الخميس نوفمبر 21, 2024

بيان أن النجاة فِي الآخرة تكون بمعرفة الله تعالى والإيمان برسالة محمد 

درس ألقاه المحدث الأصوليّ الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي بيان أن النجاة فِي الآخرة تكون بمعرفة الله تعالى والإيمان برسالة محمد r. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله وصلّى الله على رسول الله وسلم.

أمَّا بعدُ: فقد رَوَينا بالإسناد المتصل فِي صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى من حديث عمر بن الخطاب t قال: قال رسول الله r: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكّ فَيُحْجَبَ عن الْجَنَّةِ»([1]).اهـ. ورواه ابن حبّان([2]) رحمه الله فِي صحيحه يعني رسولُ الله r بهذا الحديث أنّ الذِي أيقنَ بوحدانية الله تعالى وأنه لا يستحق أحدٌ العبادةَ إلا الله، والعبادةُ هِيَ نهاية التذلل، وعَلِمَ أن محمدًا رسول الله، أيْ: أنه صادقٌ فِي كلّ ما جاء به فإنه حرامٌ أن يؤبَّد فِي النار فإما أن لا يدخلَ النارَ أصلًا بل يدخل الجنة ابتداءً وإما أن يُعذَّبَ ثم يُخرج من العذاب ويُدخل الجنة، لا بد من ذلك. وهذا الحديث له مفهوم وهو أنَّ مَن لم يؤمن بمحمد r فإنه حرام عليه الجنة، منطوقُهُ أن الذي يؤمن بالله ورسوله بلا شك يخالج قلبَهُ فِي ذلك فإنه حرام عليه أن يخلد فِي النار أبدًا فإما أن لا يدخل النار أصلًا وإما أن يدخلها ويخرج منها هذا منطوق الحديث أما مفهومه، أيِ: الوجهُ الآخر لهذا الحديث أن من لم يوقن بمعنَى الشهادتين أنه حرام عليه الجنة فإذا كان الشاكُّ حرامٌ عليه الجنة فالـمُنْكِرُ الذي يُصَمِّمُ على خلاف الشهادتين بطريق الأولى يكون حرامًا عليه الجنة هذا أولى بالحِرمان من الجنة الحرمان الذِي لا نهاية له، وإنما قيَّد رسولُ الله r هذا المعنَى بانتفاء الشك فِي ذلك؛ لأن الشاكَّ والـمُنْكِرَ سِيّان، الشاك والمنكر سواء، كلاهما حرامٌ عليه الجنة. الشهادتان أمران متلازمان لا يُغْنِي أحدهما عن الآخر فمن اعترف بوجود الله ولم يؤمن بأن محمدًا رسول الله فإنه كافر ومن شك فِي ذلك فهو كافرٌ أيضًا لأنه مُكَذِّبٌ للقرءان فكما أنَّ هذا الحديثَ اشترط للنجاة من النار الإيمانَ بالله وبرسوله كذلك القرءان الكريم اشترط ذلك وذلك فِي قول الله تبارك تعالى فِي سورة الفتح: {وَمَن لَّـمْ يُؤْمِن بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [سورة الفتح: 13]، المعنَى: أنَّ من لم يجمع بين الإيمان بالله والإيمان برسول الله محمد r فإنه كافرٌ وأن له النارَ، أي: النارَ الأبديةَ، أيْ: لا خروج له منها بعد دخولها.

الفرقُ بين المسلم العاصِي الذي مات وهو غيرُ تائب من كبائر الذنوب ولم يغفر الله له وبين الكافر أنَّ هذا المسلمَ العاصِيَ الذي لم يسامحه الله تعالى؛ بل أراد دخوله نار جهنم ليتعذب فيها له خروجٌ من هذه النار مهما مكث أما مَن لم يؤمن بالله ورسوله، أيْ: لم يجمع بين الإيمانين الإيمانِ بالله والإيمان برسوله r فإنه لا خروج له من النار، وهو لا يألف هذه النار فتنقلبَ عليه عَذْبَةً؛ بل يظل دائمَ الإحساس بألمها إلى غير نهاية، هذا الفرق بين المسلم العاصِي الذي مات قبل أن يتوب وبين الكافر الذي مات وهو غير مؤمن بالله ورسوله، أي: غير جامع بين الإيمانين، أي: الإيمانِ بالله والإيمان برسوله r.

ومعنى الإيمان برسوله أن يُصَدّقَ بجميع ما جاء به محمد r، أيِ: الإيمانُ الإجماليّ هذا الذي هو ضروريّ أما الإيمان بالتفاصيل بجميع ما جاء به الرسول r على التفصيل ليس شرطًا إنما إذا اعتقد الإنسان بقلبه بلا تردد ولا شك أن ما جاء به محمد r حقٌّ كائنًا ما كان إن كان إخبارًا عن الأمور الماضية وإن كان إخبارًا عن الأمور المستقبَلة فإنه حقٌّ وصدق وأن كلَّ شريعته حكمةٌ، أيْ: أنَّ جميع ما جاء به رسول الله r حق وحكمة وعدل لا يستريب فِي ذلك فقد صح إيمانه أما معرفة التفاصيل فليست شرطًا لصحة الإيمان، فهنا يتلخص لنا من معنى الآية ومعنى الحديث: أنَّ مَن كان مترددًا فِي قلبه فليس مؤمنًا لذلك كثير من الناس قد يموتون فِي الجهاد، أيْ: فِي معركة الكفار وليسوا عند الله شهداء؛ لأن منهم من يخالطهم الشكُّ بالعقيدة، أي: بحقية ما جاء به محمد r قد يحضر المعركة وهو غير جازم، قد يحضر مسايرةً لطائفته وقد يحضر لأجل السمعة، أيْ: حتى يطلع صِيتٌ بين الناس فهؤلاء عند الله ليسوا شهداء إذا قُتلوا هناك؛ لأنهم ما أيقنوا، أيْ: ما جزموا فِي اعتقادهم؛ بل كانوا مترددين.

ويتلخص لنا أنَّ منِ اعترف بوجود الله ولم يعرف ربه فِي قلبه فإنه غير مؤمن؛ لأن مجرد الاعتراف لا يكفِي، عابدُ البقر يقول لفظًا الله موجود وعابد الشمس يقول لفظًا الله موجود كذلك الذي يعبد المسيحَ لفظًا يقول الله موجود لا يكفِي اللفظُ لا يكفي بدون معرفةٍ بدون إيقانٍ لا يكفِي. ثم لو عرف الواحد بقلبه أن الله تعالى موجود ولم يُشَبِّهْهُ بشيء من خلقه عرفه كما يليق به من غير أن يشبهه بخلقه لكنه عاند كإبليسَ الذي يعرف وجود الله لكنه يعانِدُ فكُفْرُهُ كُفْرُ عناد هذا لا تنفعه معرفته بقلبه؛ لأنه عاند هذه المعرفةَ، كذلك الذي يقول محمد رسول الله إلى العرب خاصةً فهو كافر لا ينفعه معرفة. كان فِي اليهود رجلٌ يسمّى أبا عيسى كان يقول محمد رسول الله لكن إلى العرب ليس إلى بَنِي إسرائيل هذا كافرٌ كالذِي يَنْفِي رسالته بالمرة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جاء بقرءان أنزله الله عليه مُصَرَّحٍ فيه بأنه مبعوث إلى الناس جميعًا فالذِي يخصص رسالته بجنسٍ من البشر دون سائر الأجناس فهو مكذبٌ له كافرٌ به لا يكون مؤمنًا به.

مجرد الاعتراف باللفظ من دون معرفة صحيحة بقلبه لا يكفِي أيضًا لا يجعل المرء مسلمًا مؤمنًا عند الله ولا ينفعه فِي الآخرة، فكثيرٌ من الناس عند الله تبارك وتعالى ليس لهم إيمانٌ لأنهم يعترفون لفظًا بوجود الله وبرسالة محمد r لكنهم لم يعتقدوا المعنَى، لم يعرفوا الله تعالى كما ينبغِي، فالذِي عرف الله تعالى، أيْ: حصل على اعتقاد وجود الله تبارك وتعالى من غير تشبيه له بشيءٍ صحت له معرفة الله تعالى. قال الإمام الشافعيُّ رحمه الله تعالى من انتهض لمعرفة مدبره فانتَهَى إلى موجود ينتهِي إليه فِكْرُهُ فهو مشبه.اهـ. من انتهض معناه من أراد لمعرفة مدبره، أيْ: لمعرفة خالقه مَن قصد أن يعرف خالقه فانتَهَى إلى اعتقاد موجودِ يُصَوّرُهُ بفكره فهذا مشبّهٌ ليس عارفًا بالله تعالى ومَن انتَهَى إلى التعطيل الصِّرْفِ فهو معطل، أيْ: ومَن انتَهَى إلى العدم الصِّرف فهو معطل، معنى معطل الـمُنكرُ لوجود الله تعالى كالشيوعِيّ يُسَمَّى مُعَطِّلًا ويسمّى مُلْحِدًا؛ لأنه نفَى وجود الخالق فَسُمِّيَ معطلًا، وسمي ملحدًا؛ لأنه انحرف عن الإيمان بالله تعالى، هذان ضالّان الذي انتَهَى إلى موجود يتصوره فاعتقد أن ذلك هو الإلـٰه هذا ضال والذي انتَهَى إلى التعطيل الصرف، أيِ: التعطيل الخالص فذلك كفر أيضًا هذان الصنفان كافران بَقِيَ الصنفُ الثالث وهو الذي قال عنه الشافعيّ ومن انتَهَى إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحّدٌ.اهـ. هذا المؤمنُ هذا الذي عرف ربه ما انتَهَى إلى شيء يتصوره فِكْرُهُ ولا انتَهَى إلى التعطيل الصِّرف بل انتَهَى إلى موجود، أيْ: إلى الإيمان بموجود واعترف بالعجز عن إدراكه، أي: اعتقد أن مدبره، أيْ: خالقَهُ موجود لا يشبه الموجودات فهذا مُوَحِّدٌ، أيْ: عارف بالله تعالى مؤمن سالم منَ الشرك هذا معنَى معرفةِ الله تعالى، وخُلَاصَتُهُ الإيقانُ بوجود الله من غير تشبيهٍ له بشيءٍ من الموجودات هذا هو الـمُوَحِّدُ هو المؤمن، وهو العارف بربه تبارك وتعالى.

والدليل على أن الله تبارك وتعالى موجود لا يُتصور بفكر إنما يُعرف أنه موجود لا يشبه الموجوداتِ جميعَها هو أنه يستحيل عقلًا أن يكون مدبرُ العالم موجودًا يشبهه ومستحيل أيضًا أن يكون مدبرُ العالم عَدَمًا، أيْ: شيئًا لا وجود له فلما كان الأمران من المستحيل عَلِمْنَا أنه تَحَتَّم أن يكون مدبر العالم موجودًا لا معدومًا وغيرَ مُشْبِهٍ لغيره من الموجودات فهذا هو الإيمان الخالص بالله تبارك وتعالى، الإيمانُ الخالص هو أن يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الله موجود من غير أن يُشَبِّههُ بشيءٍ من الموجودات التِي انتَهَى إليها حِسُّهُ والتِي هِيَ على قياس ما انتَهَى إليه حسه من الموجودات، أي: من الموجودات التِي لم يدركها بالحس لكنها مشارِكةٌ فِي الصفات لِـمَا انتَهَى إليه حسه، مثال ذلك أننا نشاهد الأرض والسماء وما بينهما هذا شيءٌ انتَهَى إليه حِسُّنا وتصورته عقولُنا أما ما غاب عن إحساسنا كالعرش والجنّة والنّار فهذا شيء يُشَارِكُ ما انتَهَى إليه حِسُّنَا ببعض الوجوه ببعض الصفات، مثلًا العرش جِرْمٌ كما أن هذه الأرضَ جِرْمٌ والجنّةُ كذلك جِرْمٌ شيءٌ يصح أن يُلْمَسَ كذلك جهنمُ شيء يصح أن يلمس كذلك الملائكة شيء يصح أن يلمس الـمَلَكُ إذا تطور إلى صورة إنسان نُحِسُّ به ونلمسه ونراه بأعيننا كذلك الجنيُّ إذا تصور وتشكَّلَ بشكلٍ غيرِ خِلْقَتِهِ الأصلية نُحِسُّ به ونُكَيِّفُهُ تكييفًا هذا كلُّه مِن صفات المخلوقات؛ لأن كل شيْءٍ له شكل له حُدُودٌ طول وعرض وعمق فهو مخلوق لا يصح أن يخلق غيرَه ولا يصح أن يكون خالقًا لنفسه.

هذه العلومُ مهمة لا يصرفنكم الشيطان عنها؛ لأن الشيطان أحيانًا لما يكون الشخص فِي درس مثلِ هذا يقول له هذا شيء خارج عن عقلك فما لك وما له لِيَصْرِفَهُ حتى يظل على جهله بربه حتى يظل جاهلًا بربه يوسوس إليه يخوّفه الاستماعَ والتفهمَ لمثل هذا الدرس فالذي يَنْفِرُ من مثل هذا الدرس يكون الشيطان قد أَسَرَهُ حتى يبقَى على الجهل بخالقه حتى يَظَلَّ يَتَصوَّرُ الإلـٰه بشيءٍ ينتهِي إليه الفكر بشيء له هيئة وشكل وكلُّ شيء له هيئةٌ وشكلٌ لا يصلح أن يكون خالقًا لمثله ولا لما هو أعظمُ منه ولا لما هو أصغرُ منه. هذا الإنسانُ انظروا بعقولكم فِي شأنه الآن بعد أن صار إنسانًا كاملًا، أيْ: عاقلًا يمشي بإرادة ويتحرك بإرادة وينظر ويفكر لا يستطيع أن يزيد فِي جسمه جزءًا ءاخر لا يستطيع أن يزيد أُنْمُلَةً واحدةً ولا يستطيع أن يزيد فِي جسمه عينًا ثالثةً ولا يستطيع أن يزيد فِي أيّ جزء من أجزائه شيئًا فإذا كان هذا حالَهُ بعد أن صار إنسانًا كاملًا مِن حيث الصورةُ والشكلُ فكيف حاله حين كان جَنِيْنًا وحين خرج من بطن أمه حين كان لا يعلم شيئًا ولا يمشِي ولا يتكلم فهل كان يصلح فِي ذلك الوقت أن يخلق لنفسه شيئًا كَلَّا لا يصلح؛ لأنه إذا كان فِي حال كماله فِي حال كونه ابن أربعينَ مثلًا وما يقرب من ذلك لا يستطيع أن يخلق لنفسه شيئًا فِي أجزاء جسمه فكيف فِي حال كونه جنينًا أو فِي حال كونه مولودًا كيف يصلح؟ فكذلك كل العوالم كذلك الجن، كذلك الملائكة، لا يصلح شيء من الأكوان أن يكون خالقًا لنفسه ولا أن يكون خالقًا لجزء منه فثبت بهذا البرهانِ العقليّ أن الإنسان وغيرهُ من المحدثات المخلوقات محتاج إلى مُدَبِّرِهِ الذي أوجده من العدم، كُلّ لحظة، لا يستغنى عن مدبره، أيْ: خالقِهِ لحظةً، فظهر أنَّ الإنسان عاجز عن أن يخلق نفسه وأن يخلق ما هو شبيهُهُ وثبت ثبوتًا لا ريب فيه ولا شك أنه مُحتاج لمكوّن أوجده وأنه لا يستغنِي بعد أن وُجِدَ لحظةً عن مدبره ومكونه الذي أوجده من العدم وهكذا سائر الأكوان لا تستغنِي عن مدبرها لحظة، كما أنهم محتاجون إلى هذا المدبر فِي أول النشأة فهم محتاجون إليه لاستمرار وجودهم. وزيادةً فِي بيان ذلك قال الله تعالى لنبيّه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف: 188] هذا هو التوحيد الخالص وهو أن يعتقد الإنسان أنه لا يخلق لنفسه منفعة ولا مضرة وبالأَوْلَى لغيره لا يخلق منفعةً ولا ضرًّا إلا ما شاء الله تبارك وتعالى، أيْ: إن شاء الله أن ينفعَ إنسانٌ نفسه أو غيرَه ينفع وإن شاء أن يضر نفسه أو غيره يضرُّ أما بدون مشيئة الله فإنه لا ينفع ولا يضر لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضَرًّا وبالأولى أن لا يملك لغيره.

ثم هذه الآيةُ بَيَّنَتْ أنه لا يعلم الغيب، أي: جميعَهُ أحدٌ إلى الله، هذا جبريل u الذي هو سفيرٌ بين الله وبين أنبيائه؛ بل وبين الله تعالى وبين سائر الملائكة لأنه u هو الـمُبَلِّغُ عن الله إلى الأنبياء وهو الـمُبَلِّغُ إلى غيره مِن الملائكة إذا قضَى الله تعالى بالوحي الملائكةُ لهم علامة يسمعون للسماء صوتًا خَلَقَهُ الله تعالى يسمعون فِي السماء صوتًا فيفزعون يحصل لهم خوف شديد فيسألون جبريلَ فيفهمهم أن الله تبارك وتعالى قَضَى كذا وكذا فيسبحون ربهم فيذهب عنهم الرَّوْعُ الذي أصابهم مع أنهم من حيث عِظَم الخِلْقَة يوجد من هو أعظم خلقةً من جبريل، حملةُ العرش الواحد منهم فِي عظم خلقته يكون ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام وأما ما سوى ذلك من جسده فلا يحيط به وصفُ واصفٍ إنما عِلْمُ ذلك إلى الله تبارك وتعالى، أيِ: العلم بسائر جسده هذا شيء يختص الله تبارك وتعالى بالإحاطة به دون أحدٍ من خلقه.

أما جبريل u فقد ورد فِي بيان عظم خِلقته أن له ستَّمائة جناح كل جناح يسد ما بين الأرض والسماء وأنه يتناثر منه تهاويلُ الدُّر والياقوت يتناثر منه شيء يشبه الدر والياقوت مما يبهر الأنظار لو رءاه إنسان وهو بخلقته الأصليةِ تلك لمات صَعِقًا لَغُشِيَ عليه ومات إلا من أيده الله تبارك وتعالى كسيدنا محمد r رَءَاهُ بتلك الخلقة مرتين ولم يحصل له انزعاج الله تعالى ثبته فرسول الله r الذي هو أفضل المرسلين وكذلك جبريل الذي هو مُقَدَّمُ الملائكة، أيْ: فِي الفضل عند الله تبارك وتعالى لا يحيطان علمًا بالغيب؛ بل لا يعلمان إلا ما عَلَّمَهُما الله تعالى وكذلك من سواهما من الأنبياء والمرسلين والملائكة المكرمين كلٌّ لا يعلمون إلا ما علمهم الله، كما أن الله تبارك وتعالى خلقهم، أي: كوَّنهم وجعلهم موجودين بعد أن كانوا معدومين لم يملكوا من ذلك شيئًا كذلك معلوماتهم هِيَ بخلق الله تبارك وتعالى، الله تعالى هو الذي خلق فيهم هذه المعلومات فلا أحد فيهم يعلم إلا ما علَّمه الله، وهذا الخَضِرُ u وهو نَبِيٌّ من أنبياء الله مع ما رُزِقَ من طول العمر كذلك لا يعلم إلا ما علمه الله، فمهما اتسع العبد فِي المعرفة والعلم فإن ما عَلِمَهُ بمشيئة الله وتقديره بالنسبة إلى ما لم يعلمه من معلومات الله تعالى كالعدم كما شَبَّهَ الخَضِرُ u حين اجتمع بموسى عليه وعلى جميع أنبيائه الصلاة والسلام وقد وقع على حرف السفينة؛ أيْ: على طرفها عصفور فنقر، أيْ: أدخل منقاره فِي البحر قال: يا موسى ما عِلْمِي وعِلْمُكَ فِي جنب علم الله تعالى إلا كما نقر هذا العصفور من البحر، أي: ليس إلا كهذا البلل الذي أصاب منقارَ العصفور فِي القلَّةِ.

الغلُوُّ يبْعِدُ العبد من الله تعالى، الغلوُّ وهو مجاوزة الحد، العبد الذي يتجاوز الحد يكون بعيدًا من الله فلا يجوز الغلُوُّ فِي تعظيم مخلوق من المخلوقين لو كان نبيًّا لو كان ملكًا لا يجوز الغلو فِي تعظيمه، أي: لا يجوز أن نتجاوز الحد الذي أَذِنَ الله تبارك وتعالى لنا فِي تعظيم نبيّ أو تعظيم وليّ لا يجوز أن نتجاوز ذلك الحدَّ؛ لأن مجاوزته غلو والقرءَانُ نَهَى عن الغلو والنبيُّ r نَهَى فِي حديثه عن الغلو قال عليه الصلاة والسلام: «لا تُطْرُونِي كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم»([3]).اهـ. معناه: لا تتجاوزوا فِي وصفي واحترامِي وتعظيمِي القدرَ الذي حدَّهُ الله تعالى لكم، لا تتجاوزوا هذا الحد كما تجاوزت النصارى فِي تعظيم المسيح، لا تتجاوزوا الحد الذي أذن الله لكم فِي تعظيمِي واحترامِي.

وذلك يُحَتِّمُ علينا أن لا نشرك أحدًا غيرَ الله فِي خصائص الله تعالى، ما هِيَ خصائص الله، خصائص الله منها: أنه لا يخلق أحد سواه شيئًا، الله تبارك وتعالى هو الذي يخلق الأجسام والذي يخلق الأعمال، أي: الحركات والسكناتِ فالعباد ليسوا إلا مظاهرَ يظهر عليهم ما خلق الله تبارك وتعالى فيهم الحركاتُ التي شاء الله تعالى أن تظهر فيهم بخلقه وتكوينه تظهر فيهم، كذلك من الصفات الباطنة لا يكون إلا ما شاء الله تعالى أن يحصل فيهم. وزيادةً فِي البيان قال الله تبارك وتعالى فِي القرءان الكريم: {وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصارَهُم كَما لَم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [سورة الأنعام: 110] إذا كان تقلب القلب بتكوين الله وخلقه فما بالكم بالحركاتِ الظاهرية حركة اليد وحركة الرجل وحركة اللسان وحركة العين كلُّ ذلك بخلق الله تبارك وتعالى ليس بخلق العبدِ، العبدُ لا يخلق شيئًا إنما هو مَظْهَرٌ لتصاريف الله تبارك وتعالى، يَظْهَرُ على العبد ما كَوَّنَهُ الله تبارك وتعالى، يَظْهَرُ على العبد ما كَوَّنَهُ الله تبارك وتعالى فيه. {وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصارَهُم} إذا كان الفؤادُ تَقَلُّبُهُ بمشيئة الله وخلقه وتكوينه فماذا يكون اليدُ والرجلُ والنظرُ وغيرُ ذلك من أعمال الجوارح فماذا يكون غيرُ ذلك من أعمال الجوارح؟ ومع ذلك الله تعالى أنزل فِي ما أوحَى به إلى الأنبياء أوامر يجب على العباد أن يعملوها وأنزل نواهِيَ يجب على العباد أن يتجنبوها وجعل ذلك أمارةً، أيْ: علامةً على أن هذا العبد مِمَّنْ شاء الله تبارك وتعالى له النعيمَ المقيمَ أو مِمَّنْ شاء الله تعالى أن يكون من أهل العذاب المقيم فأعمالُنا أماراتٌ، أيْ: علاماتٌ على ما سبق فِي علم الله الأزليِّ للعبد من أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، لأن الله تبارك وتعالى قال فِي الأزل: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة السجدة: 13]، قبل أن يخلقنا فِي الأزل، أيْ: فِي ما لا بداية له قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فإذًا نحن مَظَاهِرُ، جعل قسمًا منا مظاهرَ لأعمال الخير حتى يكون ذلك علامةً على أنهم من أهل النعيم المقيم فضلًا من الله تعالى وكرمًا وجعل قسمًا من العباد مظاهر لأعمال الشرّ حتى يكون ذلك علامة على أنهم يستحقون العذاب فِي جهنم فمن عذبه الله منهم فبعدله يعذبه. انتَهَى.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

([1]) رواه مسلمُ فِي صحيحِهِ، بابُ: مَنْ لَقِيَ اللهَ بالإيمان وهو غير شاكّ فيه دَخَلَ الجنَّة وحَرُمَ على النار.

([2]) رواه ابن حبّان فِي صحيحه، باب: المعجزات.

([3]) رواه البخاريّ فِي صحيحه، بَابُ: قَوْلِ اللهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ منْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}.