الدرس السابع والثلاثون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى في التاسع عشر من جمادى الأولى سنة ألف وأربعمائة وثمان من الهجرة الشريفة الموافق الثامن من شهر كانون الثاني لسنة ثمان وثمانين وتسعمائة ألف رومية في سويسرة وهو في بيان البدعة ومعناها.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين.
أما بعد: فإنّ من المهم معرفة تحديد البدعة المذمومة حتى لا تلتبس بالبدعة الحسنة ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه المشوشون فإنهم لبَّسوا الأمورَ على الناس بقولهم عن الأمر الذي لا يعجبهم إنّه بدعة ويحملون على ذلك حديث العرباض بن سارية وإياكم ومحدثات الأمور فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة([i]). اهـ هذا الحديث الصحيح هؤلاء المشوشون يحملونه على أشياء ليست داخله تحت هذا الحديث وإنما هي تدخل تحت حديث «مَنْ سَنَّ فِي الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ مِنْ غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ». اهـ الذي رواه مسلم([ii]) وذاك الحديث رواه أبو داود([iii]) والترمذي([iv]) وكلا الحديثين صحيح الإسناد وإن كان حديث مسلم هذا «من سن في الإسلام سنة حسنة» أقوى إسنادًا من ذلك الحديث والحديثان ليس بينهما تعارض عند من يفهم، من فهم معنى البدعة التي ذمها رسول الله في قوله «وكل بدعة ضلالة» لا يُطبّقُ ذلك على السُّنَّة الحسنة التي عناها رسول الله بقوله: «من سن في الإسلام سُنّة حسنة فله أجرها» فالقاعدة عند علماء الحديث وعلماء الأصول أنه إذا تعارض في الظاهر حديثان صحيحان يُجمع بينهما، يُوفَّقُ بينهما يُفسر هذا تفسيرًا لائقًا به ويفسر هذا تفسيرًا لائقا به فيكون كلا الحديثين معمولًا بهما وهذا هو طريق أهل الحديث وأهل أصول الفقه، فمن الفهم الفاسد من يفهم من حديث «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». اهـ أنه يشمل كل ما لم يفعله رسول الله فمن كان هذا فهمه فقد أفسد على الناس أمور دينهم وزاغ هو في حد نفسه زيغًا كبيرًا، فتعريف البدعة التي عناها رسول الله بقوله: «وكل بدعة ضلالة» ما أُحدث على خلاف الكتاب والسُّنَّة والإجماع ما أُحدث أي ما فعله الناس ولم يفعله رسول الله ولا أمر به نَصًّا وكان مخالفًا للقرءان والحديث فهذا هو البدعة التي ذمها رسول الله بقوله: «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، هذا مَحْمِلُ هذا الحديث، على هذا يُحمل هذا الحديث حديث «وكل بدعة ضلالة»، يحمل على ما أُحدث مما يُخالف الكتاب والسُّنَّة والإجماع ثم هذا أيضًا إما محرّم وإما أكثر من مجرد التحريم فإنه قد تصل بعض البدع إلى الكفر ومن البدع ما يصل إلى الكراهة هذا تعريف البدعة المذمومة.
وأما البدعة التي سماها رسول الله «سُنّة حسنة» في حديث جرير بن عبد الله البجلي الذي رواه مسلم فهي ما أحدثه أهل العلم على وفاق القرءان والحديث والإجماع فمن هنا أحدث السلف والخلف أشياء لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت على وفاق القرءان والحديث فعُدَّت سنة حسنة وتسمى بدعة حسنة وتسمى بدعة مستحبة، العلماء يطلقون عليها العبارات الثلاث بدعة حسنة وبدعة مستحبة وسُنّة حسنة. من هذا نقط المصاحف، القرءان الكريم أملاء رسول الله على من كتب عنه الوحي القرءاني فلم ينقطوه كتبوه بغير نقط كذلك عثمان بن عفان في خلافته لما كتب ست نسخ أو خمس نسخ كانت غير منقوطة هذه المصاحف التي كتبها عثمان بن عفان وَوَجَّه بعضًا منها إلى الأمصار كالبصرة ومكة واتخذ لنفسه واحدًا منها هذه كانت غير منقوطة بعد ذلك نقط المصاحف رجل من التابعين. يقال له يحيـى بن يعمر رَضِيَ الله عنه وكان من العلماء الـمُحدِّثين الثقات. هذا الكتاب وهو كتاب معتمد معروف عند السلف والخلف اسمه كتاب المصاحف تأليف عبد الله بن أبي داود هذا أبو داود الذي هو أحد أصحاب الكتب الستة له ابن يسمى عبد الله هو ألفه، مذكور في هذا الكتاب باب نقط المصاحف حدثنا عبد الله قال حدثنا محمد بن عبد الله المخزوميّ قال حدثنا أحمد بن نصر بن مالك قال حدثنا الحسن ابن الوليد عن هارونَ بن موسى قال أول من نقط المصاحف يحيـى بن يعمر. اهـ.
أما إذا قيل لكم كيف يترك الرسول ما كتب عنه من القرءان غير منقوط يقال لهم في ذلك حكمةٌ وهي أن القرءانَ أُنْزِلَ على الرسول بِعِدَّةِ أوجه اللفظ الواحد الرسول قرأه مرة بالتاء ومرة بالياء ومرة بلفظ المفرد ومرة بلفظ الجمع [يعملون] ببعض المواضع الرسول قرأ يعملون بالياء ثم قرأ أيضًا بالتاء [تعملون] فلما كتب غير منقوط صار صالحًا بأن يُقرأ بالياء وبأن يُقرأ بالتاء ونحو ذلك من الحكم لهذا كتب من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منقوط كذلك عثمان بن عفان كتب تلك المصاحفَ أي استنسخها بغير تنقيط، يُقال نقط ويقال نَقَطَ كِلا الوجهين صحيح، ثم أصحاب رسول الله الذين كانوا عندما نقط يحيى بن يعمر المصاحف ما اعترضوا عليه بل رضوا بذلك وأعجبهم لأن فيه تسهيلًا على الناس مع أن الاعتماد كان في القراءة عند الصحابة وكذلك التابعون على التَّلَقي الشَّفوي هذا يَتَلَقَّى القرءان بالقراءة الثانية وهذا يتلقى بالقراءتين من أستاذه الذي أقرأه القرءان كان اعتمادهم على التلقي الشَّفوي كانوا يعتمدون على الحفظ لذلك الذي يعتمد في القراءة على المصحف من غير تلقٍّ من أهل المعرفة لا يُسمى مقرئًا ولا قارئًا يُسمى مُصحفيًّا فرقًا بين الذي تلقى من أهل المعرفة من أهل التجويد كما تُلقى من لفظ رسول الله فرقًا بينه وبين الذي يقرأ في المصحف بدون تلقٍ يتلقى الشيء القليل منه خمس سور أ وستَّ سور من القصار أو نحو ذلك ثم ما سوى ذلك يتخذ المصحف مقرئًا له، هذا الذي يُسمونه مصحفيًا لا يسمونه مُقْرِئًا، كذلك في الحديث الذي يتلقى من أفواه أهل المعرفة ثم يضبطه كتابًا على النسخة الأصلية هذا يُسمى محدثًا أما الذي يعتمد على المطالعة في المؤلفات في الحديث من غير تلقّ من أفواه أهل المعرفة أو القراءة عليهم يسمّى صحفيًّا. كانت عادة علماء الحدي إما أن يسمع الحديث من الذي سمع من رسول الله ثم الآخر يتلقى من الذي سمع ممن سمع من أصحاب رسول الله ثم الذي بعده كذلك يتلقى من هذا الذي تلقى ممن تلقى من أصحاب رسول الله وهكذا، هذا الذي أخذ الحديث بالتلقي سَماعًا من لفظ المحدث أو المحدثُ يُعطيه كتابه الذي ضبطه الذي دَوَّنَ فيه أحاديثه التي رواها ممن تلقى عنهم يُعطيه يقرأ في هذا على هذا المحدث يقرأ فإن وجد منه غلطًا يرده، وبعضهم كانوا يستنسخون من هذه الأصول التي عند المحدثين ثم يعرضونها على الأصل على النسخة الأصلية فيعتمدون عليها بعد ذلك، فمن كان تلقيه لعلم الحديث على هذه الطريقة يُقال له محدث أما من لم يكن على هذه الطريقة إنما اشترى كُتُبًا ثم طالع بنفسه هذا يُقال له الصَّحفيَّ لا يُسمَّى محدثًا.
ثم حصل من أصحاب رسول الله غيرُ هذا مما هو سُنّة حسنة ويُقال له بدعة مستحبة وبدعة حسنة ما حصل من بعض الصحابة وهو أن أحد أصحاب رسول الله يُقال له خبيب وهو من الأنصار من أهل المدينة، الكفار كفار مكة قبل أن يفتح رسول الله مكة لما كان المشركون هم متغلبين على مكة كان لهم ثار منه لأنه قتل بعض أقرباء هؤلاء الكفار في الجهاد فأسره الكفار قتلوه صبرًا أي أسيًا وهو أسير مأسور في أيديهم قتلوه عندما ساقوه للقتل قال لهم أمهلوني حتى أصلي ركعتين فصلى ركعتين، قال أبو هريرة رضي الله عنه فكان خُبيب أول من سن الصلاة عند القتل معناه قبل خبيب ما أحد فعل هذا الفعل وهو صلاة ركعتين عند القتل ولا قال رسول الله لأصحابه إذا قدمكم الكفار للقتل فصلوا ركعتين لم يقل الرسول ما أخذه من قول رسول اله من نص رسول الله إنما خبيب وجد هذا الأمر موافقًا للقرءان والحديث فرضى به، فهذا الفعل الصحابة أُعجبوا به من غير أن يكون قال الرسول لأصحابه إذا قدمكم المشركون للقتل فصلوا ركعتين من غير أن يكون سبق من رسول الله ذلك من غير أن يكون سبق منه هذا القول هو فعله هذا الصحابيُّ رضي الله عنه، هذا من جملة السُّنَّة الحسنة والبدعةِ التي تسمى البدعة الحسنة والبدعة المستحبة. فمن هذه الحادثة حادثة صلاة خبيب رضي الله عنه ركعتين عندما قُدم للقتل وحادثة تنقيط المصاحف التي أول من فعلها يحيـى بن يَعمر يُعْلَمُ بطلان قول هؤلاء عندما يُنكرون على الناس أشياء هِيَ من البِدَعِ الحسنة هذا ما فعله الرسول، هذا ما فعله الرسول ليشوشوا بذلك على الناس، هؤلاء إذا أردتم أن تُبكتوهم قولوا لهم هذه المصاحف التي تتخذونها منقوطةٌ أم غيرُ منقوطة؟ فإن قالوا منقوطةٌ يقلا هذا التنقيط ما فعله الرسول ما قال للذين كتبوا من لفظه نَقِّطوها ما قال ولا الصحابة فعلوا ذلك فهذا الشيء لم يفعله الرسول ولا أمر به نصًّا وأنتم لا نراكم تتجنبون هذه المصاحف بل تستعملونها وتتخذونها في بيوتكم فإن كنتم صادقين فابدؤوا بكشط المصاحف، إزالة النقط عنها وأسماءِ السور أيضًا في أوائل السور، أسماءُ السور ما كانت مكتوبة في مصاحف عثمان ما كتب في أول البقرة سورة البقرة، في أول ءال عمران ما كان مكتوبًا سورة آل عمران في تلك المصاحف التي كتبها الصحابة كل هذا أزيلوه جردوا القرءان. من كل هذا من النقط ومن أسماء السور ومن الإعراب كذلك، كانوا أولَ ما فعلوا بعض الأعمال في المصحف كانوا بين ءاية وءاية ثلاثً نقط كانوا يضعون ثم بعد ذلك تحولوا إلى وضع دائرة مع الأرقام، كذلك لم تكن في مصاحف الصحابة كتابةُ عدد ءايات السورة أما اليوم هذه المصاحف فيها التنقيط فيها ذكر أنها مدنية أو مكية وفيها أشياء أخرى وفيها التعشير أي وضع علامة على كل عشر ءايات، كذلك علامةٌ على كل حزب وعلى كل جزء ورقم الصفحة كل هذا ما كان أيام الرسول ما فعله الرسول ما أمر بفعل ذلك.
والله تعالى أعلم. انتهى.
([i]) رواه ابن حبان في صحيحه، باب ذكر وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
([ii]) باب الْحثّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ طَيّبَةٍ وَأَنَّهَا حِجَابٌ مِنَ النَّارِ.