل من هذا. قال المفسر النحوي اللغوي الزجاج في تفسيره ما نصه: “قوله جلّ وعزّ: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ {210} [سورة البقرة]. قال أهل اللغة: معناه يأتيهمُ الله بما وعدهم من العذاب والحساب كما قال: فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا {2} [سورة الحشر]، أي أتاهم بخذلانه إياهم”. اهــ.

وقول الوهابية إن هذه الآية تنفي عن الله المشابهة فيما يعرفه الناس لا تنفي المماثلة المطلقة فهذا تحكم محض، لأنه تقييد للنص بلا دليل.

أما من أخذ حديث الجارية المتقدم على ظاهره ومنع التأويل فيقال له: ماذا تفعل بحديث أبي موسى الأشعري الذي هو أصح إسنادًا من حديث الجارية وهو: “أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم”، فإن أخذ بظاهر هذا الحديث انتقض عليه مذهبه للتناقض، وإن قال: أؤوّل هذا الحديث ولا أؤوّل حديث الجارية، كان هذا تحكمًا.

وإثبات المكان لله يقتضي إثبات الجهة التي نفاها علماء الإسلام عن الله تعالى سلفهم وخلفهم كما قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه المسمى “العقيدة الطحاوية” والذي ذكر فيه أنه بيان عقيدة أهل السنّة والجماعة: “لا تحويه الجهاتُ الست كسائر المبتدعات”.

فتبين أن نفي تحيّز الله في جهة هو عقيدة السلف، لأن الطحاوي من السلف وقد بيَّن أن هذا معتقد أبي حنيفة وصاحبيه الذين ماتوا في القرن الثاني خاصة ومعتقد أهل السنّة عامة.

وأما حديث النزول الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما، ولفظ البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له”، فلا يجوز أن يحمل على ظاهره لإثبات النزول من علو إلى سفل في حق الله تعالى. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: “هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء: أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق؛ والثاني: مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تتأوّل على ما يليق بها بحسب مواطنها، فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما: تأويل مالك بن أنس وغيره، معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته، كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني: أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف”اهــ.

ويبطل ما ذهبت إليه المشبهة من اعتقاد نزول الله بذاته إلى السماء الدنيا أن بعض رواة البخاري ضبطوا كلمة (ينزل) بضم الياء وكسر الزاي، فيكون المعنى نزول المَلَك بأمر الله الذي صرّح به في حديث أبي هريرة وأبي سعيد من أن الله يأمر ملكًا بأن ينزل فينادي، فتبين أن المشبهة ليس لها حجة في هذا الحديث.

قال القرطبي في تفسير سورة ءال عمران عند قوله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ {17} [سورة ءال عمران] بعد ذكره حديث النزول وما قيل فيه ما نصه: “وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرًا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عزَّ وجلَّ يُمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا فيقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يُغفر له، هل من سائل يُعطى” صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال وأن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روي ينزل بضم الياء وهو يبين ما ذكرنا” اهــ.

وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه: “استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يفضي إلى التحيّز تعالى الله عن ذلك، وقد اختلف في معنى النزول على أقوال” اهــ، ثم قال: “وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكًا”، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغرّ عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما بلفظ: “إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديًا يقول: هل من داع فيستجاب له” الحديث، وفي حديث عثمان ابن أبي العاص: “يُنادي مناد هل من داع يستجاب له” الحديث، قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال” اهــ.

قال بدر الدين بن جماعة في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل ما نصه: “اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه؛ لوجوه:

الأول: النزول من صفات الأجسام والمحدثات ويحتاج إلى ثلاثة أجسام: منتقل، ومنتقل عنه، ومنتقل إليه، وذلك على الله تعالى محال.

الثاني: لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله، وتنقلات كثيرة؛ لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئًا فشيئًا، فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليلاً ونهارًا من قوم إلى قوم، وعوده إلى العرش في كل لحظة على قولهم، ونزوله فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لب وتحصيل.

الثالث: أن القائل بأنه فوق العرش، وأنه ملأه كيف تسعه سماء الدنيا، وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، فيلزم عليه أحد أمرين؛ إما اتساع سماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه، أو تضاؤل الذات المقدس عن ذلك حتى تسعه، ونحن نقطع بانتفاء الأمرين”اهــ.

فالآيات والأحاديث الموهم ظاهرها تشبيه الله بخلقه لا بدّ من تأويلها على معنى لائق بالله عزّ وجلّ أو الامتناع عن التأويل واعتقاد تنزيه الله عن صفات الحدوث والمخلوقين.

قاعدة مهمة:

إن الشرع إنما ثبت بالعقل، فلا يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معًا، إذا تقرّر هذا فنقول: كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات مما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن يكون متواترًا أو ءاحادًا، فإن كان ءاحادًا وهو نص لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه، وإن كان ظاهرًا فالظاهر منه غير مراد، وإن كان متواترًا فلا يتصور أن يكون نصًّا لا يحتمل التأويل، فلا بُدّ أن يكون ظاهرًا أو محتملاً، فحينئذ نقول الاحتمال الذي دلّ العقل على خلافه ليس بمراد منه، فإن بقي بعد إزالته احتمال واحد تعين أنه المراد بحكم الحال، وإن بقي احتمالان فصاعدًا فلا يخلو إما أن يدل قاطع على تعيين واحد منها أو لا، فإن دَلّ حمل عليه، وإن لم يدل قاطع على التعيين فهل يعين بالظنّ والاجتهاد؟ اختلف فيه، فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد.

إبطال شبهة: فإن قالوا جميع ما ذكرتموه تأويل والتأويل ممنوع منه قلنا: قد أولتم قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {4} [سورة الحديد] وقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ {7} [سورة المجادلة] الآية، وقوله عليه السلام: “إن قلوب بني ءادم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن”، وقوله عليه السلام: “الحجر الأسود يمين الله في الأرض” فحملتم المعية في الآيتين على معية العلم والإحاطة والمشاهدة كما قال تعالى لموسى وأخيه هارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [سورة طه]، وحملتم الحديث الأول على معنى “يقلبه كيف يشاء”، وحملتم قوله عليه السلام “الحجر الأسود يمين الله في الأرض” أي محل عهده الذي أخذ به الميثاق على بني ءادم، فإن صح منكم تأويل ذلك لمخالفته العقل فيجب تأويل جميع ما تمسكتم به مما ذكرنا ونحوه، كذلك قالوا: إنما أوّلنا ذلك لأنه خلاف ضرورة العقل وما صرتم إليه يحتاج إلى نظر العقل وهو حرام وبدعة، قلنا: لا بد من الاعتراف بصدق نظر العقل وإلا لم يثبت لكم شرعٌ تُسندون إليه شيئًا من المعارف والأحكام، فإن قالوا: قال الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ {7} قلنا: فقد قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ {7} فإن قالوا: يجب الوقوف على قوله إِلاَّ اللهُ {7} وتكون الواو للاستئناف وليست عاطفة، وحظ الراسخين في العلم الإيمان به، قلنا: الإيمان به واجب على عموم المؤمنين فلا يبقى لوصفهم بالرسوخ في العلم وأنهم أولو الألباب فائدة بل الراسخ في العلم ذو اللب يعلم من المتشابه الوجه الذي شابه به الباطل فينفيه والوجه الذي شابه به الحق فيثبته كقوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي {29} [سورة الحجر] مترددٌ بين البعضية وهو باطل وبين إضافة التشريف والتعظيم وهو حق فيعيّنه له.

فوائد مهمة في دفع شبه المشبهة:

* الأولى: لو فرضت مناظرة بين المجسم كالوهابي الذي يثبت الحد والكمية والحجم لله وبين عابد الشمس، فقال الوهابي لعابد الشمس: أنت دينك باطل لأنك تعبد غير الله وأنا ديني هو الصحيح، فقال له عابد الشمس: أنا معبودي شيء محسوس تعترف بوجوده ويعترف كل الناس بوجوده وتعترف بعظم نفعه للأبدان وللنبات وللشجر وللأرض وللهواء وللماء، أما معبودك الذي أنت تقول هو الله شيء ليس بمرئي لي ولا لك، إنما أنت تتوهم أن شيئًا موجودًا فوق العرش إلهك الذي تزعمه فكيف يكون ديني باطلاً ودينك حقًّا، فإن قال الوهابي: لأن الله قال في القرءان أَفِي اللهِ شَكٌّ {10} [سورة إبراهيم] قال عابد الشمس: أنا لا أؤمن بكتابك أعطني دليلاً حسيًّا يشهد به الحس أو دليلاً عقليًّا، انقطع الوهابي المجسم عن الإجابة أمام هذا المشرك عابد الشمس.

* الثانية: ولو فرضت هذه المناظرة بين مسلم منزّه لله عن الكمية والحدّ لأجابه بقوله: إن معبودي موجود لا كالموجودات ليس له كمية ولا حدَّ فهو الذي لا يحتاج إلى خالق يوجده ولا إلى مخصص خصصه بل هو منزه عن ذلك، وأما معبودك الذي هو الشمس فله كمية وحدّ فيحتاج إلى من جعله على هذا الحدّ والكمّيّة والشكل فلا يصلح أن يكون إلهًا، بل الذي جعله على هذا الحدّ والكمّيّة هو الذي يصلح أن يكون إلهًا معبودًا، والحق يقضي بأن الشىء الذي له حد لا بد له من حَادٍّ حَدَّهُ بذلك الحدّ، فيكون السني المنزه عن الحدّ والجسمية غلب عابد الشمس وأفحمه، وبهذا الدليل العقلي ينكسر عابد الشمس وينقطع، فالحمد لله الذي وفق أهل السنة لمعرفة الدليل العقلي والنقلي المتعاضدين، والنقلي هو قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} [سورة الشورى] فإنه ينفي عن الله الجسمية والتحيز وكل صفات الجسمية، ولله الحمد على هذه النعمة.

* الثالثة: قد سبق في هذا الكتاب أن حديث: “ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا” الحديث، المراد به نزول الملائكة بأمره تعالى ليبلغوا عنه أنه وعد من يدعوه بالاستجابة ومن يستغفره بالمغفرة ومن يسأله بالإعطاء. قال ابن تيمية في شرح هذا الحديث في كتابه شرح حديث النزول وغيره بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه العرش، فهذا من أسخف القول، كيف يجعل النزول نزولاً من العرش إلى السماء الدنيا من غير أن يخلو منه العرش، وهذا مصداق قول الحافظ أبي زرعة العراقي فيه إن علمه أكبر من عقله.

* الرابعة: قولهم: قال مالك رضي الله عنه: “الاستواء معلوم والكيفية مجهولة” أو “والكيف مجهول”، يريدون بذلك أن استواء الله جلوس على العرش لكن لا نعرف كيفية ذلك الجلوس. والجواب عن ذلك: روي عن الإمام مالك صيغتان الأولى وهي الثابتة عنه بالإسناد “استوى كما وصف نفسَهُ ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع”، والثانية “الاستواء معلوم والكيفُ غير معقول”، ومعنى “والكيف غير معقول” أي أن الله لا يقبلُ العقل أن يكون له كيف أي هيئة من الهيئات، وليس معناه أن استواءَهُ هو الجلوس لكن لا تُعرف كيفية جلوسه وهذا الذي تريده الوهابية وغيرهم من المجسّمة.

* الخامسة: إيرادُهم كلمة “بلا كيف” على غير المعنى الذي رُويَ عن مالك والليث بن سعد والأوزاعي وسفيان الثوري رضي الله عنهم بأنهم كانوا يقولون في بعض النصوص التي ظواهرها إثبات الجسمية أو صفات الجسمية كحديث النزول: “أمرُّوها كما جاءت بلا كيف”، أي ارْووا اللفظ ولا تعتقدوا تلك الظواهر التي هي من صفات الجسم، فالأئمة مرادهم نفي الجسمية وصفاتِها عن الله أي أن هذه النصوص ليسَ معانيها الجسمية وصفاتها من حركة وسكون لأن الله تعالى نفى الجسمية وصفاتِها عن نفسه بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} ، وأرادَ الأئمة ردَّ تلك النصوص إلى هذه الآية المحكمة، أما الوهابية فيريدون بذلك إثبات الكيف لله لكن يموهون على الناس بقولهم إن هذه النصوص محمولة على الجسمية وصفاتِ الجسمية لكن لا نعرف كيفية تلك الكيفية.

* السادسة: قولهم إن استواء الله على العرش جلوسٌ لكن لا كجلوسنا ويَستشهدون لذلك بقول بعض الأئمة “لله وجه لا كوجوهنا ويدٌ لا كأيدينا وعين لا كأعيننا”. والجواب عنها: أن الجلوس في لغة العرب لا يكون إلا من صفات الأجسام، فالعرب لا تطلق الجلوس إلا على اتصال جسم بجسم على أن يكون أحد الجسمين له نصفان نصف أعلى ونصف أسفل، وليس للجلوس في لغة العرب معنىً إلا هذا، وهم في هذا أثبتوا  – أي الوهابية – الجسمية لله وبعضَ صفاتِها ولا يجوز ذلك على الله لأنه لو كان كذلك لكان له أمثال لا تحصى، فالجلوس يشترك فيه الإنسان والجن والملائكة والبقر والكلب والقرد والحشرات وإن اختلفت صفات الجلوس. ويقال لهم: أما الوجه واليد والعين فليست كذلك فإن الوجه في لغة العرب يُطلق على الجسم وعلى غير الجسم، والوجه بمعنى الجسم هو هذا الجزء الذي هو مركب في ابن ءادم وفي سائر ذواتِ الأرواح. وأما معنى الوجه الذي هو غير هذا الجزء في لغة العرب فمنه المُلك كما فسر سفيان الثوري في تفسيره والبخاري في جامعه قوله تعالى: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} [سورة القصص] قالا: إلا ملكه، ويطلق الوجه إذا أضيف إلى الله بمعنى ما يقرّب إلى الله من الأعمال كالصلاة والصيام وسائر الأعمال الصالحة. ويطلق على الذاتِ، والذاتُ بالنسبة إلى المخلوقين الجِرم الكثيف أو اللطيف كحجم الإنسان وحجم النور والريح هذا معنى الذات في المخلوق، أما الذات إذا أضيف إلى الله فمعناه حقيقته لا بمعنى الحجم الكثيف أو اللطيف. وقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون المرأة من وجه الله إذا كانت في قعر بيتها”، فالوجه هنا ليس له معنى إلا الطاعة فلا يفسر هنا بالذات أي ذات الله الذي هو حقيقة لا يشبه الحقائق، والحديث صححه ابن حبان والحافظ أبو الحسن بن القطان في كتاب النظر. ولا يتجرأ الوهابية أن يفسروا الوجه هنا بالذات. وأما اليد فلها في لغة العرب معانٍ منها ما هو أجرامٌ وأجسام ومنها ما هو غيرُ الأجرام، فاليد تأتي بمعنى الجارحة التي هي مركبة في الإنسان وفي البهائم، وتأتي بمعنى غير الجِرم كالقوة، وتأتي بمعنى العهد. وأما العين فتطلق في لغة العرب على الجرم كعين الإنسان والحيوانات، وتطلق على الذهَب، وتطلق على الجاسوس، وتطلق على الماء النّابع، وتطلق بمعنى الحفظ. وبهذا بان الفرق بين الجلوس وبين الوجه واليد والعين.

فلما كانت هذه الألفاظ الثلاثة واردة في القرءان مضافة إلى الله كان لها معانٍ غير الجسم وصفات الجسم؛ فأراد أبو حنيفة وغيره من الذين أطلقوا هذه العبارة “لله وجه لا كوجوهنا ويدٌ لا كأيدينا وعين لا كأعيننا” معاني هذه الألفاظ الثلاثة التي هي غير الجسم ولا هي صفة جسم مما يليق بالله كالقوة والملك والذات والحِفظ كما قال المُفسرون في تفسير قولِ الله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [سورة طه] قالوا: على حفظي.

ولهم – أي الوهابية – تمويه ءاخر وهو قولهم: “نثبت لله ما أثبت لنفسه وننفي عنه ما نفى عن نفسه”، يقال لهم: أنتم على عكس الحقيقة   تثبتون لله الجسمية وصفاتها والحركة والسكون والتحيز في جهة واحدة أو مكان واحد وهذا شىء نفاه الله عن نفسه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} [سورة الشورى] تدّعون أن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [سورة طه] أنه جلوس على العرش والجلوس صفةٌ للإنسان والجن والملائكة والبقر وسائر البهائم والكلاب والقرود والحشرات وهذا تنقيص لله تعالى، أما الذي تنفونه وهو تفسير الاستواء بالقهر فهو شىء أثبته الله لنفسه بقوله وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {16} [سورة الرعد]. لذلك جرت عادة المسلمين أن يسمّوا أولادهم عبد القاهر ولم يسمّ أحدٌ من المسلمين عبد الجالس. ويقال لهم: أثبت الله لنفسه الاستواء الذي يليق به وهو القهر وبمعناه الاستيلاء وقد قال شارح القاموس وأبو القاسم الأصبهاني اللغوي المشهور في مفردات القرءان إن الاستواء إذا عُدِّيَ بعَلى كانَ معناه الاستيلاء، ولا معنى لقول ابن الأعرابي إن الاستيلاء لا يكون إلا عن سبق مغالبة، فإنكم تركتم الاستواء اللائق لله تعالى وعمدتم إلى الاستواء الذي هو لا يليق به وهو الجلوس.

وأشد شبهة لهم قولهم إنه يلزم من نفي التحيّز في المكان عن الله تعالى كالتحيز في جهة فوق نفي لوجوده تعالى، يقال لهم: ليس من شرط الوجود التحيز في المكان لأن الله تبارك وتعالى كان قبل المكان والزمان والجهات والأجرام الكثيفة واللطيفة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شىء غيره” فأفهمنا أن الله تعالى كان قبل المكان والزمان والنور والظلام والجهات، فإذا صح وجوده قبل هؤلاء وقبل كل مخلوق صحّ وجودُه بلا تحيّز في جهة ومكان بعد وجود الخلق. وهذا الحديث الذي رواه البخاري وغيره تفسيرٌ لقول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ {3} [سورة الحديد] فقد وصف ربنا نفسه بالأوّلية المطلقة فلا أول على الإطلاق إلا الله، أما أوّلية بعض المخلوقات بالنسبة لبعض فهي أوّلية نسبيّة. وأنتم أيها المجسمة لما حصرتم الموجود فيما يتصوره الوهم وهو ما يكون متحيزًا في جهة ومكان، فهذا قياس منكم للخالق بالمخلوق، لأن المخلوق لما كان لا يخرج عن كونه جِرمًا كثيفًا أو لطيفًا أو صفة تابعة للجرم كالحركة والسكون قطعتم بعدم صحة وجود ما ليس كذلك، فبهذا التقرير بطلت شبهَتهم وتمويههم.

واعلموا أن أصل مصيبتكم هو أنكم جعلتم الله جِرمًا فقلتم: لا يصح وجود الله بلا تحيّز في جهة ولم تقبل نفوسكم وجود ما ليس بمتحيّز وهو الله تعالى الذي نفى عن نفسه المِثل بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} [سورة الشورى] وخرجتم عما توارد عليه السلف والخلف وهو قولهم: “مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك” قال هذه العبارة الإمام أحمد بن حنبل والإمام الزاهد الناسك ذو النون المصري وهما كانا متعاصرين، وبمعناه عبارة الشافعي المشهورة: “من انتهض لمعرفة مُدبّره فانتهى إلى مَوجود ينتهي إليه فِكرُه فهو مشبّه”، وأنتم يا معشر المشبهة معتقدكم أنّ الله جِرم حتى قال بعضهم إنه جرم بقدر العرش من الجوانب الأربعة، وقال بعضكم إنه يزيد على العرش، وقال بعضكم هو على بعض العرش، وقال بعضكم إنه بصورة إنسان طوله سبعة أشبار بشبر نفسه، وزعيمكم ابن تيمية مرة قال إنه بقدر العرش لا يَفضل منه شىء بل يزيد، ومرة قال إنه جالس على الكرسي وقد أخلى موضعًا لمحمد ليُقعدَه فيه، والأول من هذين القولين في كتابه المنهاج والثاني في الفتاوى وكتابه المسمى كتاب العرش الذي اطلع عليه الإمام المفسر النَّحْويّ اللغوي أبو حيّان الأندلُسي، وقال الحافظ أبو سعيد العلائي شيخ مشايخ الحافظ ابن حجر العسقلاني إن ابن تيمية قال إنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر. وقول الوهابية إن الفطرة في كل إنسان تقضي بأن الله متحيز بجهة الفوق أي العرش منقوض بشواهد الوجود لأن من الناس من يعتقدون أن هذه السماء الدنيا التي لونها الخضرة الخفيفة هي الله، ومن الناس من يعتقد أن الله كتلة نورانية حتى إنه ظهر من بعض الناس المنتسبين للإسلام أن الله في مكة والمدينة، وبعض المشبهة قالوا بأنه في إحدى السموات السبع، ومنهم من بلغت به الوقاحة وهو أحد مشبهة الحنابلة ألف كتابًا رتّبه هكذا: باب اليدين باب العين ثم باب كذا ثم باب كذا إلى أن قال باب الفرج لم يرد فيه شىء،فيقال للوهابية: يا معشر المشبهة أيّ هؤلاء على الفطرة التي تزعمون أن الإنسان إذا خُلّي وطبعه يجزم أن الله متحيّز في السماء، وما هي الفطرة التي خلق الله عليها البشر التي هي الصواب والحق؟ إنما الفطرة هي ما وافق العقل والدليل العقلي ووافق التنزيه عن الجِسميّة وصفاتِها وعوارضها، وهذا ما فهمه جمهور علماء الطوائف المنتسبة إلى الإسلام.

وأما العلو الوارد وصف الله تعالى به فنذكر ما قاله الإمام أبو منصور البغدادي في تفسير الأسماء والصفات ونصه: “والوجه الثالث أن يكون العلو بمعنى الغلبة، قال الله عزّ وجلّ: وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ {139} [سورة ءال عمران] أي الغالبون لأعدائكم، يقال منه: علوت قرني أي غلبته، ومنه قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ {4} [سورة القصص] أي غلب وتكبر وطغى، ومنه قوله عز وجل: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ {19} [سورة الدخان] أي لا تتكبّروا، وكذلك قوله: أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {31} [سورة النمل] أي لا تتكبّروا. فإذا كان مأخوذًا من العلو فمعنى وصف الله عز وجل بأنه عليٌّ أنه ليس فوقه أحد، وليس معناه أنه في مكان دون مكان، وإن كان مأخوذًا من ارتفاع الشأن فهو سبحانه أرفع شأنا من أن نشبّه به شيئًا” اهــ.

فائدة مهمة

للمشبهة شُبهة شديدة فرّعوها على نفي موجودٍ غير متحيز في جهة وهي قولُهم: إن القول بأن الله تعالى موجود لا هو داخلَ العالم ولا هو خارجَه نفي لوجود الله، وهذه الشبهة يبطلها أن الله تعالى ليس بجرم صغير ولا كبير، فَيَصحُّ وجوده من غير أن يكون داخل العالم ولا خارجه، وقد قرّر ذلك جهابذة العلماء من مشاهير علماء المذاهب الأربعة، بل هذا هو معتقد الأشاعرة والماتريدية وهم مطبقون على ذلك، وقد دلّ قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11}  على التنزيه، وأن الله لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه ومن جميع الوجوه التي هي من معاني الخلق، كالاتصاف بالحدوث والحركة والسكون والاجتماع والافتراق، والاتصاف بالمكان والاتصال بالعالم والانفصال عنه لأن كل هذه الصفات من معاني الخلق، فلا يصح أن يتصف الله بها، وقد صرّح الحافظ ابن الجوزي الحنبلي بأن الله لا يجوز عليه الاتصال بالعالم والانفصال عنه ونص عبارته بعد كلام: “فإن قيل نفي الجهات يحيل وجوده، قلنا: إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فقد صدقت، فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرفي النقيض بمحال. فإن قيل: أنتم تلزموننا بأن نقرّ بما لا يدخل تحت الفهم، قلنا: إن أردت بالفهم التخيل والتصوّر فإن الخالق لا يدخل تحت ذلك إذ ليس بمحس ولا يدخل تحت ذلك إلا جسم له لون وقدر، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فهو لا يتوهم شيئًا إلاّ على وفق ما رءاه، لأن الوهم من  نتائج الحسّ، وإن أردت أنه لا يعلم بالعقل فقد دللنا أنه ثابت بالعقل لأن العقل مضطر إلى التصديق بموجب الدليل، واعلم أنك لما لم تجد إلا جسمًا أو عرضًا وعلمت تنزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صرفك عن ذلك فينبغي أن يصرفك عن كونه متحيزًا أو متحركًا أو متنقلًا”اهــ.

وقال ابن حجر الهيتمي بعد كلام ما نصه: “ومن ثم قال الغزالي معناه أن مصحح الاتصال والانفصال الجسمية والتحيّز وهو محال – على البارىء – فانفك عن الضدين، كما أن الجماد لا هو عالم ولا جاهل، لأن مصحح العلم هو الحياة فإذا انتفت الحياة انتفى الضدّان”اهــ.

قال النووي في روضة الطالبين نقلًا عن المتولي: “أو أثبت ما هو منفي عنه – أي الله – بالإجماع كالألوان أو أثبت له الاتصال والانفصال كان كافرًا”اهــ. والمتولي من أصحاب الوجوه من الشافعية.

وقال صاحب كتاب الدُّرُّ الثمين والمورد المعين العلامة الحبر الشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي ما نصه:

“سئل الإمام العالم أبو عبد الله سيدي محمد بن جلال هل يقال المولى تبارك وتعالى لا داخل العالم ولا خارج العالم؟ فأجاب السائل: هكذا نسمعه من بعض شيوخنا، واعترضه بعضهم بأن هذا رفع للنقيضين، وقال بعض فقهائنا في هذه المسألة هو الكل، أي الذي قام به كل شىء، وزعم أنه للإمام الغزالي، وأجاب بعضهم بأن هذا السؤال معضل ولا يجوز السؤال عنه، وزعم أن ابن مقلاش هكذا أجاب عنه في شرحه على الرسالة، وأجاب بأنا نقول ذلك ونجزم به ونعتقد أنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، العجز عن الإدراك إدراك، لقيام الدلائل الواضحة على ذلك عقلًا ونقلًا، أما النقل فالكتاب والسنّة والإجماع، وأما الكتاب فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} فلو كان في العالم أو خارجًا عنه لكان مماثلًا وبيان الملازمة واضح، أما في الأول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له، وأما في الثاني فلأنه إن كان خارجًا لزم إما اتصاله وإما انفصاله، وانفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية، وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص.

وأما السنّة فقوله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولا شىء معه”.

وأما الإجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف.

وأما العقل فقد اتضح لك اتضاحًا كليًّا مما مر في بيان الملازمة في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11}، والاعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه، وأما حيث لا يصح تواردهما على المحل ولا يمكن الاتصاف بأحدهما فلا تناقض، كما يقال مثلاً “الحائط لا أعمى ولا بصير” فلا تناقض لصدق النقيضين فيه لعدم قبوله لهما على البدلية، وكما يقال في البارىء أيضًا لا فوق ولا تحت وقس على ذلك، وقول من قال إنه الكل زاعمًا أنه للغزالي فقضية تنحو منحى الفلسفة أخذ بها بعض المتصوفة، وذلك بعيد من اللفظ، وما أجاب به بعضهم بأنه معضل لا يجوز السؤال عنه ليس كما زعم لوضوح الدليل على ذلك، وإن صح ذلك عن ابن مقلاش فلا يلتفت إليه في هذا لعدم إتقانه طريق المتكلمين إذ كثير من الفقهاء ليس له خبرة به فضلًا عن إتقانه”اهــ.

وذكر ذلك أيضًا من الحنفية – أي أنه تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه –  شيخ المتكلمين على لسان أهل السنة أبو المعين النسفي، والإمام القونوي، والعلامة البياضي وغيرهما من مشاهيرهم.

أقول: إذا تبين هذا فلا يهولنَّكَ شبهة المجسمة ليصرفوك عن التنزيه إلى التشبيه بقولهم: لا يفهم وجوده تعالى بلا مكان ولا كمية ولا اتصال وانفصال عن العالم. فيقال لهم: من المخلوق ما يجب الإيمان بوجوده ولا يفهم بالتصور مع أن العقل يثبته وهو النور والظلام فإنهما حادثان أوجدهما الله بعد أن لم يكونا موجودين، قال الله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ{1} [سورة الأنعام] فيجب علينا اعتقاد أنهما لم يكونا في بعض ما مضى من الزمن، لم يكن هذا ولا هذا، فلا يتصور عقل الإنسان وجود وقت لم يكن فيه نور ولا ظلام، فإذا صحّ هذا فكيف لا يصح وجود الله بلا كمية أي حدّ ولا مكان ولا جهة من الجهات ولا اتصال بالعالم ولا انفصال عنه بل الإيمان بصحة هذا أولى، لأن ذاك في المخلوق وهذا في الخالق الذي قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11}.

فائدة أخرى في إثبات إطلاق الوجه مضافًا إلى الله على غير معنى الجسم

روى الترمذي في سننه عن عبد الله عن النبي: قال: “المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان”، ورواه البزَّار بزيادة: “وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها”، قال الحافظ أبو الحسن بن القطان في كتاب النظر: “وهو صحيح”.

فإن الوجه هنا متعين لمعنى الطاعة وفي هذا إثبات جهل المشبهة الذين يحملون الوجه الوارد مضافًا إلى الله على الجزء المعروف من ابن ءادم وغيره، وفي هذا تأييد لترجيح تفسير الوجه الوارد في قول الله تعالى: كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} [سورة القصص] بما يتقرب به إلى الله وهي الطاعات، وروى الحديث أيضًا ابن حبان بلفظين، فما الذي دعا الوهابية لفهم الوجه بمعنى الجسم مع تركهم للمعنى الذي ورد في السنة الوجه المضاف إلى الله تعالى بالطاعة، فبهذا يكونون مثل بيان بن السمعان التميمي الذي قال في قول الله تعالى كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88} إن العالم يفنى كله لأنه شىء والله شىء فيفنى لكن يستثنى وجهه، فالوهابية وهؤلاء من أصل واحد وهو التجسيم، ومصيبتهم الكبرى أنهم لا يفهمون موجودًا غير جسم فلذلك يستفرغون جهدهم في جعل الله جسمًا متصفًا بصفات الجسم، فكيف يدعي هؤلاء أنهم عرفوا قول الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} وءامنوا به، فلو عرفوا ذلك وءامنوا به لما جعلوه جسمًا لأن العالم أعيان وصفات قائمة به كالحركة والسكون.

فائدة مهمة في تنزيه الله تعالى عن المكان والحد

وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري النيسابوري شارح كتاب الإرشاد لإمام الحرمين بعد كلام في الاستدلال على نفي التحيز في الجهة عن الله تعالى ما نصه: “ثم نقول سبيل التوصل إلى درك المعلومات الأدلة دون الأوهام، ورُبَّ أمر يتوصل العقل إلى ثبوته مع تقاعد الوهم عنه، وكيف يدرك العقل موجودًا يحاذي العرش مع استحالة أن يكون مثل العرش في القدر أو دونه أو أكبر منه، وهذا حكم كل مختص بجهة. ثم نقول الجوهر الفرد لا يتصور في الوهم وهو معقول بالدليل، وكذلك الوقت الواحد والأزل والأبد، وكذلك الروح عند من يقول إنه جسم، ومن أراد تصوير الأرض والسماء مثلاً في نفسه فلا يتصور له إلا بعضها، وكذلك تصوير ما لا نهاية له من معلومات الله تعالى ومقدوراته، فإذا زالت الأوهام عن كثير من الموجودات فكيف يُطْلَبُ بها القديم سبحانه الذي لا تشبهه المخلوقات فهو سبحانه لا يتصور في الوهم فإنه لا يتصور إلا صورة ولا يُتَقَدَّرُ إلا مُقَدَّرٌ، قال الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} ومن لا مثل له لا يتمثل في الوهم، فمن عرفه عرفه بنعت جلاله بأدلة العقول وهي الأفعال الدالة عليه وعلى صفاته، وقد قيل في قوله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42}: إليه انتهى فكر من تفكَّر هذا قول أبي بن كعب وعبد الرحمن بن أنْعُم، وروى أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا فِكْرَةَ في الرب” وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا ذكر الله تعالى فانتهوا”، وقال: “تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق”.

فإن قيل كيف يعقل موجود قائم بالنفس ليس بداخل العالم ولا خارج منه.

قلنا: عرفتم استحالة ذلك ضرورة أم دلالة، وقد أوضحنا معنى مباينته بالنفس، وهكذا الجواب عن قولهم خلق الله العالم في نفسه أم مباينًا عنه. قلنا-أي على زعمكم -: خلقه على مقدار نفسه أو أكبر منه أو أصغر أو فوق نفسه أو تحته.

ثم نقول: حروف الظروف إنما تستعمل في الأجرام المحدودة وكذلك الدخول والخروج من هذا القبيل وكذلك المماسة والمباينة، وقد أجبنا عن المباينة.

فإن قالوا: كيف يرى بالأبصار من لا يتحيز ولا يقوم بالمتحيز.

قلنا: الرؤية عندنا لا تقتضي جهة ولا مقابلة وإنما تقتضي تعيين المرئي، وبهذا يتميز عن العلم فإن العلم يتعلق بالمعدوم وبالمعلوم على الجملة تقديرًا، وكذلك لا يقتضي اتصال شعاع بالمرئي فهي كالعلم أو في معناه.

فإن قيل: ألستم تقولون الإدراك يقتضي نفس المدرَك.

قلنا: لا يقتضى تعينه ولا تحديده.

فإن قالوا: كيف يُدرك وجود الإله سبحانه.

قلنا: لا كيفية للأزلي ولا حيث لهُ وكذلك لا كيفية لصفاته، ولا سبيل لنا اليوم إلى الإخبار عن كيفية إدراكه ولا إلى العلم بكيفية إدراكه وكما أن الأكمه الذي لا يبصر الألوان إذا سئل عن الميْز بين السواد والبياض والإخبار عن كيفيتهما فلا جواب له، كذلك نعلم أن من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة. فإن قالوا: من أبصر شيئًا يمكنه التمييز بين رؤيته لنفسه وبين رؤيته ما يراه، فإذا رأيتم الإله سبحانه كيف تميزون بين المرئيين، قلنا: من لا جهة له لا يشار إليه بالجهة ومن لا مثل له لا إيضاح له بالمثال، ومن لا أَشْكَالَ له فلا أَشْكَال فيه.

ثم نقول لهم: أنتم إذا رأيتم الإله كيف تميّزون بينه وبين العرش وهو دونه سبحانه بالرؤية، أتميّزون بينهما بالشكل والصورة أم باللون والهيئة، ومن أصلكم أن المرئي شرطُه أن يكون في مقابلة الرائي، وكيف يَرى القديم سبحانه نفسَه، وكيف يَرى الكائنات مع استتار بعضها ببعض فلا يَرى على هذا الأصل بطون الأشياء، وهذا خلاف ما عليه المسلمون، وإذا كان العرش دونه فلا يَحجبه عنّا حالة الرؤية، قال الأستاذ أبو إسحق: من رأى الله تعالى فلا يَرى معه غيرَه – أي في حال رؤيته للحق – فاندفع السؤال على هذا الجواب” اهــ.

ثم قال ما نصه: “فصل في نفي الحد والنهاية

اعلم أن القديم سبحانه لا يتناهى في ذاته على معنى نفي الجهة والحد عنه، ولا يتناهى في وجوده على معنى نفي الأولية عنه فإنه أزلي أبدي صمدي، وكذلك صفات ذاته لا تتناهى في ذاتها ووجودها ومتعلّقاتها إن كان لها تعلُّقٌ، ومعنى قولنا: لا تتناهى في الذات قيامها بذات لا نهاية له ولا حدَّ ولا منقطعَ ولا حيث، وقولنا لا تتناهى في الوجود إشارة إلى أزليتها ووجوب بقائها وأنها متعلِّقة بما لا يتناهى كالمعلوماتِ والمقدوراتِ والمُخْبَراتِ”.

ثم قال: “وأما الجوهر فهو متناهٍ في الوجود والذات لأنه لا يشغل إلا حيزًا له حكم النهاية وهو حادث له مفتتح ويجوز عدمهُ. والعرض متناه في الذات من حيث الحكم على معنى أنه لا ينبسط على محلين، ومتناهٍ في الوجود على معنى أنه لا يبقى زمانين، ويتناهى في تعلّقه فإنه لا يتعلق بأكثر من واحد.

أما المجسمة فإنهم أثبتوا للقديم سبحانه الحد والنهاية، فمنهم من أثبت له النهاياتِ من ست جهات، ومنهم من أثبتها من جهة واحدة وهي جهة تحت، ومنهم من لا يطلق عليه النهاية. واختلفوا في لفظ المحدود فمنهم من أثبته ومنهم من منعه وأثبت الحد، وقد بيّنا أن إثبات النهاية من جهة واحدة توجب إثباتها من جميع الجهات ولأن النهاية والانقطاع من الجهة الواحدة تقدح في العظمة، بدليل أنه لو لم يتناه لكان أعظم مما كان، فلما تناهى فقد صَغُرَ، ويجب نفي الصغر عنه كما وجب إثبات العظمة له، يوضح ما قلناه أنهم قالوا إنما منعنا كونه وسط العالم لأنه يوجب اتصافه بالصغر، فإثبات النهاية من جانب يفضي إلى النهاية من جميع الجوانب، فقد تحقق إذًا بنفي  النهاية والحد عنه استحالة الاتصال والانفصال والمحاذاة عليه لاستحالة الحجمية والجُثَّةِ عليه، بل هو عظيم الذات لانتفاء النهايات والصغر عنه لا لجَسَامَةٍ ولا لصورة وشَبَحٍ” اهــ.

ثم قال: “فصل في معنى العظمة والعلو والكبرياء والفوقية: أجمع المسلمون على أن الله تعالى عظيم وأعظم من كل عظيم، ومعنى العظمة والعلو والعزة والرفعة، والفوقية واحد وهو استحقاق نعوت الجلال وصفات التعالي على وصف الكمال وذلك تقدسه عن مشابهة المخلوقين، وتنزهه عن سمات المحدثين وعن الحاجة والنقص، واتصافُهُ بصفات الإلهية كالقدرة الشاملة للمقدورات، والإرادة النافذة في المراداتِ، والعلم المحيط بجميع المعلومات، والجود البسيط، والرحمة الواسعة، والنعمة السابغة، والسمع والبصر والقول القديم، والطَّوْل العميم والوجه واليد والبقاء والمجد” اهــ.