بيان أن الربا لا يجوز من المسلم والكافر مع تفصيل ما قاله العلماء
اعلم أنّ أكثر العلماء على عدم جواز الربا من مسلم أو كافر مطلقًا، وأجازه بعضٌ إذا كان بين مسلم وحربيّ في دار حربٍ وكان الرابح هو المسلم.
قال ابن عابدين في حاشيته ما نصّه: “أقول: وعلى هذا فلا يحلّ أخذ ماله بعقد فاسد بخلاف المسلم المستأمن في دار الحرب فإن له أخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار” اهــ
وفي الدر المختار ما نصه: “لا تصير دار الإِسلام دار حرب إلا بأمور ثلاثة: بإجراء أحكام أهل الشرك، وباتصالها بدار الحرب، وبأن لا يبقى فيها مسلم أو ذميّ ءامن بالأمان الأول” اهــ
وقال: “قوله: “لا تصير دار الإِسلام دار حرب…” أي بأن يغلب أهل الحرب على دار من دُورنا، أو ارتدَّ أهل مصر وغَلَبوا وأجرَوْا أحكام الكفر، أو نَقَضَ أهلُ الذمّةِ العهد وتغلّبوا على دارهم، ففي كل هذه الصور لا تصير دار حرب إلا بهذه الشروط الثلاثة، وقالا: بشرط واحد لا غير وهو إظهار حكم الكفر وهو القياس (هندية)”. اهــ
وقال محمد بن الحسن: تصير دار الإسلام دار حرب بأن يظهر الكفّار فيها أحكام الكفر باشتهار. اهــ
وفي كتاب الإِنصاف للمرداوي الحنبلي ما نصّه: “وقال في المستوعب في باب الجهاد والمحرّر والمنوّر وتجريد العناية وإدراك الغاية: يجوز الربا بين المسلم والحربي الذي لا أمان بينهما، ونقله الميموني وقدّمه ابن عبدوس في تذكرته. وهو ظاهر كلام الخِرَقي في دار الحرب حيث قال: ومن دخل إلى أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم ولا يعاملهم بالربا” اهــ
وقال السرخسي الحنفي في المبسوط: “قال رحمه الله: ذُكِرَ عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب”، وهذا الحديث وإن كان مرسلًا فمكحول فقيه ثقة، والمرسل من مثله مقبول، وهو دليل لأبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله تعالى في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب” اهــ
ثم قال أيضًا: “وكذلك لو باعهم ميتة، أو قامرهم وأخذ منهم مالاً بالقمار، فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله تعالى” اهــ
ثم قال: “قال محمّد: “وبلغنا أنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى: الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} [سورة الروم]، قال له مشركو قريش: ترون أنّ الروم تغلب فارس، فقال: نعم، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا على أن نضع بيننا وبينك خطرًا فإن غَلَبتِ الروم أخذت خطرنا وإن غَلَبت فارس أخذنا خطرك، فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه على ذلك، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال: “اذهب إليهم فزد في الخطر وأبعد في الأجل”، ففعل أبو بكر رضي الله عنه، وظهرت الروم على فارس، فبُعث إلى أبي بكر رضي الله عنه أن تعال فخذ خطرك، فذهب وأخذه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بأكله.
وهذا القمار لا يحلّ بين أهل الإِسلام، وقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر رضي الله عنه وهو مسلم وبين مشركي قريش لأنه كان بمكة في دار الشرك حيث لا يجري أحكام المسلمين.
ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم رُكانة بأعلى مكة فقال له ركانة: هل لك أن تصارعني على ثلث غنمي فقال صلوات الله عليه: “نعم”، وصارعه فصرعه، الحديث إلى أن أخذ منه جميع غنمه ثم ردّها عليه تكرّمًا، وهذا دليل على جواز مثله في دار الحرب بين المسلم والحربي”. انتهى كلام السرخسي بلفظه.
وقال الشيخ محمد كامل الطرابلسي الحنفي في الفتاوى الكاملية ما نصه: “سئلت عن مسلم في دار حرب عامل حربيًّا بالربا فأخذ منه مبلغًا وافرًا على وجه الربا هل يحرم عليه ذلك أم لا؟ فالجواب: لا يحرم عليه ذلك عند الإمام الأعظم وصاحبه الإمام محمد خلافًا للثاني أبي يوسف رحم الله تعالى الجميع، قال في الكنز: ولا ربا بين المسلم والحربي ثمة، قال شارحه منلا مسكين: خلافًا لأبي يوسف والشافعي، وإنما قيّد بقوله: “ثمة” لأنه لو دخل دارنا حربيٌّ بأمان فباع منه مسلم درهمًا بدرهمين لا يجوز اتفاقًا” اهــ
نقول: ونحن لا نحبّذ لأنفسنا ولا لغيرنا العمل بذلك، وإنما ننقل ما قاله مَن قبلنا من الأئمة، لأن كثيرًا من الناس اليوم صاروا منغمسين في الربا المتفّق على تحريمه وهو أخذ الربا من بنوك المسلمين، وإذا قيل لأحدهم توكل على الله وضع مالك في بيتك يقول: إن في ذلك هلاكنا ولا يقبل إلا أن يضع ماله في أحد البنوك، فقلنا لهم: بعض الشرّ أهون من بعض، إن كان ولا بدّ أن تضعوا أموالكم في بنوك المسلمين أو في بنوك مشتركة بين المسلمين وغيرهم في دار إسلام ودار حرب، فأهون الشرّين أن تضعوا أموالكم في بنك حربي على الوجه الذي يبيحه الإِمام المجتهد محمّد بن الحسن في البلاد التي لم يتحقق فيها إلا ذلك الشرط الواحد.