الأربعاء ديسمبر 4, 2024
  • برُّ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقُهُمَا

    قَال الإِمَامُ الهَرَرِيُّ t: «بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ لهُ النعمةُ ولهُ الفضلُ وله الثناءُ الحسنُ صلواتُ اللهِ البَرّ الرحيم والملائكةِ المقربينَ على سيدنَا محمدٍ أشرفِ المرسلينَ وحبيبِ ربِّ العالَمينَ.

    أمَّا بَعدُ: فإنَّ من معاصِي البدنِ التي هي من الكبائرِ، أي: من الْمَعاصي التي لا تلزمُ جارحةً من الجوارحِ عقوقَ الوالدينِ أو أحدِهمَا وإنْ علا ولو مع وجودِ أقربَ منهُ، قالَ بعضُ الشافعيةِ في ضبطِهِ: «هو ما يتأذَّى بهِ الوالدنِ أو أحدُهُمَا تأذيًا ليس بالهَيِّنِ في العُرفِ».

    وَمِنْ عُقوقِ الوالدين الذي هو من الكبائر تركُ الشخصِ النفقةَ الواجبةَ عليهمَا إن كانَا فقيرينِ، أمَّا إنْ كانَا مكتَفِيَيْنِ فلا يَجِبُ الإنفاقُ عليهِمَا، لكنْ يُنفِقُ عليهِمَا من بابِ البِرِّ والإحسانِ إليهِمَا، فيُسَنُّ لهُ أنْ يعطيَهُمَا ما يُحِبَّانِهِ؛ بل يُسَنُّ أن يطِيعَهُمَا في كلٍّ شيءٍ إلا في معصيةِ اللهِ، حتى في المكروهاتِ إذا أطاعَ أبويهِ يكونُ لهُ ذلكَ رفعةَ درجةٍ عندَ اللهِ إنْ نَوَى نيةً حسنةً، قالَ الفقهاءُ: «إذَا أَمرَ أحدُ الوالدينِ الولدَ أنْ يأكُلَ طعامًا فيه شبهةٌ، أي: ليسَ حرامًا مؤكدًا، يأكلُ لأجلِ خاطرِهِمَا ثم من غيرِ علمِهِمَا يتقايَؤُهُ»، وقالُوا: «إذا أَمَرَ أحدُ الوالدينِ ولدَهُ بفعلِ مباحٍ أو تركِهِ وكانَ يغتَمُّ قلبُ الوالدِ أو الوالدةِ إن خالفَهُمَا يَجِبُ عليهِ أنْ يطيعَهُمَا في ذلكَ».

    ومِنْ بِرِّ الوَالِدَينِ أنْ يَبَرَّ مَنْ كانَ أبُوهُ يُحِبُّهُ بعدَ وفاةِ أبيهِ بالزيارةِ والإحسانِ، كذلكَ من كانت تُحِبُّهُ أمُّهُ بعدَ وفاتِهَا بأن يَصِلَهُم ويُحْسِنَ إليهِم ويَزُورَهُم. قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أنْ يَبَرَّ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ»، أي: بعدَ أَنْ يَمُوتَ.

    ومِنْ بِرّ الوَالِدَينِ زيارتُهُمَا بعدَ موْتِهِمَا. ومن أرادَ أَنْ يكونَ بَارًا فعليهِ أن يطِيعَهُمَا في كُلِّ المباحاتِ أو أغْلَبِهَا.

    قالَ أهلُ العلمِ: «من حيثُ المشروعيةُ يُطِيعُ الولدُ والديهِ في المباحِ والمكروهِ، لكنْ لا يَجِبُ طاعتُهُمَا في كلِّ مباحٍ؛ بل يَجِبُ أَنْ يطيعَهُمَا في كُلّ ما في تركِهِ يَحصُلُ لَهُمَا غَمٌّ بسببِهِ وإلَّا لا يكونُ واجبًا، فإذَا طَلَبَ أحدُ الوالدينِ من الولدِ أَنْ لا يسافِرَ وكانَ سفرُهُ بلا ضرورةٍ وَجَبَ عليهِ تركُ ذلكَ السفرِ إذا كانَا يغتَمَّانِ بسفرِهِ وإِذَا أرادَ الأبُ أو الأمُّ منعَ ولدِهِمَا من الخروجِ من البيتِ بدونِ إذنِهِ فَإِنْ كانَ خروجُهُ يُسَبِّبُ للأبِ غَمًّا شديدًا بحيثُ يحصلُ له انهيارٌ أو شبهُ ذلكَ عندئذٍ لا يَجُوزُ لهُ الخروجُ بدونِ إذنِهِ؛ بل يكونُ خروجُهُ من الكبائرِ إنْ كانَ الأذَى الذي يحصلُ شَدِيدًا فدرجةُ المعصيةِ في ذلكَ على حسبِ الإيذاء الذي يحصلُ للوالدِ.

    وإذا طلبَ الأبُ أو الأمُّ من ابنِهما شيئًا مباحًا كغسلِ الصحونِ أو ترتيبِ الغرفةِ أو تسخينِ الطعامِ أو عَملِ الشَّاي أَ, ما أشبهَ ذلكَ ولَمْ يَفْعَلْ فإنْ كانَ يَغتَمُّ قلبُ الوالدِ أو الوالدةِ إنْ لَمْ يَفعَلْ حَرَامٌ عليهِ أن لا يَفْعَلَ.

    قالَ اللهُ تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24].

    أَمَرَ اللهُ عبادَهُ أمرًا مقطوعًا بهِ بأنْ لا يَعبُدُوا إلا إيَّاهُ وأَمَرَ بالإحسانِ للوالدينِ، والإحسانُ هو البِرُّ والإكرامُ، قال ابنُ عباسٍ: «لا تَنفُضْ ثوبَكَ فيصيبَهُمَا الغبارُ»، وقالَ عُروةُ: «لا تَمتَنعْ عن شيءٍ أحَبَّاهُ».

    وَقَدْ نَهَى اللهُ تعالى عبادَهُ في هذهِ الآيةِ عن قولِ «أفٍ» للوالدينِ وهو صوتٌ يدلُ على التضجُّرِ، وأصلُهَا نفخُكَ الشيءَ الذي يسقُطُ عليكَ من ترابٍ ورمادٍ، وللمكانِ تريدُ إماطةَ الأذَى عنهُ فقِيلَتْ لكُلِّ مُسْتَثْقَلٍ.

    {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}: ولا تَزجُرْهُمَا عما يتعاطيانِهِ مِمَّا لا يُعجِبُكَ، والنَهيُ والنَهْرُ أَخوانِ.

    {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}: أي: لينًا لَطِيفًا أحسنَ ما تجدُ كما يقتضيهِ حسنُ الأدب.

    {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}: أي: أَلِنْ لَهُمَا جانِبَكَ متذللًا لَهُمَا من فرطِ رحمتِكَ إياهُمَا وعطفِكَ عليهِمَا ولكبرِهِمَا وافتقارِهِمَا اليومَ إلى مَنْ كانَ يفتقرُ إليهِمَا بالأمسِ، وخَفضُ الجناحِ عبارةٌ عن السكونِ وتركِ التعصبِ والإباءِ، أي: ارفِقْ بِهِمَا ولا تُغَلِّظْ عليهِمَا.

    {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}: أي: مثلِ رحمتِهِمَا إيايَّ في صغرِي حتى رَبَّيَأنِي، أي: ولا تكتفِ برحمتِكَ عليهِمَا التي لا بقاءَ لَهَا، أو هُو أن يقولَ: يا أبتَاهُ يا أمَّاهُ ولا يَدْعُهُمَا بأسمائِهِمَا فإنَّهُ من الجفاءِ وسوءِ الأدبِ معهُمَا.

    وَرَوَى الحاكِمُ والطبرانيُّ والبيهقيُّ في شُعَبِهِ مرفوعًا: «رِضَا اللهِ في رِضَا الوَالِدَينِ وسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا».

    وَعَنْ بَهزِ بنِ حَكِيمٍ عن أبيهِ عن جدِهِ 4 قالَ: «قلتُ يا رسولَ اللهِ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قال: أُمَّكَ، قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: أُمَّكَ، قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قال: أبَاكَ، ثُمَّ الأَقربَ فالأقربَ». أخرجَهُ أبو داودَ والترمذيُّ وحسنَهُ.

    فيُفهَمُ مِنْ هذا الحديثِ تقديمُ الأمِّ على الْأَبِ في البِرِ، فلو طَلَبَتِ الأمُّ مِنْ وَلَدِهَا شيئًا وَطَلَبَ الْأَبُ خلافَهُ وكانَ بحيثُ لو أَطاعَ أَحَدَهُمَا يَغضَبُ الآخَرُ يُقَدِّمُ الأُمَّ على الْأَبِ في هذهِ الحالةِ.

    وإِنَّمَا حَضَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حديثِهِ هذا على بِرِّ الأمِّ ثلاثًا وعلى بِرِّ الْأَبِ مرةً لعَنَائِهَا وشَفَقَتِهَا مع ما تقاسيهِ من حَمْلٍ وطَلقٍ وولادةٍ ورَضاعةٍ وسَهَرِ ليلٍ. وقد رأَى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ 5 رجلًا يَحمِلُ أُمَّهُ على ظهرِهِ وهو يطوفُ بِهَا حولَ الكعبةِ فقالَ: «يا ابنَ عمرَ أتُرانِي وَفَّيْتُهَا حَقّها؟ قالَ: ولا بطَلْقَةٍ واحدةٍ من طَلقاتِهَا، ولَكِنْ قَدْ أَحْسَنْتَ، واللهُ يُثِيبُكَ على القليلِ كثيرًا.

    وَقَدْ قالَ العلماءُ بوجوبِ الاستغفارِ للأبوينِ المسلمينَ في العمرِ مرةً، ثم الزيادةُ على ذلكَ قربةٌ عظيمةٌ، وليسَ شرطًا أن يكونَ هذا الاستغفارُ بعدَ وفاتِهِمَا.

    فَالوَلَدُ إن استغفرَ لوالديهِ بعدَ موتِهِمَا ينتفعُ والداهُ بِهذَا الاستغفارِ حتى إنَّـهُمَا يلحقُهُمَا ثوابٌ كبيرٌ فيَعْجَبَانِ مِنْ أَيِّ شيءٍ جاءَهُمَا هذا الثوابُ؟ فيقلوُ لَهُمَا الْـمَلَكُ: هذا من استغفارِ وَلَدِكُمَا لكُمَا بَعدَكُمَا.

    وَقَدْ صَحَّ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ» رواهُ ابنُ حبانَ، أي: لا يدخُلُ هؤلاءِ الثلاثةُ الجنّةَ مع الأولينَ إنْ لَمْ يتوبُوا، وأمَّا إنْ تَابُوا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» رواهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّيُّوثُ هو الذي يَعْرِفُ الزِّنَى في أهلِهِ ويَسكُتُ عليهِ مع مقدرتِهِ على منعِهِم، ورَجُلَةُ النِّسَاءِ هي التي تَتَشَبَّهُ بالرِّجَالِ.

    وأخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مِنَ الكبائِرِ شَتمُ الرَجُلِ وَالدَيْهِ، قيلَ: وهل يَسُبُّ الرجلُ والديهِ؟ قال: نعم يَسُبَّ أَبَا الرَّجلِ فيَسُبُّ الرجلُ أباهُ ويَسُبُّ أمَّهُ فيَسُبُّ أمَّهُ».

    ورَوَى الحاكمُ بإسنادٍ صحيحٍ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «كُلُّ الذنوبِ يُؤَخِّرُ اللهُ منهَا ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلا عقوقَ الوالدينِ فإنه يُعَجَّلُ لصاحبِهِ»، يعنِي: العقوبةَ في الدنيَا قبلَ يومِ القيامةِ.

    وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ دعوةُ المظلومِ ودعوةُ المسافرِ ودعوةُ الوالِدِ على وَلَدِهِ» رواهُ الترمذيُّ وأبُو داودَ وابنُ ماجَهْ وأحمدُ، وهذا معناهُ إنْ دَعَا عليهِ بِحَقٍّ أمَّا إِنْ دَعَا عليهِ بغيرِ حَقٍّ فلا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، فمَنْ أرادَ النَّجاحَ وَالْفَلَاحَ فَلْيَبَرَّ أَبَوَيْهِ تكنْ عاقبتُهُ حميدةً، فبِرُّ الوالدينِ بركةٌ في الدنيَا والآخرةِ. ءاخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ».