تساهل بعض الناس واستحلوا النطق بكلمات الكفر في غير محله وادعوا أن لها تأويلًا، ومن أمثلة ذلك ما ادعاه بعض جهلة المتصوفة أن هذا البيت الذي ينشده بعض أدعياء الشاذلية وغيرهم في حضرة الذكر وهو قولهم:
فما في الوجود سوى واحد | ||
ولكن تكثر لما صفا | ||
فقال بعض هؤلاء: إن تأويله أن الله تكثَّر بصفاته.
قلنا: هذا تأويل بعيد وفيه زيادة في الكفر لأن هذا البيت فيه نسبة التغير إلى الله تعالى وهذا كفر، ونسبة حدوث الصفاء في ذاته تعالى كفر ونسبة التكثر إلى الله تعالى كفر، والله تعالى مستحيل عليه التغير فهو تعالى ذاته أزلي وصفاته أزلية بأزلية الذات، ولا يوصف الله بالصفاء ولا بالكدر لأن هذه أوصاف الخلق.
وهذا البيت موجود في بعض الكتب وفي الديوان المنسوب للشيخ عبد الغني النابلسي رضي الله عنه ولا نراه صحيحًا عنه بل نرى أنه مدسوس عليه ومفترى كما دُس على الشيخ محيي الدين بن عربي رضي الله عنه كما قال صاحب «المعروضات» الحنفي: «قد تيقنا أن اليهود دسوا عليه» وهذا الظن هو اللائق به وبأمثاله.
وليعلم أن كتاب «الفتوحات المكية» يحتوي على كلمات كثيرة من الكفر الصريح الذي لا تأويل له كما قال المحدث الحافظ وليُّ الدين العراقي في رسالة له سماها «الأجوبة المرضية»([1])، وكذا كتاب «فصوص الحكم» وبعض غيرهما من مؤلفات الشيخ محيي الدين بن عربي رضي الله عنه.
وأكثر ما في كتابيه المذكورَين مما هو مدسوس عليه مما ليس من كلامه كلمات الوحدة المطلقة ففي كتابه «الفتوحات المكية» ما يخالف ذلك فإن فيها ذم عقيدة الوحدة المطلقة وذم عقيدة الحلول.
فمما فيه لإبطال الوحدة المطلقة والحلول قوله في كتاب الأسرار من «الفتوحات المكية» ونص عبارته: «ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد»([2])، وقال: «من قال بالحلول فدينه معلول»([3]) اهــ.
وقد وقع الشطح والغلو من كثير من المنتسبين للطرق الصوفية لا سيما في عصرنا هذا فاعتقدوا اعتقادات كفرية وتلفظوا بأقوال شنيعة.
وقد تجرأ بعضهم فقال: «وقد ألف السادة الصوفية نفعنا الله بهم الكتب والرسائل في إثبات وحدة الوجود وأقاموا الأدلة النقلية والعقلية على إثباتها» اهـ.
الجواب: هذا الكلام مردود لأن الصوفية الذين على نهج الإمام الجنيد البغدادي رضي الله عنه ردوا هذه العقيدة الفاسدة قال السيد أبو العلمين الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه: «إياك والقولَ بالوحدة فإنه من الأباطيل»، وقال أيضًا ما نصه: «لفظتان ثُلمتان في الدين: القول بالوحدة، والشطح المجاوزُ حدَّ التحدث بالنعمة».
وقد تجرأ بعضهم فقال: هذه الكلمات من اصطلاحات الصوفية تواضعوا على ألفاظ وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها، فأجاب بعض الفضلاء عن تلبيس هذا الملبس بقوله: «إن أراد هذا المغفل بالصوفية الصوفية الحقيقية المسلمين التابعين للكتاب والسُّنَّة فزور وبهتان لأنهم إنما اصطلحوا على ألفاظ مطابقة في تفسيرها لقواعد الإسلام وأحكام الشرع غير مخالفة لشيء منها.
وإن أراد بالصوفية هؤلاء الملاحدة فإننا قد اطلعنا على اصطلاحاتهم المخالفة لقواعد الإسلام، واختبرنا مذهبهم حقيقة الاختبار فكله فاسد وإلى الوهم والخيال راجع وعائد.
فالحاصل: أن القائلين بالوحدة المطلقة لهم اعتقادٌ خارج عن الشرع والعقل وهم مصرِّحون بذلك، ويقولون إن متابعة العقل حِجاب وكذلك العلم الاستدلالي وإنما ينال العلم الذي يدَّعونه بالذوق لا بتقليد الأنبياء ولا ببراهين الحكماء بل بالتجلّي والكشف، فهذا إنكار لجميع الشرائع وصريح في عدم قبولها.
قال أبو الهدى الصيادي في كتابه «الكوكب الدري» ما نصه([4]): من قال أنا الله أو ما في الوجود إلا الله، أو لا موجود إلا الله أو الكل هو الله أو نحو ذلك فإن كان عاقلًا صاحيًا في قيد التكليف فلا خلاف بين المسلمين جميعًا في كفره لمخالفته نص القرءان إذ يلزم حينئذٍ نفي الخالق والمخلوق والرسول والمرسَل إليه والجنة والنار للزوم الاتحاد من هذا القول، وبهذا صرح بعضهم فقال:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا | ||
وما الله إلا راهب في كنيسة | ||
وهذا كفر وضلال تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، انتهى كلام الصيادي باختصار.
وما أشد تلبيس هؤلاء على الناس وما أكثر الـمُسَلِّمين لهم فلذلك قال الجنيد رضي الله عنه للحلاج: «لقد فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك» فتحققت فراسة الجنيد فيه فإنه قتل فخفت فتنته لأنه كان له طائفة كانوا يسمون الحلاجية زاغوا عن الحق وانحرفوا.
([1]) الأجوبة المرضية، مخطوط (ق/172).
([2]) الفتوحات المكية (4/371).