درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي بيروت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق لسنة سبع وسبعين وتسعمائة وألف رومية وهو فِي بيان أن الحسن ما حسنه الشرع وأن القبيح ما قبحه الشرع. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وأشهد أن لا إلـٰه الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادِيَ له.
أمَّا بعد: فقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب: 70، 71] الله تبارك وتعالى أمر بالقولِ السديد والقولُ السديد هو عبارة عن القول الحسن، وهو عبارة عن القول الذي حَسَّنَهُ الشرع، ليس القولُ الحسنُ ما يعتبره الناس الذين ليس لهم فهمٌ فِي الدين قولًا حسنًا لأن الناس الذين لا عبرة بفهمه للذين قد يرون القول الفاسِدَ حسنًا قد يرون القولَ الذي هو عند الله محرّمُ مخالفٌ لشرعِهِ حسنًا وقد يرون القول الحسن فِي شرع الله تعالى قولًا فاسدًا فلذلك لا عبرة بما يستحسنه الناس الذين لا فهم لهم فِي دينِ الله، أي: لا فهم لهم بما جاء به كتاب الله تعالى وحديثُ نبيّه r إنما العبرة بالناس الذين لهم فهم فِي الدين، أي: يعرفون ماذا جاء فِي كتاب الله، أيْ: يعرفون ما يوافق ما فِي القرءان الكريم وما يخالف ما فِي القرءان الكريم ويعملون بذلك فهؤلاء هم الذين يُعْتَبَرُ فهمُهم صحيحًا ويُقتدَى بهم لأنه من القاعدة الدينية التي لا يختلف فيها اثنان من المؤمنين أنَّ ما حَسَّنَهُ الشرع فهو حسن وما قَبَّحَهُ الشرع فهو قبيح، فليست العبرة بمجرد كثرة الناس إنما العبرة بخيار المؤمنين فهم الذين يفهمون شريعة الله تعالى يفهمون ما جاء فِي القرءان وما جاء فِي حديث رسول الله r ثم يطبقون ذلك على أنفسهم اعتقادًا وعملًا فهذا هو المعنى المراد بالحديث الذي أخرجه مسلم فِي الصحيح من حديث أبي هريرة أن نبيَّ الله r قال: «إذا أحب الله تعالى عبدًا نادى جبريلُ إن الله يحب فلانًا فأَحِبَّهُ فينادِي جبريلُ فِي أهل السماء بذلك فيحبه أهلُ السماء ثم يُوضَعُ له القبول فِي الأرض»([i]).اهـ. وأهل السماء هم الملائكة وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «فيوضَعُ له القبول فِي الأرض»، فالمعنى: أنَّ خِيارَ المؤمنين الذين هم مؤمنون حقًّا، ليس المتشبهين بالمؤمنين، يحبونه يصير عندهم له قَبول، أي: كلّ عبدٍ صالحٍ وَلِيّ مِن أولياء الله وأحباب الله يُلْقَى محبةُ هذا الإنسان فِي قلبه وأما الغوغاء الذين لا يعرفون أصول الاعتقاد ولا يعرفون الأحكام الشرعية على ما هِيَ عليه فإنَّ هؤلاء حُبُّهُمْ وَبُغْضُهُمْ لا عبرةَ به. هؤلاء الغوغاءُ الذين لا يعرفون إلَّا أن يَتْبَعُوا الناسَ بدون دليل، بدون معرفةٍ بأحكام شريعة الله إنما ينظرون فِي المظاهر فَيَتْبَعُونَ كُلَّ ناعِقٍ ويُلَبُّونَ دعوةَ كلّ رَعاعةٍ فإن هؤلاء حُبَّهُمْ وبُغْضَهُمْ كلا شيءٍ إنما العبرة بِصُلَحَاءِ أمّةِ محمد r فمن أوتِيَ له القبول، أي: قبول صلحاء أمة محمد r فذلك دليل على أنه محبوب عند الله وفي أهلِ السماء ملائكةِ الله الكرام. وجُرِّبَ كثيرًا أن الرَّعاعَ قد يحبون الشخص الذي ليس له من دين الله نصيبٌ ويتعلقون به؛ لأنهم رأوا منه مظهرًا مُخادِعًا يظنونه مظهرَ أهل الله مظهرَ الصادقين وهو فِي الحقيقة من المخادعين الذين يُحَسِّنُون للناس ما قَبَّحَهُ الشرعُ ويُقَبِّحُون ما حَسَّنَهُ الشرعُ، فهؤلاء لا عبرة بهم، والصوفية الذين لهم عند الله تعالى فضلٌ هم الصوفية الذين يكونون على قَدَمِ الصوفيةِ السالفين من الصحابة والتابعين وأتباع التَابعين وهَلُمَّ جَرَّا، إذ إنَّ أول الصوفية أبو بكر الصّدّيق t ثم أتباعُهُ فِي سيرته التي هِيَ صفاءُ المعاملة، مَن عامَلَ رَبَّهُ معاملةً صافِيَةً وعامل خَلْقَ اللهِ معاملةً صافيةً وأخلص لربه فِي سِرّهِ وأحسن علانيتَهُ فذلك هو الصوفِي الذي تُسْتَنْزَلُ الرحماتُ بذكره. كان أكبرُ الصوفية بعد الصحابة من التابعين أويسًا القَرَنِيَّ كان معروفًا برثاثة اللباس، أيْ: لم تكن ثيابه مُؤنَّقَةً كان من الفقر ورثاثة الهيئة بحيث يظنه الصبيان مجنونًا إنما يعرفه مَن يعرف دينَ الله على الحقيقة، هذا الرجلُ أويسُ بنُ عامِرٍ القَرَنِيُّ جاء عن رسول الله r أنه قال فِي حَقِّهِ: «إنَّ خيرَ التابعينَ رجلٌ يقال له: أُوَيْسُ بنُ عامِرٍ مِن قَرَنٍ ثم مِن مُرَادٍ له والدةٌ هو بها بَرٌّ، كان به بَرَصٌ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عنه إلا قَدْرَ درهمٍ فإذا لَقِيتُمُوهُ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لكم»([ii]).اهـ. وكان عمر بن الخطاب t من جملة السامعين لهذا الحديثِ مِن فَم رسول الله r ثم بعد أن توفِي رسولُ الله r ثم توفِي أبو بكر t وكانت أمدادُ اليمن تأتِي إلى أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب فكان يسألُ عمرُ أمدادَ اليمنِ هل فيكم أويسُ بنُ عامرٍ من قَرَنٍ ثم مِن مُرادٍ حتى اجتمع بمن يعرفه، فقالوا: إنه معنا فاجتمع به عمر t فسأله أنت أويس بن عامر من قرن ثم من مراد قال: نعم. قال: كان بك برصٌ فأذهبه الله عنك إلا قدرَ درهم، قال: نعم، قال: لك والدة أنت بها بَرٌّ، قال: نعم، قال: فاستغفر لنا، فقال: أيْ مِن تواضعه أنتم أحدثُ عهدًا بِسَفَرٍ صالحٍ يعني أنك يا أمير المؤمنين قريبُ عهدٍ بالقُدُوم مِن مكةَ، فألحَّ عمرُ عليه فاستغفر لهم. هذا أويس بن عامر الرسولُ r قال فِي حقه إنه خير التابعين، أي: أفضلُ هذه الأمةِ بعد الصحابة. هو أفضلُ مِن كُلّ وَلِيّ مِن أولياء الله بعد أولياء الصحابة الذي استحق أن يَطْلُبَ منه الاستغفارَ عمرُ بن الخطاب وغيرُه الذي استحق هذا الفضلَ العظيمَ والدرجةَ العاليةَ كان من حيث المظهرُ رَثَّ الثياب، ثم قال له عمر: أَكْتُبُ لك إلى عامِلِي يُجْرِي لك عطاءً، فقال: أكون فِي غَبْراءِ الناسِ أحبُّ إلَيَّ([iii]).اهـ. أيْ: أن أعيش فقيرًا أحبُّ إليّ فلم يقبل أن يُجرَى له راتبٌ من بيت المال، ءاثر فقرَهُ على الغنى والرفاهية.
فانظروا هذا الذي جاء به الأئمة المعتمدون من أهل الحديث والصوفيةِ المتقدمين انظروا هذا وانظروا إلى بعض افتراءات أهلِ هذا العصرِ الذين يحتقرون الفقر ويجعلون الفقرَ علامةَ الـهَوَانِ، ولا يدرون أن رسول الله r قال: «يَدْخُلُ فقراءُ المهاجرين الجنّةَ قبلَ الأغنياء بخمسمائة عام»([iv]).اهـ. ما أكذبَ هؤلاء المفترين على الله وعلى رسوله يجعلون الفقرَ، أي: قلةَ المال نُقصانًا، يجعلونه ميزانًا بين الإنسان الكريم وبين الإنسان الـهَيِّن ولم يدروا أن الكريم على ربه هو العبد الـمُتَّقِي إن كان غنيًّا وإن كان فقيرًا. ثم إنّ أكثر الأتقياء فقراءُ، الأغنياءُ حظهم من التقوى قليل. هؤلاء أصحابُ رسول الله r مَن عرف أحوالهم وخَبرَ سيرتهم عَلِمَ علمًا يقينًا بأن أغلبهم كانوا فقراء كان الغَنيُّ فيهم نادرًا كان أغنياؤهم معدودين لِقِلَّتِهِمْ. العياذ بالله تعالى من مَسْخِ القلوب الذي يُزَيِّنُ لصاحبه القبيحَ عند الله حسنًا والحسنَ عند الله قبيحًا.
ثم إن هناك حديثًا صحيحًا أخرجه مسلم وغيرُهُ متفق على صحته أن رسول الله r قال: «دخلتُ الجنّة فرأيت أكثرَ أهلِها الفقراء»([v]).اهـ. فبعد هذا كيف يدّعي إنسان أنه مسلم أنه صوفِي أنه شيخ فِي الدين ثم يذمُّ الفقرَ من غير تفصيل فما هذا؟ هل هذا يَعْرِفُ دينَ الله؟ هل هذا يعرف كتاب الله؟ هل هذا يعرف حديث رسول الله؟ هل هذا يعرف الصوفية؟ وهل الصوفيةُ أَغْلَبُهُمْ إلا فقراء، هو هذا الإنسانُ يَدَّعِي التصوُّفَ يدَّعِي أنه صوفِي يدَّعِي أنه مِن أهل الدرجات العُلَى حتى إنه يدَّعِي أنه يُجيب فِي القبر عن محبيه ومريديه أنه هو يتولاهُم أنه هو يضمنُ لهم فِي القبر النجاة وفي الآخرة. هذا لو كان يعرف معانِيَ كتابِ الله تعالى ومعانِيَ أحاديثِ رسول الله r وسيرةَ الصوفية لم يقل هذا الكلام. قال الجنيد t سيدُ الطائفة الصوفية الذي كان فقيهًا محدّثًا إمامَ الصوفية فِي عصره كان يأتي إلى مجلسه الأدباء، أي: النحويون أهل البلاغة فيكتبون منه ما لا يعرفونه، ويأتيه الفقيهُ فيستفيدُ منه فِي علمِهِ الذي هو مختَصٌّ به ما لم يكن يعلمه، وأما الصوفية فقد كان هو مَحَطَّ رِحالِهِم. قال الجنيدُ t: ما أخذنا التصوف عن القِيلِ والقال ولكن أخذناه عن السهر والجوع وتركِ المألوفات والمستحسنات.اهـ. أيْ: مخالفة الهوى، قال: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل إنما أخذناه عن السهر والجوع وترك المألوفات والمستحسنات؛ لأن التصوف صفاء المعاملة، كما قال حارِثةُ يقال: حارِث، ويقالُ: حارثة وهو من أصحاب رسول الله r عَزَفْتُ نفسِي عن الدنيا أسهرتُ لَيْلِي وأظمأتُ نهارِي وكأني بعرش ربي بارزًا، وكأني بأهل الجنّة يتزاورون فيها، وكأني بأهل النار يتعاوَوْن فيها([vi]).اهـ. معنى: عَزَفْتُ نَفْسِي عن الدنيا، أي: لا أترك نفسي تسترسل بالـمَلَذَّاتِ. هم الصوفية لا يُحَرّمُونَ ما أحلّ الله لكنهم يقتدون بأنبياء الله، أنبياءُ الله كانوا لا يسترسلون فِي الـمَلَذَّاتِ، هذا رسولُ الله نبيّنا محمد r مَن عَرَفَ سيرته عرف أنه كان كثير الجوع كان يُؤْثِرُ على نفسه فيجوعُ كثيرًا من الأوقات وكان لا يُوقَدُ فِي بيته أكثرَ مِن الشهر النارُ كانوا يَقْتاتُونَ بالماء والتمر من غير أن يوقدوا نارًا لطبيخ أو لغير ذلك، كان يمضي عليهم أكثرُ من شهر لا يوقد فِي بيت رسول الله r نارٌ، وكان سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام مع ما ءاتاه الله من الـمُلْكِ يتقوَّت مِن الشعير يترك الرز والقمح اللذين هما أعلى من حيث التغذية ويتقوت الشعير تواضعًا لله تعالى.
الحاصل: أن أنبياء الله وأولياءَ الله يتركون كثيرًا من الملذات التِي هِيَ حلال يتركون كثيرًا إيثارًا لما عند الله تعالى إيثارًا للآخرة، كثير منهم مع المقدرة، هذا سليمان لو أراد أن يأكل الذهب والجواهر مطحونة لاستطاع، ومع ذلك كان قُوتُهُ الشعيرَ، الشعيرُ عندكم اليومَ قوت البهائم فِي الغالِبِ، أليس هكذا؟ من يأكل الشعير؟ الناسُ يأكلون الشعير فِي هذه البلاد؟ يتقوَّتُونَ بالشعير؟ الشعيرُ يَعْلِفُونَه للبهائم. هذا سليمان الذي ءاتاه اللهُ، أي: أعطاه من الـمُلك ما لم يعطِ أحدًا بعده من العالمين كان قُوتُهُ الشعيرَ، مع أنهم لا يحرّمون زينةَ الله والطيبات من الرزق لكنهم كانوا يتركون أكثر الملذات. وكذلك الصوفية لأن الصوفيةَ أتباعُ الأنبياء بالمعنى الكامل، الصوفِي هو الذي يتبع الرسول r اتباعًا كاملًا. أما الذي يقتصر على استعمال المسبحة وإطراق الرأس وتغميض العينين عند الوِرْدِ ثم لا يتبع الرسول r اتباعًا كاملًا فإن هذا مُدَّعٍ كذّاب، ليس هذا الصوفِي. من كان أراد التصوف الصادق فليتبع رسول الله r وليتبع مَن قبله من أنبياء الله وليتبع أبا بكر الصّدّيق t الذي شوهد بعدما تولى الخلافة وهو يحمل شيئًا لِيُحَصِّلَ منه مصاريفَ بيته، قيل له: يا خليفة رسول الله إنّا نكفيكَ فلماذا تخرج للعمل بنفسك؟ هذا لم يتبع أبا بكر الصّدِّيقَ t الذي يدَّعِي أنه على طريقته، هؤلاء النقشبندية يقولون أصل طريقتنا من أبي بكر الصّدِّيق t، فمن يدّعي النقشبندية فليتبع أبا بكر فليأخذ بسيرة أبِي بكرٍ، لِـمَ يأخذُ بسيرةِ الفراعِنَةِ؟ يدَّعِي التصوف يدَّعِي أنه على طريقة أبِي بكرٍ ثم يتركُ طريقةَ أبِي بكر ويتبع الفراعنة؟
نرجع إلى تفسير كلام الجنيد t هذا الجنيد الذي هو سيد الصوفية توفِي فِي أواخر القرن الثالث الهجري توفِي سنة مائتين واثنتين وتسعين، قال t: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، معناه: ليس التصوف حكاياتٍ إيرادَ حكاياتِ الصالحين عِمِلَ فلانٌ كذا عَمِلَ فلانٌ كذا ليس هكذا التصوف، قال: إنما أخذنا عن السهر والجوع، معناه: أخذنا التصوف وحصَلنا عليه حتى صرنا إلى هذه الدرجة بتقليل النوم وبتقليل الطعام، ما وصلنا إلى هذه الحال بمَلْءِ البطون والإكثار من النوم، قال: أخذناه بالجوع والسهر وترك المألوفات، أي: ترك شهوات النفس والمستحسنات، أي: ترك الشهوات التي تستحليها النفس، من هذا أخذنا التصوف. ما أخذنا التصوف بقال فلان من الصالحين من حكايات الصالحين وقال فلانٌ وقال فلان وعلى ذلك أغلبُ من يَدّعِي التصوف اليومَ إلا من رحمه الله، أغلب الذين يدّعون التصوف من أيّ طريقة كانوا إن كانوا قادرية أو رفاعية أو نقشبندية أو غير ذلك فإن أغلبهم اليوم ليس عندهم إلا الحكايات، وظيفتهم إذا اجتمعوا أن يقولوا: قال أبو يزيد عَمِلَ أبو يزيد كذا كذا، قال الحلاج: كذا وكذا عَمِلَ الحلاج كذا وكذا، ثم لو كانوا يروون عن المشايخ ما هو الصحيح الثابت عنهم مما لا يخالف شريعةَ الله لكان شرُّهم أخفَّ وأقلَّ لكنهم يروون عن هؤلاء الطامّاتِ المهلكاتِ الكفريات فيستحسنونها ويسوقون الناس ويحسّنون للناس ذلك، هذه الطامات المهلكاتُ يُحسّنونها للناس ويَسُوقُونهم إليها. فالجنيد t قال: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، أي: ما أخذنا التصوف عن الحكايات قال فلانٌ كذا قال معروفٌ الكَرْخِي كذا قال حبيب العَجَمِيّ قال الحسن البصرِيّ كذا إنما أخذنا بالمجاهدة، أي: إنما وصلنا إلى التصوف إلى هذا المقام بصفاء المعاملة، أي: إخلاص المعاملة لله تعالى، أي: بأداء فريضته بأداء ما فرض الله على عباده بأداء الواجبات واجتناب المحرمات وترك المألوفات والمستحسنات وترك الاسترسال والانغماس بملذات الطعام والشراب ونحو ذلك بهذا أخذنا التصوف.
أولئك كان دأبهم العمل والجد والاجتهاد، يتعلمون ما فرض الله على عباده فِي الاعتقاد وفي الأعمال كالصلوات الخمس على وجه تكون مقبولة عند الله. كانوا يعتنون لهذا ويُسرِعون إلى اجتناب المحرمات؛ بل كانوا يجتنبون المكروهات وهؤلاء كانوا بالأمس القريب. كان أحد مشايخِي يسمّى حاج كبير t كان يَدْرُسُ العلم فِي مكة أيام السلطان عبد الحميد، كان هو متفوّقًا فِي الحفظ، الورقةُ إذا نظر إليها مرة يحفظها، كان متفوقًا فِي العلم والفهم والحفظ مع ذلك لَـمّا يذهب المشايخ إلى الأمراء ليكسبوا منهم من المال هو لا يذهب لزهده، مع كل هذا فِي رمضان كان يختم القرءان كل يوم ختمة أو ختمتين، يبذل جهده فِي الاجتهاد فِي العبادة كأنه من الملائكة، كان يؤمُّ فِي مكة فِي الحرم الشريف فِي التراويح، مع كل هذا ما كان يتظاهر بمظهر التعاظم كان يقول لِي إن رأيت عَلَيَّ مكروهًا فنبِّهْنِي مع أنه فِي ذلك المقام الأعلى لكن هو يرى نفسه من شدة خوفه من الله تعالى أقلَّ بكثير مما هو يستحقُّهُ. شيخُنا هذا بالأمس القريب توفِي منذ سبع سنوات أو ست سنوات فِي الحبشة، أن يكون هذا ممن كان فِي عصرنا ممن أدركناه فكيف كان الجنيد وكيف كان مَن قَبلَ الجنيد من أهل الله من الصوفية.
هو الذي نظر فِي سيرة السلف من الصوفية من التابعين وأتباع التابعين يعرف أنه لو كانوا يؤثرون أنفسهم بالملذات لو كانوا يلتهون كلما فتحوا بلدة يلتهون بالأكل والشرب والتلذذ بخيرات هذه الأرض ما وصلوا إلى هذه الدرجة من نشر الإسلام فِي مشارق الأرض ومغاربها، لكنه ما كان يُلهيهم ذلك بل كلما فتحوا أرضًا يتركون فِي هذه الأرض من يعلمهم أحكام الدين ثم ينتقلون إلى ما وراءها، ما كانوا يلتهون بخيرات هذه الأرض ونعيمها عن الدُّؤوبِ فِي السير فِي الجهاد فِي سبيل الله بل كانوا يدأبون لأنهم علموا علم يقينٍ أن هذه الدنيا دارُ ممر وأن طعام الدنيا الذي يؤكل نهايته القذرُ بعد قليل من الوقت يصير قذرًا وأن ثياب الدنيا بعد برهة من الزمن تُرمى فِي المزابل. هم عرفوا حقيقة الدنيا. أما هؤلاء الناس الذي همهم جمع الملايين بعضِها إلى بعض وبناء البنايات الفخمة والتقلب فِي أنواع الملذات فِي ليلهم وفي نهارهم هؤلاء كأنهم لم يعرفوا ما هي الدنيا، أولئك العقلاء أولئك الزهاد الذين ءاثروا ما عند الله تعالى أولئك أهل الفهم، أولئك أهل العقل أولئك أهل العقل الكامل. هؤلاء أصحاب الملايين الذين فِي هذا العصر أولًا لا تخلو أموالهم من حرام فِي الغالب إن لم يكن الجميع فالغالب لا تخلو أموالهم من الحرام وثانيًا لا يغيثون أهل الضرورات من المسلمين يتركون أهل الضرورات إلى ضروراتهم هذا عنده عشرات الملايين ولا يعين أهل الضرورات ثم بعد قليل يتركون هذا المال فيأكله من كان عدوًّا لهم، يترك هؤلاء هذا المالَ الكثير فيتحول إلى إنسان لا يحبونه؛ لأن الموت لا يستشيرُهم لا يقول لهم أنا أعطيك سنة حتى تفكر فِي أمرك حتى ترتب أمورك لا يقول له يأتيهم وهم سابحون فِي بحر التنعم يأتيهم بغتة ثم قد يستلط على هذا المال على هذه الملايين يتسلط إنسان لم يكونوا يحبونه.
التّصَوُفَ صفاءُ المعاملة التصوف، معناه: أن يعاملَ العبدُ ربَّهُ كما يرضى اللهُ بأن يؤديَ ما افترض الله عليه ويجتنب ما حرم الله عليه ويكثر زيادةً على ذلك النوافل، أي: الطاعات التي لم يفرضها الله عليه. هم الصوفية الإسلاميون من الصحابة فمن بعدهم لا يسترسلون فِي طيبات الدنيا، أي: المطاعم اللذيذة ونحو ذلك لا يسترسلون من غير أن يُحَرّمُوهَا؛ بل يُحِلُّونَهَا لا يحرمونها على الناس؛ بل يقولون خير لكم إذا قللتم من ملذاتها هكذا كانوا يقولون من غير أن يحرموها على الناس، يرشدون الناس إلى التقلل منها. أما الذين ذمهم الله فِي القرءان فِي قوله: {قُل مَن حَرَّمَ زينَةَ اللَّـهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ} [سورة الأعراف: 32]، فأولئك هم قوم من المشركين من مشركِي العرب كانوا يحرّمون على أنفسهم للتقرب إلى الأوثان بعضَ الأنعام الإبلِ والغنمِ كانوا يحرمونه لأوثانهم ولا يذبحونه فينتفعوا بلحمه ولَا يشربون دَرَّهُ، أي: حليبه يقولون هذا أعتقناه وعدناه للأوثان، أي: لآلهتهم يقولون هذا وعدناه لآلهتنا لا يتعرضون له إن كان إبلًا لا يركبونه ولا يشربون الحليب كذلك الزينة حرموها على أنفسهم كيف حرموا الزينة على أنفسهم؟ الشيطان ظهر لهم بصورة إنسان فكلمهم بكلام مسجوع ففتنهم قال لأهل مكة أنتم كيف تطوفون ببيت الله وأنتم لابسون هذه الألبسة التِي تقترفون المعاصِي فيها هذا لا يجوز لا يجوز طوفوا بالكعبة عراة من غير ثياب فأطاعوه فصاروا يطوفون بالكعبة عراة كما خرجوا من بطون أمهاتهم، هؤلاء حرموا الزينة التي خلقها الله لعباده حرموها تحريمًا كانوا يرون ذلك بعدما علمهم الشيطان كانوا يرون ذلك حرامًا ويرون التعرّي فِي حال الطواف قُرْبَةً إلى الله كانوا يعتبرون ذلك تقربًا إلى الله يقولون: اللَّهُمَّ إنّا فعلنا هذا لترضى اللَّهُمَّ عنا، هذه الزينة التي حرمها المشركون الله تعالى أحلها لعباده {قُلْ مَن حَرَّمَ زينَةَ اللَّـهِ الَّتي أَخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيَا خالِصَةً يَومَ القِيامَةِ} [سورة الأعراف: 32] الله تعالى يقول لسيدنا محمد r {قُلْ} يا أشرف الخلق {لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيَا} هذه الزينة التي أحلها الله {لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ}، أي: المستلذات من الرزق {لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيَا} مع غيرهم، أي: مع غير المؤمنين، أي: أن المؤمنين وغيرَهم يشتركون فيها، {خالِصَةً يَومَ القِيامَةِ} أما فِي الآخرة فتكون لهم خالصةً، أي: أن المؤمنين الذين ءامنوا بالله ورسوله r هم أهل هذه الطيبات من الرزق فِي الآخرة وهم أهل الزينة، أي: اللباسِ الذي يُتَزيّنُ به.
الكفار يوم القيامة حرام عليهم أن يلبسوا ثيابًا عادية كما كانوا يلبسونها فِي الدنيا وحرام عليهم أن يشربوا ماءً عذبًا ينتفع به ينتعش البدن كما كانوا فِي الدنيا يشربون، هناك حرام عليهم لا يرزقهم الله لا يجدون، ليس لهم سبيل إلى أن يجدوا ماءً فيشربوا وليس لهم سبيل إلى أن يجدوا الطعام الذي كانوا يأكلونه فِي الدنيا وليس لهم سبيل إلى أن يلبسوا هذا اللباس الذي كانوا يلبسونه فِي الدنيا كل ذلك حرام عليهم بعد موتهم. الله تعالى إنما رد على المشركين الذين كانوا يعتبرون لُبْسَ الثياب فِي حال الطواف بالكعبة الشريفة حرامًا لأنهم هم حرموها ما حرمها الله تعالى الله تعالى يأمر بالستر لا يأمر بكشف العورات أمام الناس كذلك البهائم التي رزقهم الله إياها من إبل وغنم كانوا يعتقونها لآلهتهم أو لأوثانهم يحرمونها يقولون هذه أعتقناها لا يركبونها ولا يشربون حليبها ولا يذبحونها فيأكلوها هم حرموها على أنفسهم حرّموا تحريمًا أما هؤلاء المؤمنون الصالحون من الأنبياء والتابعين لهم بإحسان هؤلاء لا يحرمون الطيباتِ من الرزق ولا الزينةَ التي أحلها الله إنما لا يسترسلون فيها لا ينهمكون فيها لأن الذي ينهمك لا يكون من أهل الدرجات العُلى التي هي درجة الكاملين، درجة الكاملين لا تكون إلا للذين لا ينهمكون فِي الملذات المباحة إنما تكون للذين يقللون منها فيؤثِرون ما عند الله كما كانت سيرة سيدنا محمد r وسيرة عمر بن الخطاب t هذا عمر بن الخطاب t الذي كان فيه هذا العقل الراجح فِي تدبير شؤون الحرب الذي كسر الأكاسرة كان t متقللًا فِي أمر طعامه وشرابه ولباسه كان متقللًا جدًّا كحال أفقر إنسان اليوم حتى إنه كان ذات يوم لبس قميصه فيه أربعُ رِقاع وهو خليفة وهو أموال الدنيا تتدفق عليه، بيت المال فِي عصره كان ممتلئًا بما ساق الله إليه من الرزق هذا تقللٌ من باب الإيثار للآخرة ليس تقللَ البخلاء، يوجد فِي البخلاء من لا يسمح لنفسه أن يتوسع لكن تقلل أولئك غير هذا.
وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين.
والله تعالى أعلم.
([i]) رواهُ البخاريُّ، بابُ ذكرِ الملائكةِ ورواهُ مسلمٌ، بابُ: إذا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا حَبَّبَهُ إلى عِبَادِهِ.
([ii]) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: مِنْ فَضَائِلِ أُويْسٍ الْقَرَنِيّ t.
([iii]) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: من فضائل أويس القرنِيّ t.
([iv]) رواه الترمذيّ فِي سننه، باب: أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم.
([v]) رواه ابن حبّان فِي صحيحه فِي ذكر اطلاع المصطفى r فِي النار على من يعذب فيها نعوذ بالله من النار.
([vi]) رواه البيهقيّ فِي الشعب، بلفظ: يتعادون، كتاب الزهد وقصر الأمل. ورواه محمد بن نصر بن الحجاج المروزي من كتاب تعظيم قدر الصلاة بلفظ: يتعاوَوْن.