بسم الله الرحمن الرحيم
درس ألقاهُ الأصوليُّ المحدثُ الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى في النصف الثاني من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعمائة وألف من الهجرة في سويسرة الموافق للسابع من شهر كانون الثاني من سنة ثمانٍ وثمانينَ وتسعمائةٍ وألف ر وهو في بيان أقل الإسلام والإيمان وأكملهما وماذا يحصّل العبد إذا نال كلًّا من المرتبة الدنيا والعليا. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين. اللهم علّمنا ما جهلنا وذكرنا ما نسينا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا ونعوذ بك من حال أهل النار.
أما بعد فقد رُوّينا في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهَدوا أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأني رسولُ اللهِ فإذا قالوها عصَمُوا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلام اهـ وفي لفظ إلا بحَقِّها([i]) اهـ.
هذا الحديث أصح الأحاديث الصِحاح رواه عن رسول الله عدد من أصحابه ورواه عنهم عدد كثير من التابعين وفيه دلالة على أن شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله فيها كفايةٌ للإيمان والإسلام لأن اللفظ إذا قارنه التصديق القلبيّ فهذا هو الإيمان والإسلام.
لكن إذا انفرد التصديقُ القلبيّ عن النطق بالشهادتين فذاكَ لا يكفي بالنسبة لمن لم يكن مولودًا بين أبوين مسلمَين بل أرادَ أن يدخلَ في الإسلامِ، بالنسبةِ لهذا الإنسان لا بُدَّ للحُكمِ عليه بالإسلام من النطق بالشهادَتَين، أما إنْ كان مولودًا بين أبوينِ مسلمَين فيكفيه لصحةِ إيمانِهِ وإسلامِهِ اعتقادُهُ معنى الشهادتين ولو لم ينطق بهما لفظًا، فمن اعتقدَ معنى الشهادتين في قلبِهِ ثم لم يستحضر شيئًا من أصول الإيمانِ ولا من الأعمال البدنية كالصلوات الخمس وصومِ رمضانَ لم يستحضر شيئًا من ذلك إنما قلبُه صدَّقَ بهذا المعنى معنى الشهادَتين ولم يستحضر سوى ذلك من أمور الإسلام والإيمان لكنه لم يُنكِرْ بل ذهنُهُ خالٍ من الاستحضارِ والإنكارِ والشكّ، ذهنهُ خالٍ من الأمورِ الثلاثةِ فهذا مسلمٌ مؤمنٌ. لا يُقالُ إنه لم يعرف بقيةَ أصول العقيدة فلم يعرف الصلواتِ الخمسَ ولا صيامَ رمضان ولا ما هو معنى ذلك فلا يكون مسلمًا بل بمجرد استحضاره معنى الشهادتين أي الاعتقادِ بهما أي بمعناهما صحَّ لهُ الإسلام والإيمان، أما إن قارن هذا النطقَ الإنكارُ أو الشكُّ فذلك الذي لا يصح له إيمان ولا إسلام.
ليس من شرط صحة الإيمان والإسلام استحضارُ بقيةِ أمورِ الإسلامِ وأمورِ الإيمانِ لأنَّ أمورَ الإسلامِ أي معظمَ أمور الإسلام هو ما جاء في حديث جبريلَ عليه السلام الذي رواه عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه، وهو أي معظمُ أمور الإسلام شهادةُ أن لا إله إله الله وأنَّ محمدًا رسول الله وإقامُ الصلاةِ أي المداومةُ عليها وإيتاءُ الزكاةِ أي إعطاءُ الزكاةِ الواجبة لمستحقيها وصيامُ رمضان وحجُّ البيت لمن استطاعَ إليه سبيلًا هذه معظم أمور الإسلام.
وأما معظم أمور الإيمان فهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدرِ خيره وشرِه. هذه الأمور ليس شرطًا استحضارُها لصحة الإسلام والإيمان إنما الشرط لتحقق الإسلام والإيمان في الشخص هو اعتقادُ معنى الشهادتين أي والنطقُ بهما وأما ما سوى ذلك فليس شرطًا لحصول أصل الإسلام والإيمان. إنما هو من أعظم الأمور التابعة لهما أي للإسلام والإيمان.
فإذا فرضنا أنَّ إنسانًا ذِهْنُهُ خالٍ عن كل أمورِ الدين إلا عن الشهادَتَين صحَّ أن يُحكمَ عليهِ أنه مؤمنٌ مسلم لكن يُشترطُ لصحة ذلك أن لا يقترن هذا الاعتقادُ بما ينقضه وهو الشكّ في حقيَّةِ أمرٍ من هذه الأمورِ أو الإنكارُ بالقولِ فإنه إذا اقترنَ ذلك أي الشكُّ أو الإنكارُ بهذه الأمور فإن معرفةَ معنى الشهادتَين لا تكونُ معتبرةً عند الله تبارك وتعالى.
قد يتوهمُ بعضُ الناس أنه إذا لم يجمع الإنسانُ تلك الأمورَ الخمسةَ كلَّها، شهادةُ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله هذا أمرٌ واحدٌ ثم الأمر الثاني إقامةُ الصلاة ثم الأمر الثالث إيتاءُ الزكاة ثم الأمرُ الرابع صومُ رمضانَ ثم الأمرُ الخامس حجُّ البيت، يظنُّ بعض الناس أنَّ من لم يجمعْ هذه الأمور الخمسة لا يكون له إسلامٌ وهذا غلطٌ. ليس شرطًا في حصول أقل مسمى الإيمان والإسلام اجتماعُ هذه الأمور أي أن يجمع الشخص هذه الأمورَ كلَّها.
كذلك ليس شرطًا في حصول الإيمان الذي فسّرهُ الرسول بستة أشياء وذلك بقوله في حديث جبريل: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره([ii]) اهـ ليس شرطًا اجتماعُ الأمورِ الستةِ. يظنُّ بعضُ الناس أنَّ هذه الأمورَ الستةَ إذا لم تجتمع في الشخص أي إذا لم يستحضر هذه الأمورَ الستةَ ليس بمؤمن، هذا ليسَ صحيحًا إنما الشرطُ لحصولِ أصل الإيمان وأصل الإسلام الشهادتان أي الاعتقادُ بمعناهما بشرط أن لا يقترنَ بذلك شكٌّ أو إنكارٌ هذا هو أصلُ الإيمانِ والإسلامِ فمن حصلَ له هذا الاعتقادُ بمعنى الشهادتين فهو مسلم مؤمن إنما لا يكون إسلامه وإيمانه كاملَين إلا أن يجمعَ بقيةَ الأمورِ ويؤديَ ما سوى ذلك من الواجباتِ ويجتنبَ المحرماتِ كلَّها.
وأعظم المحرمات الكفر ثم أمور أخرى بعضها أشدّ من بعض، رأس الـمُحرَّمات وأكبرها وأشدّها هو الكفر إن كان شركًا وإن كانَ غيرَ شِركٍ لأنَّ الكفرَ يكون بالإشراك بالله تعالى ويكون بغير الإشراك كتكذيب الرسول وغير ذلك من أنواع الكفر.
بعضُ الناس يظنّ أن قولَ بعضِ الناس أركانُ الإسلام خمسة أن الإسلام لا يصح إلا باجتماعِ الخمس. توهَّمَ هذا المعنى من قول الفقهاءِ أركانُ الصلاة كذا وكذا لأن معنى أركانِ الصلاةِ الأمورُ التي لا تصحُّ الصلاةُ إلا باجتماعِها، يتوهمُ من هذه العبارة وليس هذا قصدَ الفقهاءِ بقولهم ذلك فلا يجوز أن يتوهم الإنسان من قول الفقهاء أركان الصلاة كذا أركان الصيام كذا أنه لا يُعتد بالإيمان والإسلام إلا إذا اجتمعت هذه الأمور كما لا يعتد بالصلاة إذا اجتمعت أركانُها جميعًا فإن هذا فهمٌ غلطٌ لا يُقاس هذا على هذا.
ثم إن الإيمان والإسلام مرتبتان المرتبة العليا والمرتبة الدنيا أي الأقل. المرتبة العليا لا تصلح إلا باعتقاد معنى الشهادتين وبأداءِ جميعِ ما افترضَ الله على عباده من الأعمال القلبية والأعمال البدنية وباجتناب ما حرّم الله من الأعمال القلبية والأعمال البدنية وهذه هي المرتبة العليا. أما المرتبة الدنيا أي الأقل فهي اعتقاد معنى الشهادتين وفرق كبير بين هاتين المرتبتين.
المرتبة التي هي الأقل تضمنُ لصاحبها إنْ تجنَّبَ الكفرَ النجاةَ من الخلود الأبديّ في النار ثم دخول الجنةِ إما بعد عذاب على ذنوبه من تركِهِ لأداء الواجبات أو ارتكابِه للكبائرِ وإما بلا عذابٍ يسبق دخولَه إياها، ثم بعد دخوله إياها ينالُ أربعة أشياء حياةٌ لا موتَ بعدها وشبابٌ لا هَرَمَ بعدَهُ وتنعُّمٌ لا بؤسَ بعدَه وصحةٌ لا سُقْمَ بعدها. هذه الأربعة مضمونة بفضل الله تبارك وتعالى لكل مسلم بعد دخولِهِ الجنة وأما صاحب المرتبة العليا في الإيمان والإسلام فعندما يكون في حال مفارقة الدنيا يبشره ملَكُ الموتِ الذي وكَّلَهُ الله تعالى بقبضِ الأرواحِ المسمى بعزرائيل بقول السلام عليك يا وليَّ الله، ثم إنه بعد الدفن أي بعد أن يُدفن لا يحصُل له نكدٌ ولا شيءٌ من المشقاتِ لا تُسَلَّطُ عليه هامّة من هوامّ الأرض ولا وحشة ولا يتكَدر من ظلمة القبر ولا ضِيقِهِ لأن الله تبارك وتعالى يُوسِّعُ له قبرَهُ سبعين ذراعًا في سبعين ذراعًا ومنهم من يوسع له مدَّ البصر. وأما ظلمة القبر فإنه يكفيه الله تعالى ذلك بأن يُنَوّر له قبره بنور كالقمر ليلة البدر أي أربعَ عشرةَ من الشهر العربيّ أي الشهر الهلاليّ. ثم له كذلك نعيمٌ لم يُطلع اللهُ تعالى عليه بشرًا ولا ملَكًا أخفاه الله تبارك وتعالى للصالحين.
الصالحونَ الذينَ هم كانوا يؤدُّون الواجباتِ كلَّها القلبيةَ والبدنيةَ ويجتنبونَ المعاصيَ كلَّها، هؤلاء يخصهم الله تباركَ وتعالى من بين أهل الجنة بنعيمٍ لم تره عينٌ حتى خُزّانُ الجنةِ من الملائكةِ لم يروه، أما أهل المرتبةِ الدنيا التي هي أقلُّ فإن لهم من دخول الجنة تلك الأمورَ الأربعةَ ويشاركونَ غيرَهم في نعيم الجنةِ إلا في تلك الأمور التي هيَ خاصَّةٌ بالصالحين والتي أخفاها الله تبارك وتعالى ولم يُطلِعْ عليها أنبياءَه ولا ملائكتَه حتى خُزَّان الجنة.
ثم إن هذا الحديث حديثَ: أُمرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهَدُوا أن لا إلهَ إلا الله وأنِّي رسولُ الله([iii]) اهـ دليلٌ واضحٌ على أن الإنسان إذا وحَّدَ الله تبارك وتعالى أو أفرده بالعبادة أو لم يتذلل نهاية التذلل لغير الله فهذا كافٍ للإيمان والإسلام ولا يُشترط ما يدَّعيه أولئكَ المشبهةُ الذين يُحَرِّمُونَ التوسل والاستغاثة بالأولياء والأنبياء فإنهم أحدثوا أمرًا ابتدعوه هم قالوا لا بد من توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال. هذا أمر لا يشهد به كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولو كان الأمرُ كما زعَمُوا لم يقتصر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وغيره الذي أوله: أمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا الله وأني رسول الله اهـ.
لو كان الأمر كما زعم أولئك لم يقتصر رسولُ الله على هذه الجملة بل لزاد ما ادعاه أولئكَ ولقال حتى يوحدوا توحيد الألوهية وتوحيدَ الربوبية وتوحيد الأفعال، هل سمعتم من هؤلاء هذه العبارة، مذكور في كتبهم في مؤلفاتهم يقولون لا بد من ثلاثة أمور توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال. إنا لله وإنّا إليه راجعون. ثم مما يدل على بطلان قولهم الحديثُ الثابتُ في سؤال القبر فإنه وردَ بلفظين لفظ الشهادة لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله واللفظُ الآخر رواه أبو داود وغيره أن الملكين اللذين يسألان المقبورين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهما يسألان هذا السؤال مَن ربُّك وما دينك ومن نبيك فلم يَقُلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إنهما يقولان هل وحّدت توحيد الألوهية هل وحّدت توحيد الربوبية هل وحّدت توحيد الأفعال فمن أين افتَرَوا هذه الفِرْيةَ، هذا قولٌ لم يسبقهم إليه غيرهم لا من السلف ولا من الخلف إنما هي بدعةٌ وضلالةٌ اختصوا بها أيِ انفردوا بها من بين الناس فالحذرَ الحذرَ من مطالعةِ كتبهم إلا لمن كان من أهل التمييز أي صار عندَه من المعرفة بعلم الدين ما يميز به الحقَّ من الباطل ولا تَعْلَقُ بقلبه هذه الشبه التي هم يوردونها في مؤلفاتهم وأما مَن كان ضعيفَ الفهم فيُخشَى عليه أن يَعلَقَ بقلبهِ شيءٌ من تلك الأقوال الفاسدة والشأنُ في الفهم ليس الشأنُ في كثرة المطالعةِ وتصفُّحِ أوراقِ مؤلفاتٍ كبارٍ متعددة، هم يقصدون أن يؤيّدوا ما ادَّعَوهُ مِنْ أنَّ مَنْ صرف إلى غير الله الرجاءَ أو الاستعانةَ أو الاستغاثةَ أو نحوَ ذلك مشركٌ أرادوا أن يؤيّدوا ذلك القولَ الفاسدَ بهذا التقسيم أما نحن فنأخذُ بما جاء به الحديثُ أنّ مَن اعتقدَ بمعنى الشهادتين كفاه ذلك وأنَّ ذلك كافٍ لتوحيد الله في ذاتِهِ وفي صفاته وفي فعلهِ أي أنه لا شريك له في ذلك.
انتهى والله تعالى أعلم.
[i])) رواه البخاريُّ بابُ وُجوبِ الزكاةِ، ومسلم باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمّد رسول الله.
[ii])) رواه مسلم في صحيحه، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة، ورواه أحمد في سننه باب مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[iii])) رواه البخاري في صحيحه باب ﴿فإن تابُوا وأقامُوا الصلاةَ وءاتُوا الزكاةَ فخَلُّوا سَبيلَهُمْ﴾ ورواه مسلم في صحيحه باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمّد رسول الله.