الإثنين ديسمبر 8, 2025

بيان الاجتهاد وشروطه

الاجتهاد هو استخراج الأحكام التي لم يرد فيها نص صريح لا يحتمل إلا معنى واحدًا من الكتاب والسنّة، فالمجتهد هو من له أهلية ذلك بأن يكون عالمًا بالأحكام في كتاب الله، وبناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصه، ومطلقه ومقيده وغير ذلك، ويستدل على ما احتمل التأويل بالسنّة وبالإجماع، فإن لم يكن فبالقياس على ما في الكتاب، فإن لم يكن فبالقياس على ما في السنّة، فإن لم يكن فبالقياس على ما اتفق عليه السلف وإجماع الناس ولم يعرف له مخالف. ولا يجوز القول في شىء من العلم إلا من هذه الأوجه، ولا يكون صالحًا لأن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقوال السلف وإجماع الناس واختلاف العلماء ولسان العرب، ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات، ولا يعجل ويسمع ممن خالفه ليتنبه بذلك على غفلةٍ إن كانت، وأن يبلغ غاية جهده، وينصف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما قال. وتشترط العدالة وهي السلامة من الكبائر ومن المداومة على الصغائر وهي أن تغلب على حسناته من حيث العدد. ويشترط فوق ذلك شرط هو ركن عظيم في الاجتهاد وهو فقه النفس، أي قوة الفهم والإدراك.

اختلاف المجتهدين

الاختلاف على وجهين:

الأول: الاختلاف في المنصوص عليه، ولا يحلّ الاختلاف فيه كالصلوات المفروضات وتحريم الزنى واللواط وغير ذلك؛ فمن علم بالنص ثم خالف في ذلك فقد كذب الله تعالى ورسوله في خبرهما فيحكم بكفره، ومن خالف ولم يعلم بالنص ولم ينكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس وتحريم الزنى واللواط وحِل البيع فلا يكفر.

والثاني: الاختلاف في غير المنصوص عليه والمجمع عليه ويسوغ فيه الاجتهاد كاختلاف بعض الصحابة في بعض المسائل، فقد اختلف اجتهاد أبي بكر عن اجتهاد علي وزيد بن ثابت في مسئلة توريث الإخوة مع الجدّ، وكذلك اختلاف الشافعي وأبي حنيفة في مسئلة نقض مسّ المرأة الأجنبية بلا حائل الوضوء.

المقلد:

وأما المقلد فهو الذي لم يصل إلى تلك المرتبة بل يعمل بما قال المجتهدون كالشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.

والدليل على أن المسلمين على هاتين المرتبتين قوله صلى الله عليه وسلم: “نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فربَّ حامل فقه لا فقه له”. والشاهد في الحديث قوله: “فرُبَّ حامل فقه لا فقه له”. وفي رواية: “فرُبَّ مبلّغ أوعى من سامع” فإنه يفهمنا أن من الناس مَنْ حظه الرواية فقط، وليس عنده مقدرة على فهم ما يتضمنه الحديث من المعاني، وفي لفظ لهذا الحديث “فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه”.

وهذا المجتهد هو مورد قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” وإنما خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحاكم بالذكر لأنه أحوج إلى الاجتهاد من غيره، فقد مضى مجتهدون في السلف حاكمون كالخلفاء الستة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن بن عليّ وعمر بن عبد العزيز، وكابن سريج القاضي. ومضى مجتهدون غير حاكمين كالشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم.

والمراد بالحاكم هنا المجتهد، قال النووي في شرح مسلم ما نصه: “قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجران أجر باجتهاده وأجر بإصابته وإن أخطأ فله أجر باجتهاده. وفي الحديث محذوف تقديره إذا أراد الحاكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له، بل هو ءاثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها ولا يعذر في شىء من ذلك” اهــ.

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ما نصه: “وقع في الحديث بدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس فإن الاجتهاد يتقدم الحكم إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتفاقًا” اهــ.

وقد عدّ علماء الحديث الذين ألّفوا في كتب مصطلح الحديث المفتين في الصحابة أقلَّ من عشرة، فإذا كان الأمر في الصحابة هكذا فمن أين يصح لكل مسلم يستطيع أن يقرأ القرءان ويطالع في بعض الكتب أن يقول: “أولئك رجال ونحن رجال فليس علينا أن نقلّدهم”، وقد ثبت أن أكثر السلف كانوا غير مجتهدين، بل كانوا مقلّدين للمجتهدين منهم. ففي صحيح البخاري أن رجلًا كان أجيرًا لرجل فزنى بامرأته فسأل أبوه فقيل له: إنّ على ابنك مائة شاة وأمة، ثم سأل أهل العلم فقالوا له: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوج المرأة فقال: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفًا (أي أجيرًا) على هذا وزنى بامرأته فقال لي ناس: على ابنك الرجم ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لأقضينّ بينكما بكتاب الله، أمّا الوليدة والغنم فردّ عليه، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام”. فهذا الرجل مع كونه من الصحابة سأل أناسًا من الصحابة فأخطؤوا الصواب، ثم أفتاه الرسولُ بما يوافق ما قاله أولئك العلماء من الصحابة.

فإذا كان الرسول أفهمنا أن بعض من كانوا يسمعون منه الحديث ليس لهم فقه أي مقدرة على استخراج الأحكام من حديثه، وإنما حظهم أن يرووا عنه ما سمعوه مع كونهم يفهمون اللغة العربية الفصحى، فما بال هؤلاء الغوغاء الذين يتجرءون على قول “أولئك رجال ونحن رجال” ويعنون بقولهم: “أولئك رجال” المجتهدين كالأئمة الأربعة.

وفي هذا المعنى ما أخرجه أبو داود من قصة الرجل الذي كانت برأسه شجّة فأجنب في ليلة باردة فاستفتى من معه، فقالوا له: اغتسل، فاغتسل فمات، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “قتلوه قتلهم الله” فإنه لو كان الاجتهاد يصح من مطلق المسلمين لما ذمّ رسول الله هؤلاء الذين أفتوه وليسوا من أهل الفتوى.

ثم وظيفة المجتهد التي هي خاصة له القياس أي أن يعتبر ما لم يرد فيه نصٌّ بما ورد فيه نصٌّ لشبه بينهما. فالحذر الحذر من الذين يحثُّون أتباعهم على الاجتهاد مع كونهم وكون متبوعيهم بعيدين عن هذه الرتبة، فهؤلاء يخربون ويدعون أتباعهم إلى التخريب في أمور الدين؛ وشبيه بهؤلاء أناس تعوّدوا في مجالسهم أن يوزعوا على الحاضرين تفسير ءاية أو حديث ثم يبدي كلٌّ رأيه مع أنه لم يسبق لهم تلقّ معتبر من أفواه العلماء. وهؤلاء المدّعون شذّوا عن علماء الأصول لأن علماء الأصول قالوا: القياس وظيفة المجتهد، وخالفوا علماء الحديث أيضًا.

فالاجتهاد مشروع لأهله وليس لكل فرد من أفراد المسلمين وإلا لضاع الدين، والفوضى لا تليق بالدين قال الأفْوَهُ الأوْدِيُّ: [البسيط]

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراةَ لهُمْ

ولا سراةَ إذا جهالُهُم سَادُوا

وروى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: “تفقّهوا قبل أن تسوّدوا”.

ولقد قيّض الله تعالى لخدمة دينه علماء أمناء متقين ورعين، وأمر بالرجوع إليهم في أمر دينهم فقال: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {43} [سورة النحل] ومن هؤلاء أصحاب المذاهب الأربعة الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد. ثم لم يشترط هؤلاء وغيرهم من المجتهدين على الذين يريدون اتباع مذاهبهم معرفة الدليل وطريق الاستنباط، كما أن الصحابة لم يكونوا ملتزمين بذكر الدليل عند الإفتاء.

قال الزركشي في تشنيف المسامع ممزوجًا بالمتن ما نصه: “وقال – أي ابن دقيق العيد – في خطبة شرح الإلمام: والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمة الشريفة لا بد فيها من سالك إلى الحق على واضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى ويتتابع بعده ما لا يبقى معه إلا قدوم الأخرى، ومراده بالأشراط الكبرى طلوع الشمس من مغربها مثلاً ونحوه، وقد يوجه ما اختاره من أنه لا يخلو الزمان عن مجتهد لئلا يلزم اجتماع الأمة على ترك الاجتهاد الذي هو فرض على الكفاية، وله أن يحمل الحديث السابق “حتى إذا لم يبق” على ما قبل ذلك، وقال والده العلامة مجد الدين في كتابه تلقيح الأفهام عَزَّ المجتهد في هذه الأعصار: وليس ذلك لتعذر حصول ءالة الاجتهاد بل لإعراض الناس في اشتغالهم عن الطريق المفضية إلى ذلك” اهــ.

التحول والتلفيق:

وأما التحوّل من مذهب لآخر فيجوز إذا لم يؤد إلى مخالفة الإجماع، أي لم يؤد إلى عمل اتفق المجتهدون على عدم جوازه.

وأما تتبع رخص المذاهب فيجوز لا على الإطلاق، بل لا بد من مراعاة ما اعتبره المجتهدون في المسألة التي وقع التقليد فيها مما يتوقف عليه صحتها كي لا يقع في حكم مسئلة واحدة تركيبٌ من اجتهادين لم يجزه واحدٌ من المجتهدين.

والمعتمد أن تتبع الرخص ليس بفسق كما قال بعض الشافعية وغيرهم وقد صرّح بذلك ابن أمير الحاج الحنفي تلميذ الحافظ ابن حجر وغيره، بل هو القول الراجح الموافق للحديث الذي أخرجه البخاري: “ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا” وحديث البخاري أيضًا: “كان رسول الله يحب ما يخفف عن أمّته”.

والتلفيق جوّزه بعض ومنعه بعض، فالذين جوّزوه أجازوا لمن كان متوضئًا على مذهب أبي حنيفة وضوءًا صحيحًا ثم لمس امرأة أجنبية أن يصلي على مذهب الشافعي، وقد قال العلماء: إن ترك التلفيق أحسن خروجًا من الخلاف.

فائدة: من كتاب التقرير والتحبير لابن أمير الحاج في بيان جواز تقليد المجتهد والانتقال إلى مجتهد ءاخر وتتبع الرخص، وأن العامي لا مذهب له ولا يجب عليه التزام مذهب على الدوام بل يجوز له الانتقال عنه إلى مذهب ءاخر، قال ممزوجًا بالمتن ما نصه:

“مسئلة: لا يرجع المقلد فيما قلّد المجتهد فيه أي عمل به اتفاقًا، ذكره الآمدي وابن الحاجب؛ لكن قال الزركشي: وليس كما قالا، ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضًا، وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته، لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلّف به ما لم يظهر له غيره والعامي لا يظهر له، بخلاف المجتهد حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة؛ وفصّل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك كالحنفي يقلّد في الوتر، أو من الحظر إلى الإباحة ليفعل كالشافعي يقلّد في أن النكاح بغير ولي جائز، والفعل والترك لا ينافي الإباحة واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله، فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد، وإن كان بالعكس فإن كان يعتقد الإباحة يقلّد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد، وليس في العامي إلا هذه الأقسام، نعم المفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشىء واجبًا أو مباحًا أو حرامًا ليس له أن يقلد ويفتي بخلافه لأنه حينئذ محض تشهي كذا.اه‍.

قلت: والتوجيه المذكور ساقط فإن المسئلة موضوعة في العامي الذي لم يلتزم مذهبًا معينًا كما يفصح به لفظ الآمدي، ثم ذكرهما بعد ذلك ما لو التزم مذهبًا معينًا على أن الالتزام غير لازم على الصحيح كما ستعلم، وقد قال الإمام صلاح الدين العلائي: ثم لا بد وأن يكون ذلك مخصصًا بحالة الورع والاحتياط إذ لا يمنع فقيه من الرجوع في مثل ذلك.

قلت: وقد قدمنا في فصل التعارض أن مشايخنا قالوا في القياسين إذا تعارضا واحتيج إلى العمل يجب التحري فيهما، فإذا وقع في قلبه أن الصواب أحدهما يجب العمل به، وإذا عمل به ليس له أن يعمل بعده بالآخر إلا أن يظهر خطأ الأول وصواب الآخر فحينئذ يعمل بالثاني، أما إذا لم يظهر خطأ الأول فلا يجوز له العمل بالثاني لأنه لما تحرى ووقع تحريه على أن الصواب أحدهما وعمل به وصح العمل حكم بصحة ذلك القياس وأن الحق معه ظاهرًا، وببطلان الآخر وأن الحق ليس معه ظاهرًا مما لم يرتفع ذلك بدليل سوى ما كان موجودًا عند العمل به لا يكون له أن يصير إلى العمل بالآخر، فعلى قياس هذا إذا تعارض قولا مجتهدين يجب التحري فيهما فإذا وقع في قلبه أن الصواب أحدهما يجب العمل به وإذا عمل به ليس له أن يعمل بالآخر إلا إذا ظهر خطأ الأول، لأن تعارض أقوال المجتهدين بالنسبة إلى المقلد كتعارض الأقيسة بالنسبة إلى المجتهد، وستسمع عنهم أيضًا ما يشدّه. والله سبحانه أعلم.

وهل يقلد غيره أي غير من قلده أوّلا في شىء في غيره أي غير ذلك الشىء، كأن يعمل أوّلا في مسئلة بقول أبي حنيفة وثانيًا في أخرى بقول مجتهد ءاخر، المختار كما ذكر الآمدي وابن الحاجب نعم للقطع بالاستقراء التام بأنهم أي المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة وهلم جرًا كانوا يستفتون مرة واحدًا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيًّا واحدًا وشاع وتكرر ولم ينكر؛ وهذا إذا لم يلتزم مذهبًا معينًا فلو التزم مذهبًا معينًا كأبي حنيفة أو الشافعي فهل يلزمه الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسئلة من المسائل فقيل: يلزم لأنه بالتزامه يصير ملزمًا به كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة، ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وقيل لا يلزم وهو الأصح كما في الرافعي وغيره لأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره، على أن ابن حزم قال: أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله.اه‍.

وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة بل قال أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله، يوضحه أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جدًّا عن سيرة الإمام وعلمه بطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من المعنى، كذا ذكره فاضل متأخر.

قلت: ولو شاححه مشاحح في أن قائل أنا حنفي مثلًا لم يرد به أنه متبع لأبي حنيفة في جميع هذا المذكور بل متبعه في الموافقة فيما أدى إليه اجتهاده عملًا واعتقادًا فسيظهر جوابه مما يذكره قريبًا.

ثم قال الإمام صلاح الدين العلائي: والذي صرّح به الفقهاء في مشهور كتبهم جواز الانتقال في ءاحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهب إمامه الذي يقلد مذهبه إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص، وشبّهوا ذلك بالأعمى الذي اشتبهت عليه أواني ماء وثياب تنجس بعضها، إذا قلنا ليس له أن يجتهد فيها بل يقلد بصيرًا يجتهد فإنه يجوز أن يقلد في الأواني واحدًا وفي الثياب ءاخر ولا منع من ذلك؛ وقيل: كمن لم يلتزم، إن عمل بحكم تقليدًا لمجتهد لا يرجع عنه، أي عن ذلك الحكم، وفي غيره أي غير ما عمل به تقليدًا لمجتهد له تقليد غيره من المجتهدين، قال السبكي: وهو الأعدل، وقال المصنف: وهو الغالب على الظن لعدم ما يوجبه أي اتباعه فيما لم يعمل به شرعًا، بل الدليل الشرعي اقتضى العمل بقول المجتهد وتقليده فيه فيما احتاج إليه وهو قوله تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {43} [سورة النحل] والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة المعينة، وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عمله به، والتزامه لم يثبت من السمع اعتباره ملزمًا، كمن التزم كذا لفلان من غير أن يكون لفلان عليه ذلك لا يحكم عليه به إنما ذلك في النذر لله تعالى، ولا فرق في ذلك بين أن يلتزم بلفظه كما في النذر، أو بقلبه وعزمه على أن قول القائل مثلًا: قلّدت فلانًا فيما أفتى به من المسائل تعليق التقليد أو الوعد به ذكره المصنف وقال: ويتخرج منه أي من كونه كمن لم يلتزم جواز اتباعه رخص المذاهب أي أخذه من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل، ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن عمل بآخر فيه، وقال أيضًا: والغالب أن مثل هذه إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص وإلا أخذ العامي في كل مسئلة بقول مجتهد قوله [الذي هو] أخفّ عليه، وأنا لا أدري ما يمنع هذا من العقل والسمع وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوَّغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمّه عليه؛ وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفّف عليهم كما قدمنا في فصل الترجيح أن البخاري أخرجه عن عائشة بلفظ: عنهم، وفي لفظ: ما يخفف عنهم، أي أمّته وذكرنا ثمة عدة أحاديث صحيحة دالة على ذلك. قلت: لكن ما [مرّ] عن ابن عبد البرّ من أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا إن صح احتاج إلى جواب، ويمكن أن يقال لا نسلّم صحة دعوى الإجماع إذ في تفسيق المتتبع للرخص عن أحمد روايتان، وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأوّل ولا مقلد، وذكر بعض الحنابلة إن قوي دليل أو كان عاميًّا لا يفسق، وفي روضة النووي وأصلها عن حكاية الحناطي وغيره عن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق به، ثم لعله محمول على نحو ما يجتمع له من ذلك ما لم يقل بمجموعه مجتهد كما أشار إليه بقوله: وقيده أي جواز تقليد غيره متأخر وهو العلامة القرافي بأن لا يترتب عليه أي تقليد غيره ما يمنعانه أي يجتمع على بطلانه كلاهما، فمن قلّد الشافعي في عدم فرضية الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل، ومالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة للوضوء، فتوضأ ولمس بلا شهوة وصلى إن كان الوضوء بدلكٍ صحت صلاته عند مالك وإلا إن كان بلا دلك بطلت عندهما أي مالك والشافعي.

وقال الروياني: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها بثلاثة شروط: أن لا يجمع بينها على صورة تخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد، وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلد أميًّا في عماية، وألا يتتبع رخص المذاهب. وتعقب القرافي هذا بأنه إن أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي وهو أربعة: ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو حسن متعيّن، فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقرّه قبل ذلك، وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلّف كيفما كان يلزمه أن يكون من قلّد مالكًا في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفًا لتقوى الله وليس كذلك، وتعقب الأول بأن الجمع المذكور ليس بضائر فإن مالكًا مثلاً لم يقل إن من قلّد الشافعي في عدم الصداق إن نكاحه باطل، وإلاّ لزم أن تكون أنكحة الشافعية عنده باطلة، ولم يقل الشافعي إن من قلد مالكًا في عدم الشهود إن نكاحه باطل وإلاّ لزم أن تكون أنكحة المالكية بلا شهود عنده باطلة. قلت: لكن في هذا التوجيه نظر غير خاف، ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها، وأبدل الشرط الثالث بأن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع. واقتصر الشيخ عز الدين بن عبد السلام على اشتراط هذا وقال وإن كان المأخذان متقاربين جاز.

والشرط الثاني انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبًا بالدين متساهلًا فيه، ودليل هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم: “والإثم ما حاك في الصدر”. فهذا تصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم .اهــ. قلت: أما عدم اعتقاد كونه متلاعبًا بالدين متساهلاً فيه فلا بد منه، وأما انشراح صدره للتقليد فليس على إطلاقه، كما أن الحديث كذلك أيضًا وهو بلفظ: “والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس” في صحيح مسلم، وبلفظ: “والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك” في مسند أحمد، فقد قال الحافظ المتقن ابن رجب في الكلام على هذا الحديث مشيرًا إليه باللفظ الأول: إنه إشارة إلى أن الإثم ما أثّر في الصدر حرجًا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه وهو ما استنكره الناس فاعله وغير فاعله؛ ومن هذا المعنى قول ابن مسعود: “ما رءاه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن وما رءاه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح”، ومشيرًا إليه باللفظ الثاني يعني ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشىء مستنكرًا عند فاعله دون غيره وقد جعله أيضًا إثمًا، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان وكان المفتي له يفتي بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي فالواجب على المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره، وهذا كالرخص الشرعية مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصلاة ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدر كثير من الجهال فهذا لا عبرة به. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يأمر أصحابه بما لا ينشرح به صدر بعضهم فيمتنعون من فعله فيغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم. وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ {36} [سورة الأحزاب] وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الرضا والإيمان به والتسليم له كما قال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا {65} [سورة النساء] وأما ما ليس فيه نص عن الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شىء وحاك في صدره لشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا.اهــ.

بقي هل بمجرد وقوع صحة جواب المفتي وحقيته في نفس المستفتي يلزمه العمل به، فذهب ابن السمعاني إلى أن أولى الأوجه أنه يلزمه، وتعقبه ابن الصلاح بأنه لم يجده لغيره؛ قلت: وما ذكره ابن السمعاني موافق لما في شرح الزاهدي على مختصر القدوري وعن أبي أحمد العياضي العبرة بما يعتقده المستفتي فكل ما اعتقده من مذهب حل له الأخذ به ديانة ولم يحل له خلافه اهــ. وما في رعاية الحنابلة: ولا يكفيه من لم تسكن نفسه إليه، وفي أصول ابن مفلح: الأشهر يلزمه بالتزامه، وقيل وبظنه حقًّا، وقيل ويعمل به، وقيل يلزمه إن ظنه حقًّا وإن لم يجد مفتيًا ءاخر لزمه كما لو حكم به حاكم.اهــ. يعني ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون نفسه إلى صحته كما صرّح به ابن الصلاح وذكر أنه الذي تقتضيه القواعد، وشيخنا المصنف رحمه الله على أنه لا يشترط ذلك لا فيما إذا وجد غيره ولا فيما إذا لم يوجد كما أسلفنا ذلك عنه في ذيل مسئلة إفتاء غير المجتهد، حتى قال لو استفتى فقيهين أعني مجتهدين فاختلفا عليه الأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما، وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه جاز، لأن ميله وعدمه سواء والواجب تقليد مجتهد وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ. اهــ. لكن عليه أن يقال ما قدمناه من أن القياس على تعارض الأقيسة بالنسبة إلى المجتهد يقتضي وجوب التحري على المستفتي والعمل بما يقع في قلبه أنه الصواب فيحتاج العدول عنه إلى الجواز بدونه إلى جواب.

ثم في غير ما كتاب من الكتب المذهبية المعتبرة أن المستفتي إن أمضى قول المفتي لزمه وإلا فلا، حتى قالوا إذا لم يكن الرجل فقيهًا فاستفتى فقيهًا فأفتاه بحلال أو حرام ولم يعزم على ذلك حتى أفتاه فقيه ءاخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه به الأول، لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدًا كان أو مقلّدًا، لأن المقلّد متعبد بالتقليد كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد؛ ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه فكذا لا يجوز للمقلد لأن اتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء واتصال القضاء يمنع النقض فكذا اتصال الإمضاء. هذا وذكر الإمام العلائي أنه قد يرجح القول بالانتقال في أحد صورتين: إحداهما إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدًا عليه أو أخذًا بالاحتياط، كما إذا حلف بالطلاق الثلاث على فعل شىء ثم فعله ناسيًا أو جاهلًا أنه المحلوف عليه، وكان مذهب إمامه الذي يقلّده يقتضي عدم الحنث بذلك، فأقام مع زوجته عاملًا به ثم تَحَرَّجَ منه لقول من أوقع الطلاق في هذه الصورة فإنه يستحب له الأخذ بالاحتياط والتزام الحنث، ولذلك قال أصحابنا إن القصر في سفر جاوز ثلاثة أيام أفضل من الإتمام، والإتمام فيما إذا كان أقل من ذلك أفضل احتياطًا للخلاف في ذلك. والثانية إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلًا صحيحًا من الحديث ولم يجد في مذهب إمامه جوابًا قويًّا عنه ولا معارضًا راجحًا عليه، إذ المكلف مأمور باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما شرعه فلا وجه لمنعه من تقليد من قال بذلك من المجتهدين محافظة على مذهب التزم تقليده.اهــ.

قلت: وهذا موافق لما أسلفناه عن الإمام أحمد والقدوري وعليه مشى طائفة من العلماء منهم ابن الصلاح وابن حمدان. والله سبحانه أعلم.

تكملة: نقل الإمام في البرهان إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة بل من بعدهم أي بل قال: بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ووضعوا ودوّنوا لأنهم أوضحوا طرق النظر وهذبوا المسائل وبيّنوها وجمعوها، بخلاف مجتهدي الصحابة فإنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد ولم يقرروا لأنفسهم أصولا تفي بأحكام الحوادث كلها وإلا فهم أعظم وأجلّ قدرًا، وقد روى أبو نعيم في الحلية أن محمد بن سيرين سئل عن مسئلة فأحسن فيها الجواب، فقال له السائل ما معناه ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا، فقال محمد: لو أردنا فقههم لما أدركته عقولنا. وعلى هذا أي على أن عليهم أن يقلّدوا الأئمة المذكورين لهذا الوجه ما ذكر بعض المتأخرين وهو ابن الصلاح منع تقليد غير الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله لانضباط مذاهبهم وتقييد مطلق مسائلهم وتخصيص عمومها وتحرير شروطها إلى غير ذلك، ولم يُدْرَ مثله أي هذا الشىء في غيرهم من المجتهدين الآن لانقراض أتباعهم.

وحاصل هذا أنه امتنع تقليد غير هؤلاء الأئمة لتعذر نقل حقيقة مذهبهم وعدم ثبوته حق الثبوت لا لأنه لا يقلد، ومن ثمة قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقًا وإلا فلا.

وقال أيضًا: إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله، هذا وقد تعقب بعضهم أصل الوجه لهذا بأنه لا يلزم من سبر هؤلاء كما ذكر وجوب تقليدهم لأن من بعدهم جمع وسبر، كذلك إن لم يكن أكثر ولا يلزم وجوب اتباعهم بل الظاهر في تعليله في العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابي لكان فيه من المشقة عليهم من تعطيل معايشهم وغير ذلك ما لا يخفى، وأيضًا كما قال ابن المنيّر يتطرق إلى مذاهب الصحابة احتمالات لا يتمكن العامي معها من التقليد، ثم قد يكون الإسناد إلى الصحابي لا على شروط الصحة، وقد يكون الإجماع انعقد بعد ذلك القول على قول ءاخر، ويمكن أن تكون واقعة العامي ليست الواقعة التي أفتى فيها الصحابي وهو ظان أنها هي لأن تنزيل الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها غلطًا، وبالجملة القول بأن العامي لا يتأهل لتقليد الصحابة قريب من القول بأنه لا يتأهل للعمل بأدلة الشرع إما لأن قوله حجة فهو ملحق بقول الشارع وإما لأنه في علو المرتبة يكاد يكون حجة، فامتناع تقليده لعلو قدره لا لنزوله فلا جرم أن قال المصنف: وهو أي هذا المذكور صحيح بهذا الاعتبار، وإلا فمعلوم أنه لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدوّن وأنه لا يلزم أحدًا أن يتمذهب بمذهب أحد الأئمة بحيث يأخذ بأقواله كلها ويدع أقوال غيره كما قدمناه بأبلغ من هذا، ومن هنا قال القرافي: انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم أن من استفتى أبا بكر أو عمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير، فمن ادعى دفع هذين الإجماعين فعليه الدليل.

هذا وقد تكلم أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم، قال ابن المنير: وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، فما من واحد منهم إذا تجرد النظر إلى خصائصه إلا ويفنى الزمان لناشرها دون استيعابها، وهذا سبب هجوم المفضلين على التعيين فإنه لغلبة ذلك على المفضل لم يبق فيه فضلة لتفضيل غيره عليه، وإلى ضيق الأذهان عن استيعاب خصائص المفضلين جاءت الإشارة بقوله تعالى: وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءايَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا {48} [سورة الزخرف]، ويريد والله أعلم أن كل ءاية إذا جرد النظر إليها قال الناظر هي أكبر الآيات وإلا فما يتصور في ءايتين أن يكون كل منهما أكبر من الأخرى بكل اعتبار وإلا لتناقض الأفضلية والمفضولية، والحاصل أن هؤلاء الأربعة انخرقت بهم العادة على معنى الكرامة عناية من الله تعالى بهم إذا قيست أحوالهم بأحوال أقرانهم، ثم اشتهار مذاهبهم في سائر الأقطار واجتماع القلوب على الأخذ بها دون ما سواها إلا قليلًا على ممر الأعصار مما يشهد بصلاح طويتهم وجميل سريرتهم ومضاعفة مثوبتهم ورفعة درجتهم، تغمدهم الله تعالى برحمته وأعلى مقامهم في بحبوحة جنته وحشرنا معهم في زمرة نبينا محمد وعترته وصحابته وأدخلنا بصحبتهم دار كرامته”.انتهى ما قاله ابن أمير الحاج.