بيان أن عورة المراة أمام الرجل الأجنبي جميع بدنها سوى وجهها وكفيها
اعلم أن عورة المرأة أمام الرجل الأجنبي جميع بدنها سوى وجهها وكفيها، فيجوز لها أن تخرج من بيتها كاشفة وجهها إجماعا.
وقد نقل هذا الإجماع ابن حجر الهيتمي في كتابيه الفتاوى الكبرى وحاشية شرح الإيضاح على مناسك الحج للنووي.
ففي الأول: “وحاصل مذهبنا أن إمام الحرمين نقل الإجماع على جواز خروج المرأة سافرة الوجه وعلى الرجال غض البصر” اهــ
وقال في الثاني: “إنه يجوز لها كشف وجهها إجماعا وعلى الرجال غض البصر، ولا ينافيه الإجماع على أنها تؤمر بستره لأنه لا يلزم من أمرها بذلك للمصلحة العامة وجوبه”. اهــ
وقال في موضع ءاخر فيه: “قوله – أي النووي -: أو احتاجت المرأة إلى ستر وجهها، ينبغي أن يكون من حاجتها لذلك ما إذا خافت من نظر إليها يجر لفتنة، وإن قلنا لا يجب عليها ستر وجهها في الطرقات كما هو مقرر في محله”. اهــ
وقال زكريا الأنصاري في شرح الروض ما نصه: “وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء أي منع الولاة لهن مما ذكر – أي من الخروج سافرات – لا ينافي ما نقله القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة وعلى الرجال غض البصر عنهن لقوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم {30} [سورة النور] الآية، لأن منعهن من ذلك لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته بل لأنه سنة وفيه مصلحة عامة وفي تركه إخلال بالمروءة كالإصغاء من الرجل لصوتها فإنه جائز عند أمن الفتنة، وصوتها ليس بعورة على الأصح في الأصل”. اهــ
وقال الإمام المجتهد ابن جرير الطبري في تفسيره ما نصه: “حدثنا ابن بشار قال ثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن في قوله: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها {31} قال: الوجه والثياب، وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك الوجه والكفان، يدخل في ذلك إذا كان كذلك: الكحل والخاتم والسوار والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل لإجماع الجميع على أن على كل مصل أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وان عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف، فإذا كان من جميعهم إجماعا كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة، كذلك للرجال، لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: إلا ما ظهر منها {31}، لأن كل ذلك ظاهر منها. وقوله: وليضربن بخمرهن على جيوبهن {31} يقول تعالى ذكره: وليضربن بخمرهن {31} وهي جمع خمار، على جيوبهن {31} ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وقرطهن.
وقد جاء عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم أنهم فسروا قوله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها {31} [سورة النور] بالوجه والكفين، قال الشيخ البكري الدمياطي ما نصه: “قال ابن عباس وعائشة: هو الوجه والكفان، ولأنهما لو كانا عورة في العبادات لما وجب كشفهما في الإحرام، ولأن الحاجة تدعو إلى إبرازهما”.
وهذا هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة كحديث المرأة الخثعمية الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد من طريق عبد الله بن عباس قال: “جاءت امرأة خثعمية غداة العيد، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: “حجي عنه”، قال ابن عباس: وكانت شابة وضيئة، فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حسنها، فلوى رسول الله عنق الفضل”. وعند الترمذي من حديث علي: “قال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ فقال: “رأيت شابا وشابة فلم ءامن الشيطان عليهما”، قال ابن عباس: وكان ذلك بعد ءاية الحجاب. اهــ
ولفظ البخاري عن عبد الله بن عباس قال: أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه ما نصه: “قال ابن بطال: في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع، قال: ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه، قال: وفيه مغالبة طباع البشر لابن ءادم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي الخثعمية بالاستتار لما صرف وجه الفضل. قال: وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا لإجماعهم على أن المرأة تبدي وجهها في الصلاة ولو رءاه الغرباء، وأن قوله: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم {30} [سورة النور] على الوجوب في غير الوجه. قلت: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة”. اهــ
أقول: تعقب الحافظ لكلام ابن بطال مدفوع لأنه كان يمكنها أن تجمع بين المصلحتين مصلحة الإحرام ومصلحة تغطية الوجه بأن تجافي الساتر بشىء يمنع من مسه وجهها، كما جاء ذلك عن أمهات المؤمنين في سفرهن للحج أنهن كن إذا حاذين الركب سدلن على وجوههن فإذا جاوزن رفعن الساتر، كما رواه أبو داود وابن أبي شيبة وغيرهما، فلو كان سكوته صلى الله عليه وسلم عن أمر الخثعمية بتغطية وجهها لأجل إحرامها لأمرها بسدل الساتر على وجهها مع مجافاته حتى لا يلتصق بالوجه لكنه لم يأمرها، ولما لم يأمر المرأة الخثعمية بتغطية وجهها في ذلك الجمع الكبير الذي قال جابر في وصف ما كان من الحجاج عندما خرج النبي من المدينة: إن الناس كانوا مد البصر في جوانبه الأربعة: أمامه وخلفه ويمينه وشماله، علم من ذلك عدم وجوبه، ولو كان واجبا لأمرها بذلك. فتبين بما ذكرنا أن دعوى بعض أن سكوت النبي على كشف الخثعمية وجهها كان لأجل الإحرام دعوى فاسدة لا عبرة بها. فسكوته صلى الله عليه وسلم دليل ظاهر على أن وجه المرأة من غير أمهات المؤمنين يجوز كشفه في الطرق ونحوها، لأن هذه الخثعمية كانت عند الرمي وذلك الموضع يكثر فيه اجتماع الحجاج حتى إنه يحصل كثيرا التلاصق بين الرجال والنساء من شدة الزحمة بلا تعمد.
وروى الحديث أيضا البخاري في كتاب الحج عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: “نعم”، وذلك في حجة الوداع”. اهــ
قال الحافظ ابن حجر: “قوله: فجاءته امرأة من خثعم – بفتح المعجمة وسكون المثلثة – قبيلة مشهورة، قوله: فجعل الفضل ينظر إليها، في رواية شعيب: وكان الفضل رجلا وضيئا أي جميلا وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها. قوله: يصرف وجه الفضل، في رواية شعيب: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فدفع وجهه عن النظر إليها، وهذا هو المراد بقوله في حديث علي: فلوى عنق الفضل. ووقع في رواية الطبري في حديث علي: وكان الفضل غلاما جميلا فإذا جاءت الجارية من هذا الشق صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر، فإذا جاءت إلى الشق الآخر صرف وجهه عنه، وقال في ءاخره: “رأيت غلاما حدثا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان”. اهــ
وفي هذا الحديث دلالة على رجحان جواز كشف المرأة وجهها مع خوف الفتنة، وهذا ما قاله شارح مختصر خليل محمد عليش المالكي في كتاب الصلاة، ومحل الدليل في الحديث قوله عليه السلام: “رأيت غلاما حدثا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان”، ومقابله ما ذكره بعض الشافعية من المتأخرين كالشيخ زكريا الأنصاري والرملي، وهذه الرواية التي عزاها الحافظ للطبري صحيحة أو حسنة عند ابن حجر لأنه التزم في المقدمة أن ما يورده من الأحاديث مما هو شرح لرواية البخاري أو زيادة عليها فهو صحيح أو حسن.
قال صاحب المبسوط الحنفي: “ثم لا شك أنه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفيها”. اهــ
وقال الشيخ محمد عليش المالكي في شرح مختصر خليل ممزوجا بالمتن: “وهي – أي العورة – من حرة مع رجل أجنبي مسلم جميع جسدها غير الوجه والكفين ظهرا وبطنا، فالوجه والكفان ليسا عورة فيجوز لها كشفهما للأجنبي وله نظرهما إن لم تخش الفتنة، فإن خيفت به فقال ابن مرزوق: مشهور المذهب وجوب سترهما، وقال عياض: لا يجب سترهما ويجب عليه غض بصره”. اهــ
والراجح عدم اشتراط أمن الفتنة لما في حديث الخثعمية السابق الذكر من أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للعباس: “رأيت غلاما حدثا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان”.
فلا حجة في قول بعض المتأخرين ممن ليسوا من أهل الوجوه إنما هم نقلة إن ستر الوجه في هذا الزمن واجب على المرأة دفعا للفتنة لا لأنه عورة لأمرين، أحدهما أن هذا القول أي اشتراط أمن الفتنة منها أو عليها لعدم وجوب ستر الوجه كما زعمه بعض الشافعية وهو مذكور في شرح المهذب وشرح روض الطالب وشرح الرملي على منهاج الطالبين، ليس منقولا عن إمام كالشافعي أو غيره من الأئمة ولا هو منقول عن أصحاب الوجوه في المذهب. وكيفما كان الأمر فالصحيح ما وافق النص. والمراد بالفتنة في هذه المسألة الداعي إلى جماع أو خلوة أو نحوهما كما صرح بذلك زكريا الأنصاري.
ويشهد لما قدمنا ما رواه ابن حبان مرفوعا من حديث ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فكان إذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله في شأنها: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين {24} [سورة الحجر]، فالشاهد فيه أن الرسول لم يقل لتلك المرأة الحسناء انقبعي في بيتك أو تعالي مغطية وجهك، فلما لم يقل ذلك علمنا أن خوف الفتنة لا يناط به الحكم. ثم الإجماع الذي انعقد على أنه يجوز للمرأة كشف وجهها وعلى الرجال غض البصر لا ينتقض حكمه برأي بعض المتأخرين، وهذا الإجماع قد نقله ابن حجر الهيتمي الشافعي في حاشية الإيضاح وغيره بعد نقل القاضي عياض المالكي لذلك، قد أسفر الصبح لذي عينين.
قال الإمام ابن حبيب أحد كبار المالكية ومن مشاهير متقدميهم من أهل القرن الثاني: “شهدت المدينة والجارية بارعة الجمال تخرج سافرة”، والجارية لغة: الفتاة حرة كانت أو أمة، وإذا أريد من دون البلوغ من البنات قيل جارية صغيرة أو جويرية، هكذا عرف الجارية صاحب لسان العرب وصاحب القاموس وغيرهما.
وأما ما في بعض كتب الشافعية ككتاب للشيخ زكريا الأنصاري وشمس الدين الرملي من تحريم خروج المرأة إذا خشيت فتنة منها أو عليها ولو بإذن الولي أو سيد الأمة أو الزوج فهذا لا يقوم عليه دليل، وهو ليس منقولا ولا أقيم عليه دليل لأن خشية الفتنة كانت في الصدر الأول ومع ذلك ما ورد النص في تحريم الخروج مع خشية الفتنة، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فما بال أقوام إذا غزونا يتخلف أحدهم عنا له نبيب كنبيب التيس” ففيه دليل على أنه كان في ذلك الزمان أناس يتتبعون النساء للفاحشة، ومع ذلك ما أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بتحريم خروج النساء سافرات الوجوه، ويؤكد ذلك ما تقدم من قول ابن حبيب المالكي المشهور.
وقد ثبت أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما سمع في بعض الليالي امرأة تقول: [البسيط]
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
فنفى عمر نصرا خوفا عليه من فتنة النساء به من فرط جماله، ولم يصدر حكما بتحريم خروجه كاشفا وجهه خشية فتنة النساء به، ففيما قدمنا دلالة ظاهرة على أن افتتان الرجال بالنساء كان موجودا في ذلك العصر بل والنساء بالرجال أيضا، وقصة نصر بن حجاج هذه صححها الحافظ ابن حجر وعزاها إلى ابن وسعد والخرائطي.
ولا يقال أيضا إن حديث: “احتجبا منه” خطابا لزوجتيه حين دخل ابن أم مكتوم دليل على أن وجه المرأة يجب ستره، فإن ذلك مختص بأزواج النبي كما قال أبو داود في سننه جمعا بينه وبين حديث فاطمة بنت قيس، الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: “اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده”، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم بين نسائه وبين غيرهن، لأنه سمح لفاطمة بنت قيس أن تضع ثيابها عند هذا الأعمى الذي قال لزوجتيه: “احتجبا منه”.
قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ما نصه: “وهذا جمع حسن، وبه جمع المنذري في حواشيه واستحسنه شيخنا” اهــ
وحديث فاطمة بنت قيس رواه مسلم وغيره، أما حديث “احتجبا منه”، أخرجه أبو داود في سننه، وهو مختلف في صحته كما ذكر الحافظ ابن حجر، فلا يجوز إلغاء حديث فاطمة بنت قيس من أجل حديث: “احتجبا منه”، لأن ذلك مخالف للقاعدة الأصولية والحديثية من أنه إذا تعارض حديثان جمع بينهما ما أمكن الجمع، والجمع هنا بين الحديثين ممكن بما قررنا. وقد تقرر هذا الحكم عند الأصوليين والمحدثين.
أما الحديث الذي رواه أبو داود أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: “يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا” وأشار إلى وجهه وكفيه، فهو مشهور بين الفقهاء – يعني اصطلاحا – وإن كان في سنده كلام.
قال الفخر الرازي في تفسير قول الله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن {31} [سورة النور] إلى ءاخر الآية ما نصه: “اختلفوا في المراد من قوله تعالى: إلا ما ظهر منها {31} [سورة النور]، أما الذين حملوا الزينة على الخلقة، فقال القفال: معنى الآية إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية، وذلك في النساء الوجه والكفان، وفي الرجل الأطراف من الوجه واليدين والرجلين، فأمروا بستر ما لا تؤدي الضرورة إلى كشفه ورخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه وأدت الضرورة إلى إظهاره، إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة، ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة” انتهى. وهذا نقل للإجماع من القفال وإقرار له عليه من الرازي.
وقال النووي في روضة الطالبين ما نصه: “وأما المرأة فإن كانت حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين” اهــ والكوع: هو طرف الزند الذي يلي الإبهام.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري في شرح الروض ممزوجا بالمتن ما نصه: “(وعورة الحرة في الصلاة وعند الأجنبي) ولو خارجها (جميع بدنها إلا الوجه والكفين) ظهرا وبطنا إلى الكوعين” اهــ
وفي حاشية الرملي على شرح الروض للأنصاري الشافعي ما نصه: “(قوله: لأنهما مظنة الفتنة – أي الوجه والكفين -) ولأنهما لو كانا عورة لما وجب كشفهما في الإحرام” اهــ
وفي كتاب البحر المذهب لأبي المحاسن الروياني الشافعي ما نصه: “فرع: يكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة لأن الوجه من المرأة ليس بعورة فهي كالرجل يكره له أن يصلي متلثما”. اهــ
أما ما يتعلق بلبس الثوب الضيق للمرأة الساتر للون البشرة فهو مكروه قال الروياني الشافعي في البحر ما نصه: “قال بعض أصحابنا: تجوز الصلاة في الثوب الواصف للون، وكذا ذكره القفال زمانا وألزم عليه فساد صلاة العريان في الماء الصافي فرجع عن ذلك ولو كان الثوب صفيقا يستر لونها جازت الصلاة فيه، وإن وصف حجم الأعضاء والجسد من الأليتين أو الفخذين أو الذكر، لأنه ما من ثوب إلا ويصف ذلك”. اهــ
وقد نقل شمس الدين الرملي في كتابه نهاية المحتاج أن ابن عباس وعائشة قالا في قوله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها {31} [سورة النور]: هو الوجه والكفان، وأن الساتر للعورة شرطه أن يكون يمنع إدراك لون البشرة، وإن حكى حجمها كسروال ضيق ولكنه مكروه للمرأة وخلاف الأولى للرجل. اهــ
ونقل ذلك أيضا عن ابن عباس وغيره الشيخ زكريا الانصاري في شرح روض الطالب.
وقال الشيخ البكري الدمياطي ممزوجا بالمتن ما نصه: “(قوله: ويكفي ما يحكي لحجم الأعضاء) أي ويكفي جرم يدرك الناس منه قدر الأعضاء كسراويل ضيقة و(قوله: لكنه خلاف الأولى) أي للرجل وأما المرأة والخنثى فيكره لهما” اهــ
وقال الشيخ محمد عليش المالكي في منح الجليل ممزوجا بالمتن: “وكره – بضم فكسر – لباس محدد – بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الدال مثقلة – أي مظهر حد العورة لرقته أو ضيقه وإحاطته أو باحتزام عليه ولو بغير صلاة، لإخلاله بالمروءة ومخالفته لزي السلف”. اهــ
وقال الباجي المالكي في شرح الموطإ ما نصه: “ويكره الرقيق الصفيق من الثياب لأنه يلصق بالجسد فيبدو حجم ما تحته وفيه بعض الوصف لما تحته” اهــ
وقال الشيخ البهوتي الحنبلي في كشاف القناع ما نصه: “(ويكره لبس ما يصف البشرة) أي مع ستر العورة بما يكفي في الستر لما تقدم أول الباب، ويأتي (للرجل والمرأة ولو في بيتها) نص عليه (إن رءاها غير زوج أو سيد تحل له)، قال في المستوعب: يكره للرجل والمرأة لبس الرقيق من الثياب وهو ما يصف البشرة غير العورة، ولا يكره ذلك للمرأة إذا كان لا يراها إلا زوجها ومالكها، وصحح معناه في الرعاية، وظاهر ما قدمه في شرح المنتهى يكره مطلقا”. اهــ
ثم قال: “(ويكره للنساء لبس ما يصف اللين والخشونة والحجم) لما روي عن أسامة بن زيد قال: كساني الرسول صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهدى له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما لك لا تلبس القبطية” قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال: “مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها” رواه أحمد (ويحرم عليهن لبس العصائب الكبار التي يتشبهن بلبسها بالرجال) لحديث أبي هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة لا يرين الجنة ولا يجدن ريحها” رواه مسلم”. اهــ
وفيه أيضا ما نصه: “(و) يكره (شد الوسط) بفتح السين (بما يشبه شد الزنار) بضم أوله، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب، رواه أبو داود. (ولو) كان شد الوسط بما يشبه شد الزنار (في غير صلاة لأنه يكره التشبه بالكفار كل وقت) لما تقدم (قال الشيخ: التشبه بهم) أي الكفار (منهي عنه إجماعا) لما تقدم (وقال: ولما صارت العمامة الصفراء أو الزرقاء من شعارهم حرم لبسها). اهــ (ويكره شد وسطه على القميص لأنه من زي اليهود) نقله حرب. وظاهر ما قدمه في الإنصاف: لا يكره (ولا بأس به) أي بشد الوسط بمئزر أو حبل أو نحوه مما لا يشبه الزنار (على القباء) لأنه من عادة المسلمين قاله القاضي. وقال ابن تميم: لا بأس بشد القباء في السفر على غيره، نص عليه، واقتصر عليه، قاله في الإنصاف. و(قال ابن عقيل: يكره الشد بالحياصة) وهو رواية حكاها في المبدع وغيره، وظاهره أن المقدم لا يكره (ويستحب) شد الوسط (بما لا يشبه الزنار) وفعله ابن عمر، قاله المجد في شرحه، وقال: نص عليه، للخبر (كمنديل ومنطقة ونحوها لأنه أستر للعورة) قال ابن تميم: إلا أن يشده لعمل الدنيا فيكره (ويكره لامرأة شد وسطها في الصلاة ولو بغير ما يشبه الزنار) لأن ذلك يبين به حجم عجيزتها وتقاطيع بدنها والمطلوب ستر ذلك، ومفهوم كلامه أنه لا يكره لها شد وسطها خارج الصلاة بما لا يشبه شد الزنار، قال في حاشية التنقيح: لأن شد المرأة وسطها معهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله كما صح أن هاجر أم إسماعيل اتخذت منطقا، وكان لأسماء بنت أبي بكر نطاقان. وأطلق في المبدع والتنقيح والمنتهى أنه يكره لها شد وسطها (وتقدم: لا تضم) المرأة (ثيابها) حال قيامها لأنه يبين فيه تقاطيع بدنها فيشبه الحزام” انتهى كلام البهوتي.
ومعلوم أن الكراهة عند الشافعية والحنابلة والمالكية في اصطلاحهم كراهة التنزيه، فهذه نقول صريحة بعدم حرمة لبس الضيق على النساء في الصلاة وخارجها. ولينظر في قوله فيما مر “يبين فيه تقاطيع بدنها” ما أصرحه في المراد، فإن تقاطع بدنها ما خصه بالدبر ولا بالصدر بل عم الجميع، فمن يقطع بتحريم لبس الضيق على النساء فماذا يفعل بهذه النقول، فهل يقول رأيي هو الصواب وما سواه باطل، وليعلم أنه قد خالف القاعدة المقررة في المذاهب الأربعة: “لا ينكر المختلف فيه إنما ينكر المجمع عليه إلا أن يكون فاعله يرى تحريمه”.
وقال الشيخ عبد القادر الرافعي مفتي الديار المصرية في التحرير المختار لرد المحتار ما نصه: “(قوله: وعلى هذا لا يحل النظر إلى عورة…. الخ) فيه أن ما نقله إنما هو في النظر إلى المرأة وعليها ثياب ملتصقة بها تصف جرمها، وهذا لا يفيد أن الحكم في الرجل كذلك للفرق الظاهر بينهما، وتخصيصهم الحكم المذكور بها يفيد أنه ليس كالمرأة فيه، وعلى ما قاله لا يخفى ما فيه من الحرج خصوصا في زماننا المعتاد فيه لبس الثياب الإفرنجية للكثير من أصناف الناس مما يصف ما تحتها، والظاهر إبقاء ما نقله الشارح على عمومه في حق الرجل. ورأيت في شرح المنتهى الحنبلي ما نصه: ويجب ستر عورة بما لا يصف البشرة أي لونها لأن الستر إنما يحصل بذلك لا أن لا يصف حجم العضو لأنه لا يمكن التحرز عنه” اهــ
وقال زكريا الأنصاري في كتابه أسنى المطالب شرح روض الطالب: “ولا يضرها بعد سترها اللون أن تحكي الحجم، لكنه للمرأة مكروه وللرجل خلاف الأولى قاله الماوردي وغيره” اهــ
وذكر مثل هذا ابن حجر الهيتمي في المنهاج القويم، والنووي في شرح المجموع.
وقال الإمام علاء الدين المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف: “فأما إن كان – أي الساتر – يستر اللون ويصف الخلقة لم يضر، قال الأصحاب: لا يضر إذا وصف التقاطيع ولا بأس بذلك، نص عليه – أي أحمد – لمشقة الاحتراز” اهــ
وقال فيه أيضا: “فأما المرأة فيكره الشد فوق ثيابها لئلا يحكي حجم أعضائها وبدنها. انتهى. قال ابن تميم وغيره: ويكره للمرأة في الصلاة شد وسطها بمنديل ومنطقة ونحوهما” اهــ
قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ما نصه: “وعورة الحرة ما سوى الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما من رءوس الأصابع إلى الكوعين” ثم قال: “وشرط الساتر ما منع إدراك لون البشرة لا حجمها فلا يكفي ثوب رقيق ولا مهلهل لا يمنع إدراك اللون، ولا زجاج يحكي اللون لأن مقصود الستر لا يحصل بذلك، أما إدراك الحجم فلا يضر لكنه للمرأة مكروه وللرجل خلاف الأولى، قاله الماوردي وغيره” اهــ
وروى ابن حبان في صحيحه: عن سهل بن سعد قال: “كن النساء يؤمرن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن لا يرفعن رءوسهن حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من الأرض من ضيق الثياب”.
فيتبين بعدما ذكرنا أن عورة المرأة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها، وأنه يجوز لها كشف الوجه والكفين، وأن على الرجال غض البصر، والأحسن أن تسترهما، وأن ما تستعمله المرأة لستر عورتها إن حكى الحجم وأظهر اللون لا يكفي، وإن حكى الحجم وستر اللون فهو كاف مع الكراهة، لأن المرأة لا تقدر على أن تلبس لباسا لا يحكي شيئا من عورتها على الإطلاق، والأحسن أن تلبس ما كان أوسع كالجلباب، والكراهية في المذاهب الثلاثة مذهب الشافعي ومالك وأحمد هي الكراهية التنزيهية أي ما لا عقاب على فعله وفي تركه ثواب.
فإن قال قائل: قول الفقهاء: يكفي ما ستر اللون ولو حكى الجسم كسروال ضيق مع الكراهة للمرأة وهو خلاف الأولى للرجل إنما هو في الصلاة فقط لا في خارجها.
قلنا: ذلك باطل مردود لقول ابن حجر الهيتمي وغيره بأن الحكم لا يختلف بين حال الصلاة وخارج الصلاة كما قدمنا. قال ابن حجر الهيتمي في شرحه المسمى بالمنهاج القويم ممزوجا بالمتن ما نصه: “(وشرط الساتر) في الصلاة وخارجها أن يشمل المستور لبسا ونحوه مع ستر اللون فيكفي (ما يمنع) إدراك (لون البشرة ولو) حكى الجسم كسروال ضيق لكنه للمرأة مكروه وخلاف الأولى للرجل” اهــ
وقد توارد نصوص الشافعية والحنابلة والمالكية في هذه المسئلة في أن لبس الضيق للمرأة مكروه وخلاف الأولى للرجل. فليس للحنفي الذي اعتمد على قول بعض المتأخرين منهم للكراهة التحريمية للبس الضيق الذي يصف حجم العورة في حق الرجال والنساء الإنكار على من يلبسه للقاعدة السابقة المتفق عليها: “لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه إلا أن يكون فاعله يرى تحريمه”.
وأما حكم النظر إلى وجه الأمرد غير الملتحي فقد ذكر الإمام الحافظ المجتهد ابن القطان ما نصه: “أنه يحرم في موطن بالإجماع، ويجوز في موطن بالإجماع، ويختلف فيه في موطن.
فالأول: هو أن يقصد بالنظر إليه التلذذ وإمتاع حاسة البصر بمحاسنه، بحيث يكون متعرضا لجلب الهوى، وولوع النفس الموقع له في الافتتان. هذا مما لا خلاف في تحريم النظر إليه بل يحرم بالإجماع أن يقصد إلى ذلك.
والثاني: هو أن ينظر إليه غير قاصد اللذة، وهو مع ذلك ءامن من الفتنة، فهذان شرطان: عدم قصد الالتذاذ، وعدم خوف الافتتان. فهذا لا خلاف فيه أنه لا إثم عليه في هذا النظر الواقع منه في هذا الموطن، ويكون حينئذ بنظره إليه بمثابة من ليس له أرب في النساء من الرجال، يجوز له من النظر إليهم ما يجوز لذلك من النظر إليهن، على ما سنبين إن شاء الله تعالى في باب نظر الرجال إلى النساء.
الثالث: هو أن يتوفر له أحد هذين الشرطين دون الآخر، وذلك أن يفوته قصد الالتذاذ فينظر لا بقصد الالتذاذ، فهذا أحد شرطي الجواز” اهــ
قال بعض العلماء: وكتاب ابن القطان أحسن ما ألف في بيان مسائل الإجماع والخلاف. ومعنى قوله: “أن يتوفر له أحد هذين الشرطين دون الآخر” أي أنهم اختلفوا فيما إذا كان انتفى قصد اللذة بالنظر إلى الأمرد ولم يحصل الأمن من الفتنة. والله أعلم.
وبما مر من النقول يعلم انتقاض قول بعض المتأخرين من أهل القرن الثاني عشر ونحوه إنه يجب ستر المرأة وجهها لا لأنه عورة بل دفعا للفتنة.
فائدة: ذكر الفقهاء الذين ألفوا في قواعد الفقه كالسيوطي، والحافظ أبي سعيد العلائي شيخ الحافظ العراقي وغيره، قاعدة من قواعدهم وهي: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، واحتج بهذه القاعدة بعض المتهورين في هذا العصر لتحريم كشف المرأة وجهها ولم يدر أن جواز الكشف مسئلة إجماعية نقلها القاضي عياض المالكي ونقلها ابن حجر الهيتمي الشافعي عن جمع كما تقدم، فهذا المتهور خالف الإجماع واستدل بالقاعدة في غير محلها، لأن هذه القاعدة ليست كلية بل هي أغلبية كما ذكر ذلك الحافظ أبو سعيد العلائي الشافعي في قواعده الفقهية، على أن ابن حجر قال إن هذه القاعدة لا تنطبق إذا كان هناك مفسدة متوهمة مع تحقق المصلحة.
وهذا الغر حمل القاعدة على غير وجهها فقال ما قال، فهو وإن كان احتج بما وجد في بعض كتب المتأخرين من الحنفية من أن وجه المرأة ليس عورة ولكن يجب ستره دفعا للفتنة، فقوله يرد بما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يأمر المرأة الخثعمية بتغطية وجهها لما سألته عند الجمرة غداة العيد عن مسئلة في الحج، وكانت شابة وضيئة وكان الفضل خلف النبي فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حسنها، وجعلت هي تنظر إليه أعجبها حسنه، حيث لم يقل لها اسدلي سترا على وجهك مع المجافاة من أجل إحرامك مع حصول الفتنة أي من غير أن يلصق الستر بوجهك فإن ذلك جائز للمحرمة. وقد قال العباس للرسول: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك فقال: “لقد رأيت شابا وشابة حدثة فلم ءامن الشيطان عليهما”.
فتبين مما ذكر من الإجماع وهذا الحديث المذكور أنه لا يبنى حكم عام على الأفراد لمجرد أن كثيرا من الناس تحصل لهم فتنة بالنظر إلى وجه المرأة، إنما يبنى وجوب غض البصر على من يخشى الافتتان ولا يجعل حكمه ساريا على جميع المكلفين.