بسم الله الرحمن الرحيم
درسٌ ألقاهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الهرري الحبشي رحمهُ اللهُ تعالى في المركزِ الإسلاميّ في لُوزان في سويسرة في النصفِ الثاني من شهر جُمادى الأولى سنة ثمان وأربعمائة وألف من الهجرة الموافقِ للعاشرِ من كانون الثاني عامَ ثمانيةٍ وثمانينَ وتِسعمائةٍ وألفٍ ر وهوُ في بيانِ حقيقةِ التوسل. قال رحمه اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ لله ربّ العالَمينَ لهُ النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثّناءُ الحسنُ وصَلواتُ اللهِ البرّ الرحيمِ والملائكةِ الـمُقرّبينَ على سيدنا محمدٍ أشرفِ الـمُرسَلينَ وعلى جميعِ إخوانِهِ منَ النبيينَ والـمُرسلينَ. اللهم علّمنا ما جَهِلنا وذكَرنا ما نَسينا وانفَعْنا بما علَّمْتنا وزِدْنا علمًا ونَعوذُ بكَ من حالِ أهلِ النارِ.
أمّا بعدُ فقد رُوّينا في مُعجَمِ الطبرانيّ الصغيرِ وفي معجمهِ الكبيرِ بالإسنادِ المتصلِ من حديثِ عثمانَ بنِ حُنَيفٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال جاءَ أعمى إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ يا رسولَ اللهِ ادعُ اللهَ لي أن يَرُدَّ عليَّ بَصَري قال إنْ شئتَ صبرتَ وإنْ شئتَ دعوتُ لكَ قال إنهُ شقَّ عليَّ ذهابُ بصري وليسَ لي قائدٌ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ائتِ الـمِيضأةَ وتوضّأْ وصَلِّ ركعَتَينِ ثمَّ قلِ اللهمّ إني أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبينا محمدٍ نبيّ الرحمةِ يا محمدُ إني أتوجهُ بكَ إلى ربي في حاجَتي وتُسَمِّي حاجَتَكَ لتُقضَى لي([i]) اهـ ثم جاءَ رجلٌ إلى عثمانَ بنِ حُنَيفٍ فشكا لهُ أنهُ ذهبَ إلى عثمانَ بن عفانَ في حاجةٍ لهُ فلَم يلتفتْ إليهِ فقالَ لهُ عثمانُ بنُ حنيفٍ رضيَ اللهُ عنه ائتِ الميضأةَ وتوضّأ وصلِّ ركعَتَينِ وقلِ اللهم إني أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبينا محمدٍ نبيّ الرحمةِ يا محمدُ إني أتوجَّهُ بكَ إلى ربي في حاجَتي وتُسمّي حاجَتَكَ لِتُقضَى لي ورُحْ إليهِ حتى أروحَ معكَ فذهبَ الرجلُ إلى عثمانَ بن عفانَ فأخذَ البوّابُ بيدِهِ وأجلسَهُ على طِنْفِسةِ عثمانَ فقالَ لهُ عثمانُ ما ذكرتُ حاجَتَكَ حتى كانت هذه الساعةُ وقضَى لهُ حاجَتَهُ وقالَ ما كان لكَ من حاجةٍ فائْتِنا اهـ قال الطبرانيُّ رحمهُ اللهُ والحديثُ صحيحٌ وذلكَ بعدَ أن أوردَ طُرقَ الحديثِ أي تعدُّدَ أسانيدهِ. وقولُ الطبرانيّ والحديثُ صحيحٌ يعني بهِ المرفوعَ والموقوفَ لأنَّ كُلاًّ منَ المرفوعِ والموقوفِ في اصطلاحِ أهلِ الحديثِ يُسَمَّى حديثًا. المرفوعُ يُسمَّى حديثًا والموقوفُ يُسَمَّى حديثًا. هذا الحديثُ رواهُ عِدّةٌ من الـمُحدِّثينَ من أصحابِ الكُتبِ المشهورةِ كالترمذيّ وابنِ ماجَهْ والبيهقيّ وغيرِهِم لكنْ بعضُ هؤلاءِ الذينَ خرَّجوا هذا الحديثَ في تآليفِهم اقتَصَروا على القدرِ الذي هوَ مرفوعٌ أي على القصةِ التي هيَ مرفوعةٌ أي مَجِيءِ الأعمى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، اقتصرُوا على هذا القدرِ، وأمّا قصةُ الرجلِ الذي كانَت لهُ حاجةٌ إلى عثمانَ بنِ عفَّانَ فكانَ عثمانُ لا يلتفتُ إليهِ أيْ لشغلِ بالهِ فرَواها بعضُهُم والإسنادُ واحدٌ إسنادُ المرفوعِ وإسنادُ الموقوف أي قصةُ الرجلِ الذي كانَت لهُ حاجةٌ إلى عثمانَ أُورِدَتْ معَ المرفوعةِ من طريقٍ واحدٍ.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ التوسلَ بالنبيّ في حياتِهِ أي قبلَ مماتِهِ وبعدَ مماتِهِ جائزٌ. لا فرقَ في الجوازِ بينَ ما قبلَ وفاتِهِ وما بعدَ وفاتِهِ، لا فرقَ، كِلا الأمرَينِ جائزٌ وفيهِ ثوابٌ. ولمَّا كانَ أتباعُ ابنِ تيميةَ مُتمسِّكينَ بالقاعدةِ التي هوَ أحدَثها من غير دليل شرعيّ بل برأيهِ الذي اسْتَحْسَنَتْهُ نفسُهُ من غيرِ أنْ يستَنِدَ إلى دليلٍ وهوَ قولهُ لا يجوزُ التوسلُ إلا بالحيّ الحاضر، هذه قاعدةُ ابنِ تيميةَ التي وضَعَها وليسَ لها مُستندٌ في دين اللهِ، لمَّا كان أتباعُ ابنِ تيميةَ مُتَشَبّثينَ بذلكَ أي برأيِ ابنِ تيميةَ أنهُ لا يجوزُ التوسل إلا بالحي الحاضر قال أحدُ كبارهم وهوَ ناصر الدين الألبانيُّ الصحيحُ من هذا الحديثِ الجزءُ الأولُ وهوَ قصةُ الرجل الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما قصة الرجل الذي كانت له حاجة إلى عثمان بن عفان فهذه منكرة أي غير صحيحة اهـ.
قولُ ناصر الألبانيّ هذا تقَوُّلٌ بلا دليلٍ كما أنّ ابنَ تيميةَ تقوَّلَ في دينِ اللهِ برأيِهِ بلا دليلٍ ناصرُ الدين الألبانيُّ أرادَ أن ينتصرَ لِهَواهُ وهَوَى جماعتهِ الذينَ تمسَّكُوا بهذهِ القاعدةِ الفاسدَةِ لا يجوز التوسل إلا بالحيّ الحاضر فقالَ هذا الحديثُ الجزءُ الأولُ منهُ صحيحٌ أي توسّلُ الأعمى بالرسولِ بهذا اللفظِ اللهم إنّي أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبينا محمدٍ نبيّ الرحمةِ يا محمدُ إني أتوجَّهُ بكَ إلى ربي في حاجَتي وتُسمّي حاجَتَك فذهبَ الرجلُ ثمَّ دخلَ علينا فواللهِ ما تفرَّقنا ولا طالَ بنا المجلسُ حتى دخلَ علينا الرجلُ وقد أبصرَ اهـ أي فتحَ نظرُهُ.
لكن هذا الحديثُ فيه الدليلُ على أنَّ هذا الرجلَ الأعمى ما توسَّلَ بحُضورِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بل بمكانِ الوضوءِ ذهبَ إلى مكانِ الوُضوءِ فتوضَّأ وصلّى ركعتَينِ ثمَّ توسَّلَ بالرسولِ ففتحَ نظرهُ ثم جاءَ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم والرسولُ بعدُ ما فارقَ مجلِسَهُ، هذا الصحابيُّ عثمانُ بنُ حُنَيفٍ رضيَ الله عنهُ هوَ يقولُ فواللهِ ما تفرَّقْنا ولا طالَ بنا المجلسُ حتى دخلَ علينا الرجلُ وكأنهُ لم يكُنْ بهِ ضُرٌّ قطُّ أي كأنهُ لم يُصِبْهُ عمًى، دخلَ وقد صارَ مُبصِرًا ارتدَّ بصيرًا هذا القدرُ المرفوعُ. هذا أيضًا هُمْ يُحرِّفُونَهُ يقولونَ الرسولُ دعا له إنما انتفعَ هذا الأعمى وفتح نظرُهُ بدعاءِ الرسول ليس بالتوسل.
وإنما سلَكوا هذا المسلَكَ منَ التحريفِ لِئَلَّا تنفَسِدَ عليهم القاعدةُ التي وَضَعها ابنُ تيميةَ أبو العباسِ أحمدُ الحرّانيُّ.
لو كانت هذه القاعدةُ صحيحةً لما علَّمَ الرسول صلى الله عليه وسلم الأعمى التوسلَ به وسكت على توسله به في غيابه.
إذا قيلَ ابنُ تيميةَ فهوَ اثنانِ ابنُ تيميةَ أبو العبّاسِ أحمدُ الحرّانيُّ ويُلَقَّبُ تقيَّ الدينِ وَجَدُّ هذا يُقالُ له مجدُ الدينِ عبدُ السلامِ هذا جَدٌّ وذاكَ حفيدٌ، المفتونُ الحفيدُ وأما ذاك الأصلُ الجَدُّ فهوَ من أكابرِ الحنابلةِ، في مذهب أحمدَ بنِ حنبلٍ لهُ مكانةٌ كبيرةٌ ولا يُعرفُ عنهُ شيءٌ من إنكارِ التوسلِ والاستغاثةِ برسولِ اللهِ ولا بالأولياءِ لأنَّ المسلمينَ ما كانَ قبلَ ابنِ تيميةَ فيهم مَن يُنكرُ التوسلَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حياتِهِ وفيما بعدَ مماتِهِ، ما كانوا يُنكرونَ، حتى الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ الذي هُم يدّعونَ أنّهم على مذهبِهِ وأنهُ إمامُهم يقولونَ إمامُنا الإمامُ المبجَّلُ أحمدُ بنُ حنبلٍ هكذا يعتزُّونَ بهِ. هوَ هذا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ روى عنهُ واحدٌ من أكبرِ تلاميذهِ قدرًا أبو بكرِ بنُ الـمَرْوَزيّ قالَ قالَ أحمدُ يتوسلُ الداعي أي عند الاستسقاءِ أي عندَ طلبِ المطرِ منَ اللهِ تعالى بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. أحمدُ أثبتَ جوازَ التوسلِ بالنبيّ بل مشروعيتَهُ بعدَ وفاتِهِ صلى الله عليه وسلم فأينَ هؤلاءِ وأينَ أحمدُ. هؤلاءِ يقولونَ التوسُّلُ بالنبي بعد موتهِ شِرْكٌ وفي حياتِهِ في غير حضورهِ شركٌ وأحمدُ بنُ حنبلٍ يستحسنُ بل يستحبُّ التوسلَ بالنبيّ بعدَ مماتِهِ عندَ الشدةِ أي عندَ القَحطِ أي عندَ انقطاعِ المطرِ.
ثم أيضًا أحمدُ بنُ حنبلٍ قالَ في صَفوانَ بنِ سُلَيمٍ رضيَ اللهُ عنه وهوَ إمامٌ تابعيٌّ جليلٌ منَ العُبّادِ النُّسَّاكِ المشهورينَ قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ في صفوانَ بن سُليمٍ رضيَ اللهُ عنهُما يُستنزلُ المطرُ بذِكرِهِ اهـ يعني يُطلَبُ نزلُ المطر بذكرِ صفوانَ بنِ سُلَيم، إذا ذُكِرَ صفوان يُرجَى أن يُنزِلَ اللهُ تعالى المطرَ ببركتهِ بركةِ صفوانَ بنِ سُلَيمٍ. هكذا قالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ. أحمدُ بنُ حنبلٍ يَستحسنُ التوسُّلَ بالأولياءِ بعدَ وفاتِهِم وهؤلاء يُكفّرونَ الذي يتوسَّلُ بالرسولِ في غيرِ حضرتِهِ وبالأولَى إذا كانَ التوسلُ بهِ بعدَ مماتهِ. انظُروا إلى البُعدِ الشاسعِ بينَ هؤلاءِ وبينَ أحمدَ بنِ حنبلٍ. ومَنِ ابنُ تيميةَ في جَنبِ أحمدَ بنِ حنبلٍ. أحمدُ بنُ حنبلٍ رضيَ اللهُ عنهُ منَ السلفِ الصالحِ كلُّ طوائفِ أهلِ السنةِ يُثنونَ عليهِ الثناءَ الجميلَ، تركوا([ii]) أحمدَ بنَ حنبلٍ واتَّبعوا هذا الرجلَ المفتونَ ابنَ تيميةَ الذي يقولُ في دينِ اللهِ ما ليسَ منهُ.
روى قول أحمد بنِ حنبل عن صفوان بنِ سُليمٍ يُسْتَنْزَلُ المطرُ بذِكْرِهِ المحدّث الحافظ الـمِزّيُّ في تهذيبِ الكمالِ وذكرها الحافظُ مرتضى الزبيديُّ.
الأثرُ الموقوفُ على الصحابةِ يُطلَقُ عليه اسمُ الحديثِ هذا مذكورٌ في كتبِ اصطلاحِ الحديثِ. وُجِدَ ذلكَ في عبارةِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِهِ. أحمدُ ابن حنبلٍ الذي هوَ أكثَرُ المحدّثينَ منَ السلفِ حِفظًا للحديثِ، حفِظَ منَ الحديثِ ما لا يُروَى منَ العددِ لغيره. الأثرُ الذي هو مِنْ فعلِ الصحابةِ ليسَ من كلامِ الرسولِ ولا من فِعلِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم يُسمَّى حديثًا عندَ أهلِ الحديثِ كما يُسمَّى ما يُروَى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قولهِ أو فعلهِ أو تقريرِهِ حديثًا. هذا الذي يعرفهُ علماءُ الحديثِ على خلافِ ما قرره ناصر الألبانيّ.
انتهى والله تعالى أعلم.
[i])) رواه الطبراني في معجميه الكبيرِ باب من اسمه عثمان والصغيرِ باب من اسمه طاهر.
[ii])) أي: أتباع ابن تيمية.