بسم الله الرحمن الرحيم
درسٌ أملاهُ الـمُحدثُ الشيخُ عبدُ الله بنُ محمدٍ الهرري الحبشي رحمَهُ الله تعالى سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق لسنة اثنتين وثمانين وتسعمائة وألف ر في بيته في بيروت وهو في بيان وجوب ثبوت صفة القدرة لله تعالى. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وسلم.
وبعدُ فقد أجمع علماء الإسلام أنه يجب على المكلف معرفةُ أن الله تعالى مُتصفٌ بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وقالوا إنَّ مَن أنكر كونَ اللهِ تعالى متصفًا بصفة منها يكونُ غيرَ عارِفٍ بالله تعالى وإيمانُهُ غير صحيحٍ.
وما ذكره بعضُ الناس من أنَّ طائفةً من العلماءِ ذهبوا إلى أنه لا يكفرُ ولا يفسقُ مسلمٌ في جهله بشيء من ذلك وأنه يُؤجَرُ على اجتِهاده في شيء من ذلك فلا يثبت ذلك المذكورُ عن ابنِ أبي ليلى وأبي حنيفةَ والشافعيّ وسفيانَ وداودَ ولا عن أحدٍ من الصحابة، والعَجَبُ العُجابُ قولُهُ لا خلافَ في ذلك أصلًا.
وأما احتجاجُهُ بالرجلِ الذي أوصَى بأن يُحرَقَ جسَدُهُ إذا ماتَ ويُذَرَّ رمادُهُ في البرّ والبحر فالحديثُ مُؤَوَّلٌ بأنَّ معنى لَئِنْ قدر اللهُ عليَّ ليُعَذِّبَني عذابًا ما عذَّبَهُ أحدًا، أنه بمعنى التضييق لا بمعنى الشك في قدرة الله، فالرجلُ لم يكن شاكًّا في قدرة الله على كل شيء إنما قصدُهُ أنه إنْ عذَّبَهُ اللهُ في قبرهِ فإنَّ عذابَهُ شديدٌ. كان مسلمًا وكان نبّاشَ قُبورٍ يأخذُ الأكفانَ ويبيعُها لذلك خاف عند موته خوفًا شديدًا كان في حالةٍ كحالةِ الجُنونِ من شدة الخوفِ فقال ما قال وهو لا يعقل.
وكيف يُعذر مَن يشك في قدرة الله عليه أو على إنسان غيره.
ولا يستطيع هذا الزائغُ أن يأتيَ بنصّ ثابتٍ عن واحدٍ من هؤلاءِ الذينَ يَذكُرُهُم. أما ابنُ حزم فيحتمل أن يقول بذلك لأن ابن حزم ليس في عِداد الأئمة المجتهدين فكيف يُعَدُّ مجتهدًا مَن فرقَ في البول بين أن يبولَ الشخصُ في الماء وبين ما إذا كان في وعاء ثم صبَّ هذا البولَ في الماء بأن الأول ينجّس الماءَ والثاني لا ينجّس فهل لهذا اعتبار في معنى الاجتهاد.
وليس التأويلُ المذكورُ باطلًا كما زعمَ هذا الزائغُ بل له وجهٌ صحيحٌ. ولمزيد إيضاحِ المسألةِ ننقل روايةَ البخاريّ من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان رجُلٌ يُسْرِفُ على نفسِهِ فلمّا حضرَهُ الموتُ قال لِبَنيهِ إذا أنا مِتُّ فأحرِقوني ثم اطحنوني ثم ذُرُّوني فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذّبني عذابًا ما عذّبهُ أحدًا. فلما مات فُعلَ به ذلك فأمر اللهُ الأرض فقال اجْمَعي ما فيك منه ففعَلتْ فإذا هو قائمٌ فقال ما حَمَلَكَ على ما صنعتَ قال يا ربّ خَشيتُكَ فغفر له([i]) اهـ ثم نتبعه بكلام الشارح الحافظ ابن حجر العسقلاني قال ما نصه في الجزء السادس قولُهُ لئن قدر الله عليَّ في رواية الكُشْمَيهَنِي([ii]) لئن قدرَ عليّ ربي، قال الخطابيّ قد يُستشكل هذا فيقال كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فُعل به ذلك لا يُعاد فلا يعذب وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله، وهذا من الخطابيّ محمول على أنه أراد أنه صدر منه لكونه قريب عهد بالإسلام فلا يمنع ظنه ذلك صحة إسلامه لأن قريب العهد بالإسلام يعذر في أشياء يظنها وهي خلاف الشرع كما نص عليه الفقهاء في كتاب أحكام المرتد فظَنُّ قريب العهد بالإسلام أنه إن فُعل به ذلك يسلم من عذاب الله لا يمنع صحة إسلامه لأن هذا ليس جهلًا بأصل العقيدة بل هذا من توابع العقيدة بل العذاب على بعض الجرائم كجريمة نبش القبور التي كانت جريمة هذا الإنسان إذا ظن الجاهل القريب العهد بالإسلام أنه يسلم من هذه العقوبة إذا فُعل به هذا الفعل لا يمنع صحة إسلامه اهـ ثم قال قال ابن قتيبة قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك وردَّه ابنُ الجوزيّ وقال جحدُ صفة القدرة كُفرٌ اتفاقًا اهـ قال الحافظ وإنما قيل إن معنى قوله لئن قدر الله عليّ أي ضيّقَ وهي كقوله تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ﴾([iii]) أي ضُيّقَ. وأما قوله لَعَلّي أضَلُّ اللهَ فمعناه لعلي أَفُوتُهُ، يقال ضلَّ الشيءَ إذا فات وذهب وهو كقوله تعالى في سورة طه: ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنسَى﴾([iv]) ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال أنت عبدي وأنا ربك، أو يكون قوله لئن قدَّرَ الله عليَّ بتشديد الدال أي قدر عليَّ أن يعذبني ليُعَذِبَني أو على أنه كان مثبتًا للصانع وكان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ولم يقله قاصدًا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه، وأبعد الأقوال قول من قال إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر انتهى. وأما رواية لعلّي أضل الله فقد فسرها شارح القاموس الزبيديُّ بقوله أي أغيب عن عذاب الله.
فكل ما يذكر من التأويل إنما يحتاج إليه على تقدير أنه قال ذلك وهو في حال التكليف أي العقل والإرادة وإلا فلا حاجة إلى ذلك.
وقد تبين من كلام ابن الجوزي المار أن الشكَّ في قدرة الله كفرٌ بالإجماع إن كان من الجاهل أو من غيره فلو كان الجهل في ذلك عذرًا يمنع الكفر عن صاحبه لكان الجهل في سائر أمور الدين عذرًا يُسقط عن صاحبه العقوبةَ في الآخرة ومعنى ذلك أن الجهلَ خيرٌ من العلم وكفَى بذلك خزيًا لقائل هذه المقالة.
وليست هذه المسألة أي قدرةُ الله والجهلُ بها كبعض أمور الدين التي قد تخفَى على قريب عهد بالإسلام أو ناشئٍ بأرض بعيدة عن أهل العلم بأمور الدين وهي التي قال الفقهاء يُعذر مَن جهلها فلا يكفر وذكروا لذلك مثالَ إنكار وجوب الصلاة وإنكار حرمة الزنى وأما قدرة الله على كل شيء فمسألتها من أظهر عقائد الإيمان لأنها من خصائص الألوهية كعلمه بكل شيء.
وأما احتجاجُ هذا الكاتب بقول الحواريين لعيسى: ﴿هل يَسْتَطيعُ ربُّكَ أن يُنَزِّلَ علينا مائدةً مِّنَ السمآءِ﴾([v]) فالجواب عنه أمران أحدهما ما قيل إن ذلك صدر منهم قبل أن يثبت يقينهم كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿قال اتَّقُوا اللهَ إن كُنتُم مُّؤمِنينَ﴾ كما قد حصل لبعض أتباع موسى أن قالوا: ﴿اجْعَل لَّنا إلهًا كما لَهُمْ ءالِهَةٌ﴾([vi]) وهل يفهم من ذلك أن هؤلاء حين قالوا تلك الكلمة كانوا مؤمنين معذورين بقولهم هذا؟ والثاني أنَّ معنى يستطيعُ يُجيبُ أي هل يجيبك ربك يا عيسى إذا طلبت منه ذلك وهذا تفسيرٌ صحيحٌ لغةً كما ذكره صاحب البحر المحيط في تفسيره والمفسرُ اللغويُّ الراغب الأصبهانيّ في مفرداته ويؤيد هذا قراءةُ الكسائِيّ هل تستطيعُ ربَّكَ أن ينزل لنا مائدةً وهذا الوجه يتعين المصير إليه لما عُلِمَ للحواريين من الثناء المشهور المتواتر على الألسنة. قال صاحب البحر في تفسيره قال المفسرون والحواريون وهم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولم يشكُّوا في قدرة الله تعالى على ذلك، قال ابن الأنباريّ وهو أحد أئمة اللغة لا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه هل تستطيع أن تقوم معي وهو يعلم أنه مستطيع ولكنه يريد أن يقول له هل يسهل عليك وقال الفارسيّ معناه هل يفعلُ ذلك بمسألتك إياه وقال الحسن لم يشكُّوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤالَ مُستَخْبرٍ هل يُنزل أم لا فإن كان يُنزل فاسأله لنا اهـ وقال صاحب البحر أيضًا في تفسيره المختصر من البحر المسمى بالنهر المادّ من البحر وقرأ الكسائيّ هل تستطيع بالتاء وربَّكَ بالنصب وهو على حذف مضاف تقديره سؤال ربك فالمعنى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل وهذه القراءة أحسن في المحاورة من قراءة الجمهور اهـ فتبين وظهر مما أوردناه أن صاحب المقالة أبعدَ في النُّجعة من غير طائل غير أنه يُمَوّهُ على أمثاله ومَن هو أضعف منه فهمًا وأعجبُ ما في كلامه أنه لم يكتفِ بنفي الكفر عمن شك في قدرة الله بل نفى عنه التفسيق أيضًا.
ومما يناسب ما نحن فيه أنه ورد حديثان صحيحان أحدهما أخرجه البخاريُّ والثاني أخرجه أصحاب السنن الأربعة فحديث البخاري هو ما رواه من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتهدَ الحاكم فأصاب فلهُ أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر([vii]) اهـ والحديث الآخر رواه أصحاب السنن الأربعة من طريق بُرَيدةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القضاةُ ثلاثةٌ قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار فالذي في الجنةِ قاضٍ قضَى بحقّ بعلمٍ واللذانِ في النار قاضٍ قضَى بجَورٍ وقاضٍ قضى بجهلٍ اهـ هذان الحديثان مَوْرِدُهُما في فروع الشريعة وليس في أصول الدين والعقيدة فحديث البخاري هو في الحاكم المستوفي لشروط الاجتهاد كعمر بن عبد العزيز وشُرَيحٍ والشَّعبيّ فإنه إن أصاب كان له أجران وإن أخطأ فله أجرٌ وحديثُ بُريدةَ في القاضي الذي ليس من أهل الاجتهاد فيقضي بلا علم وهو جاهل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا إنهُ في النار فإذا كان هذا فاسقًا بشهادة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فكيف يقول هذا الكاتب إن الجاهلَ بصفات الله تعالى كالقدرة على كل شيء معذورٌ لا يكفر ولا يفسق، بل هو ومن تبعه ممن يهدمون دين الله وهم يدَّعُون أنهم دُعاةُ دينِه فليعلموا ذلك وإنا لله وإنّا إليه راجعون، وليعلموا أنَّ نصوص الشرع ءاياتِ القرءان والأحاديثَ الثابتةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها تناقضٌ وإنما داءُ الجهل بمآخذِ الأحكام يجعلُ صاحِبَهُ يظُنُّ كأنَّ نصًّا يُناقض نصًّا.
انتهى والله تعالى أعلم.
[i])) رواه البخاري في صحيحه باب حديث الغار.
[ii])) نسبة إلى كشميهن. قال في تاج العروس بضم الكاف وسكون الشين وفتح الميم وكسرها.
[iii])) سورة الطلاق/الآية 7.
[iv])) سورة طه/الآية 52.
[v])) سورة المائدة/الآية 112.
[vi])) سورة الأعراف/الآية 138.
[vii])) رواه البخاريّ في صحيحه بابُ أجْرِ الحاكِمِ إذا اجتَهَدَ فأصابَ أو أخطأَ.
رواه أبو داود في سننه بابٌ في الوضوءِ منَ النومِ، والترمذيُّ في سننه باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، والنسائيُّ في سننه باب ذكر ما أعد الله تعالى للحاكم الجاهل، وابن ماجه في سننه بابُ الحاكمِ يجتهدُ فيُصيبُ الحقَّ.