الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فيه (بَدْءُ) أي خَبَرُ بَدءِ نُزولِ (الوَحْيِ) علَى رسولِ الله ﷺ

55-             

حَـتَّـى إِذَا مَـا بَـلَـغَ الرَّسُـولُ

 

الأَرْبَـعِـيـنَ جَـاءَهُ جِـبْـرِيـلُ

56-             

وَهْـوَ بِـغَـارِ بِـحِـرَاءٍ مُـخْـتَلِيْ

 

………………………………………

         








عاشَ النَّبِيُّ ﷺ على التَّوحيد مُلْهَمًا الإيمانَ([1]) بمكّة ومكثَ بها (حَتَّى إِذَا مَا) أي إلى الوقتِ الّذي (بَلَغَ الرَّسُولُ) ﷺ فيهِ سِنّ (الأَرْبَعِين) تَحدِيدًا لا تَقريبًا، وقيل:  أربعِينَ ويَومًا، وقِيل: أربعِينَ سنةً وأربَعِينَ ويومًا أو وعَشَرة أيّامٍ أو وعِشرِينَ يَومًا أو وتِسْعًة وثَلاثِينَ أو واثْنَتين وأربَعِينَ أو وَسِتِّين يومًا، وقيل: وسِتَّ أشَهُر أو تسعةً وثلاثِينَ وسِتّةَ أشَهُر أو غيرُ ذلك (جَاءَهُ) الملَكُ الكرِيمُ أمِينُ الوَحيِ (جِبْرِيلُ) علَيه السَّلامُ (وَهوَ) أي والحال أنّ النَّبِيَّ ﷺ وَحْدَهُ (بِغَارٍ) أي نَقْبٍ في “جَبلِ النُّور” بمكّة يُدعَى (بِـ)ـغارِ (حِرَاءٍ) يَبعُد عن مَكّةَ نحوَ ثلاثةِ أميالٍ ويَقَعُ علَى يَسارِ الذّاهِب مِن مَكّة إلى مِنًى، وهو مصروفٌ ومذكَّرٌ على الصّحِيحِ([2])، وكان النَّبِيُّ ﷺ (مُخْـتَلِيًـ)ـا حِينَ جاءَهُ جِبريل عليه السّلامُ أي مُنفَرِدًا في خَلْوةٍ([3]) يَتَفَكَّر في مصنوعاتِ الخالِقِ عزَّ وجَلَّ.

فَصلٌ في كيفيّةِ نُزولِ الوَحيِ علَيه ﷺ

فصلٌ في كيفيّةِ نُزولِ الوَحيِ علَيه

(فَجَاءَهُ) جِبريلُ عليه السَّلامُ (بِالوَحْيِ) وهو إعلامُ النَّبِيّ بأمرٍ مِن الله تعالَى، وقد ذكر السُّيُوطِيّ في «الإتقان» وجوهًا لِنُزول الوَحي مِنها([4]): أنْ يأتِيَه الملَكُ في مِثل صَلْصَلةِ الجَرَس([5])، وأنْ يَنْفُثَ في قلبِه الكَلام نَفْثًا، وأنْ يَأتِيَه في صُورة الرَّجُل([6]) فيُكَلِّمَه، وأنْ يَأتِيَه في النَّوم فيَعِي النّبِيُّ ﷺ ما يَقُول الملَكُ لأنّ قُلوبَ الأنبياءِ عليهِمُ السّلامُ لَا تنَام بل تنامُ عُيُونهم فقط([7]).

فالوحْيُ الَّذِي نَزَل بِه جِبريلُ عليه السَّلامُ على النّبيّ محمّد ﷺ كانَ (مِنْ عِنْدِ) اللهِ (العَلِيّ) أي بأمرٍ مِن الله تعالَى، فالله عَزَّ وَجَلَّ هو العلِيُّ أي الذي يَعْلُو على خَلْقِه بِقَهْرِه وقُدْرَته لا بالمكانِ والجِهَة، فيَستَحِيلُ وصفُ اللهِ تعالَى بالمكان المرتَفِع أو المنخَفِض
 أو غيرِ ذلك مِن صِفات المتَحَيِّزات، لأنّه سُبحانَه هو خالِقُ المكانِ وهو مُنَزَّه عن المكان

فلا يَحتاج إليه، ولا يَتَشَرَّف تعالَى بجِهَة العُلُّو ولا بِغَيرها مِن المخلوقاتِ.

فصلٌ في تَحدِيدِ وقتِ بَدءِ الوَحيِ

فصلٌ في تَحدِيدِ وقتِ بَدءِ الوَحيِ

79-             

………………………………………

 

فَجَاءَهُ بِالوَحْيِ مِنْ عِنْدِ العَلِيّْ

80-             

فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَكَانَ قَدْ خَلَتْ

 

مِنْ شَهْرِ مَوْلِدٍ ثَمَانٌنِ انْ ثَبَتْ

81-             

وَقِيلَ فِي سَابِعِ عَشْـرِيْ رَجَبِ

 

وَقِيلَ بَلْ فِي رَمَضَانَ الطَّيِّبِ

 












وكانَ بَدْءُ نُزولِ الوَحْيِ على النّبيّ ﷺ (فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ) سَنَةَ إِحدَى وأَربعِينَ مِن حادِثةِ الفِيلِ([8]) (وَكَانَ قَدْ خَلَتْ) أي مَضَتْ وانقضَتْ (مِنْ) بَدءِ (شَهْرِ مَوْلِدِ)هِ ﷺ شَهرِ رَبِيعٍ الأوَّل (ثَمَانٌ) مِن الأيّام، هذا (إِنْ ثَبَتْ) التَّحدِيدُ المارُّ بِسنَدٍ صَحِيحٍ، فقد قيل: كانَ فِي أوَّل رَبِيعٍ الأوّلِ (وَقِيلَ) كانَ (فِيالـ(ـسَابِعِ) والـ(عِشْرِيْـ)ـنَ مِن شَهرِ (رَجَب) مِن هذا العامِ (وَقِيلَ بَلْ) كانَ (فِي) السّابِعِ أو السّابِعَ عشَرَ أو الثّامِنَ عَشَرَ أو التّاسِعَ عَشَرَ أو الرّابعِ والعشرِينَ أو السّابعِ والعِشرينَ مِن شهرِ (رَمَضَانَ الطَّيِّبِ) ذِكرُه ووَسْمُه، العَطِرِ عَبِيرُه ونَشْرُه، العَظِيمِ سِرُّه وبَرَكَتُه، وقال ابن الشِّحْنة: “وكونُه في رَمضانَ هُو الَّذِي علَيه الأكثَرُ” اهـ.

فصلٌ في إثباتِ أُمِّيَّةِ النَّبِيّ ﷺ

فصلٌ في إثباتِ أُمِّيَّةِ النَّبِيّ

82-             

قَـالَ لَـهُ اقْـرَأْ وَهْـوَ فِـي الْمِرَارِ

 

يُـجِـيـبُ نُطْـقًا مَـا أَنَـا بِقَارِيْ

 






ولَمّا ظَهَر لَهُ جِبريلُ عليه السّلامُ وَكَلَّمَهُ (قَالَ لَهُ اقْرَأْ) أي انتَبِه واستَعِدَّ لِمَا يُلقَى إليكَ ورَدِّده بعدَ قراءَتِي، وكَرَّر جبريلُ على النّبِيّ ﷺ أنْ يَقرأَ (وَهوَ) أي النَّبِيُّ ﷺ (فِي الْمِرَارِ) أي المَرّاتِ الثَّلاثِ (يُجِيبُـ)ـه (نُطْقًا مَا أَنَا بِقَارِيْ) أي لَا أُحْسِنُ القِراءةَ.

ولَم يَكُن طلَبُ جِبريلَ عليهِ السّلامُ مِن النّبيّ ﷺ أنْ يَقْرأَ المكتوبَ مِن ورَقةٍ أو قِرطاسٍ، فهو ﷺ لا يَكتُب ولا يَقرَأُ المكتوبَ، كذلك كانَ في ذلك الوقتِ وعليهِ خرَجَ تُوُفّي ﷺ، قالَ تعالى: ﱡﭐ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ   [العنكبوت: 48]، وقال عزَّ وجلَّ: ﱡﭐ ﱤ ﱥ  ﱦ ﱧ ﱨ    [الأعراف: 157].

وقد جاء في خبَرِ صُلحِ الحُدَيبيِةِ أنّه ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ: «اكْتُبِ الشَّرْطَ بَيْنَنَا، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ»، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَمْحَاهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا وَاللهِ لَا أَمْحَاهَا([9])، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَرِنِي مَكَانَهَا»، فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا، وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ اللهِ، الحديثَ. فلَو كان ﷺ يقرأُ المكتوبَ أو يكتُبُ بيَدِه لَم يسأَلْ علِيًّا عَن مَكانِها.

أمّا المتمسِّكُون بأنّه خَطَّ ﷺ فيما بَعدُ فحُجَجُهم في ذلك واهيةٌ مردودةٌ، قال الحافظُ النّوويُّ([10]): “وإلى جَوازِ هذا ذَهَب الباجيُّ وحكاه عن السِّمْنانِيُّ وأبي ذَرٍّ وغيرِه، وذهب الأكثَرُون إلى مَنْعِ هذا كُلِّه قالوا: وهذا الذي زعَمَهُ الذاهِبونَ إلى القول الأَوَّل([11]) يُبْطِلُه وَصفُ اللهِ تعالَى إياه بالنَّبِيِّ الأُمِّيِّ ﷺ وقولُه تعالَى: ﱡﭐ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ  ﱻ ﱼ ﱽ وقولُه ﷺ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ»، قالوا: وقولُه في هذا الحَدِيثِ: «كَتَبَ» معناهُ أمَرَ بالكتابة كما يُقالُ: «رَجَمَ ماعِزًا، وَقَطَعَ السَّارِقَ، وَجَلَدَ الشَّارِبَ» أي أمرَ بذَلِك” اهـ

فصلٌ في نُزولِ أوَّلِ ءاياتٍ مِن القُرءانِ الحَكِيمِ

فصلٌ في نُزولِ أوَّلِ ءاياتٍ مِن القُرءانِ الحَكِيمِ

83-             

فَـغَـطَّـهُ ثَـلَاثَـةً حَـتَّـى بَـلَـغْ

 

الجَـهْـدَ فَاشْـتَدَّ لِذَاكَ وَانْصَبَغْ

84-             

أَقْـرَأَهُ جِـبْـرِيـلُ أَوَّلَ العَـلَـقْ

 

قَـرَأَهُ كَـمَـا لَـهُ بِـهِ نَـطَــقْ

85-             

وَكَـوْنُ ذَا الأَوَّلَ فَهْوَ الأَشْـهَـرُ

 

وَقِـيـلَ بَـلْ يَـا أَيُّـهَـا الْمُـدَّثِّـرُ

86-             

وَقِـيـلَ بَـلْ فَاتِـحَـةُ الكِـتَـابِ

 

وَالأَوَّلُ الأَقْـرَبُ لِلصَّــوَابِ

 




















كان في كُلّ مَرّةٍ يقولُ فيها جَبريلُ عليه السّلامُ للنّبيّ ﷺ أنْ يَقرَأْ والنّبيُّ يُجِيبُه أنّه لَا يُحْسِنُ القِراءةَ يَضُمُّه جِبرِيلُ عليه السّلامُ ضَمًّا شَدِيدًا ثُم يَترُكُه ويقولُ لهُ: “اقْرَأْ” (فَغَطَّهُ) جِبريلُ أي ضمَّهُ ضَمًّا شَدِيدًا (ثَلَاثَةً) أي ثَلاثَ مَرًّاتٍ (حَتَّى بَلَغ) الضَّمُّ مِن النَّبِيّ (الجَهْدَ) أي غايةَ الوُسْعِ والتَحَمُّلِ (فَـ)ـلَمْ يُصِبهُ ﷺ أدنَى ضَرَرٍ بل تَحَمَّل جِسمُه تِلكَ الضَّمَّات و(اشْتَدَّ) أي قَوِيَ وصَلُبَ جِسْمُه علَى الحَركَةِ والتَحَمُّلِ (لِذَاكَ) أي لِأثَرِ نُزُولِ الوَحْيِ عَليهِ (وَانْصَبَغ) ﷺ أي اكتَسَى قُوّةً على مُخالَطةِ الرُّوْحانِيّاتِ.

ولَمّا ضَمَّ جِبريلُ عليه السّلامُ النّبيّ محمَّدًا ﷺ فِي المَرّة الثالِثةِ (أَقْرَأَهُ جِبْرِيلُ أَوَّلَ) ءاياتٍ مِن سُورةِ (العَلَقْ) وهو أوَّل ما نَزَل مِن القُرءان الكريمِ على النّبِيّ محمَّد ﷺ، وهي الخَمْسُ ءاياتِ الكريماتُ: ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ  ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ فـ(قَرَأَهُ) النبيّ ﷺ قِراءةً صَحِيحةً أي رَدَّدَهُ خلَفَ جبريلَ (كَمَا لَهُ) أي للمَتلُوِّ (بِهِ نَطَق) جِبريلُ عليه السّلام.

(وَكَوْنُ ذَا) أي أوّلِ خَمسِ ءاياتٍ مِن سُورَةِ العَلَقِ هُوَ (الأَوَّلَ) نُزُولًا على النبيّ ﷺ (فَهْوَ) الَّذِي علَيه الأكثَرُ وهو (الأَشْهَرُ، وَقِيلَ بَلْ) أوّلُ ما نَزَلَ قَولُه تعالَى: (ﱡﭐ ) وذلك لِمَا جاءَ في حَدِيث أبي سَلَمة عن جابِر بنِ عَبدِ اللهِ رضي الله عنه (وَقِيلَ بَلْ) أوّلُ ما نَزَلَ (فَاتِحَةُ الكِتَابِ) وذلك لحديثٍ رواه البيهقي في «دلائِل النُّبوّة» مُرْسلًا (وَ)القَولُ (الأَوَّلُ) وهُوَ أنّ أوّل ما نَزَلَ خَمسُ ءَاياتٍ مِن سُورِة العَلَق هُو (الأَقْرَبُ لِلصَّوَابِ) بل قالَ النَّوَوِيُّ: “القَولُ بأنَّ أَوَّلَ ما نَزَل المدَّثِّرُ باطِلٌ” اهـ.

فصلٌ في تَلَقِّي النَّبِيِّ ﷺ القُرءانَ مِن جِبريلَ عليهِ السّلامُ

فصلٌ في تَلَقِّي النَّبِيِّ القُرءانَ مِن جِبريلَ عليهِ السّلامُ

لقد أرسلَ اللهُ عزَّ وجلَّ جبريلَ عليهِ السّلامُ مُعلِّمًا للنبيّ محمّد ﷺ وبَيَّن اللهُ تعالَى للعبادِ أهمّيّةَ تَلَقِّي العِلمِ بالتعلُّم فقال عزَّ وجلَّ: ﱡﭐ ﱖ ﱗ ﱘ أي عَلَّمَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وهو القَوِيُّ الشّدِيدُ رسولَ اللهِ محمَّدًا ﷺ.

روَى الشَّيخانِ عن أُمِّ المؤمنِينَ عائشةَ عن السيّدةِ فاطمةَ رضي الله عنهُما قالتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ النّبِيُّ ﷺ «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرْءَانِ([12]) كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي».

وروَى الشّيخانِ والبيهقيُّ وأحمدُ وغيرُهم عنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما أنّ رسولَ الله

ﷺ قال: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ([13]) فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ([14])».

وروَى أحمدُ في مُسنَدِه عنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُدَارِسُهُ([15]) الْقُرْءَانَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ([16])».

وروَى ابنُ حِبّان والحاكمُ والبيهقيّ وغيرُه أنَّ رَجُلًا سألَ النَّبِيّ ﷺ: أيُّ البِقاعِ شَرٌّ؟ فقال ﷺ: «لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ» الحديثَ.

وكذلكَ كان جبريلُ عليه السّلامُ مُعلِّمًا لبعضِ الصّحابةِ كما جاءَ في حديثِ عُمرَ رضي الله عنه وفيه أنّ رسولَ الله ﷺ قال: «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لَيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ، خُذُوا عَنْهُ» روَى الشّيخانُ وبعضُ أصحابِ السُّنَن واللَّفظُ لابنِ حِبّانَ.

فينبغِي لطالِب العِلم أنْ يتأسَّى بذلك المِنهاجِ القويمِ فيتلقَّى العِلمَ مِن أفواهِ أهلِ العِلم

الثِّقاتِ ولا يعتمِد على مجرَّد المطالَعة، ولِلَّهِ دَرُّ القائِل: [البسيط]

مَنْ يَأْخُذِ العِلْمَ عَنْ شَيْخٍ([17]) مُشَافَهَةً

يَكُنْ عَنِ الزَّيْغِ وَالتَّصْحِيفِ فِي حَرَمِ([18])

وَمَنْ يَكُنْ ءَاخِذًا لِلْعِلْمِ مِنْ صُحُفٍ

فَعِـلْـمُـهُ عِـنْـدَ أَهْـلِ العِـلْمِ كَالْعَـدَمِ

فصلٌ في إِخبارِ النَّبِيِّ ﷺ خَدِيجةَ وَوَرَقةَ بنَ نَوفَلٍ بِبَدءِ الوَحيِ

فصلٌ في إِخبارِ النَّبِيِّ خَدِيجةَ وَوَرَقةَ بنَ نَوفَلٍ ببَدءِ الوَحيِ

87-             

جَـاءَ إِلَى خَـدِيـجَـةَ الأَمِينَةْ

 

يَشْـكُو لَـهَا مَـا قَـدْ رَءَاهُ حِينَهْ

88-             

فَـثَـبَّـتَـتْـهُ إِنَّـهـا مُــوَفَّـقَـةْ

 

أَوَّلُ مَا قَـدْ ءَامَـنَـتْ مُصَـدِّقَةْ

89-             

ثُــمَّ أَتَـتْ بِــهِ تَـؤُمُّ وَرَقَـــةْ

 

قَـصَّ عَـلَـيْـهِ مَا رَأَى فَصَدَّقَهْ

90-             

فَـهْـوَ الّـذِي ءَامَـنَ بَعْـدُ ثَانِيَا

 

وَكَـانَ بَــرًّا صَــادِقًـا مُـوَاتِيَا

91-             

وَالصَّــادِقُ الْمَصْـدُوقُ قَالَ إِنَّهْ

 

رَأَى لَهُ تَخَضْـخُضًـا فِي الجَـنَّـهْ

 


























ولَمَّا أقرَأَهُ جبريلُ ما ذُكِرَ (جَاءَ) النّبيّ ﷺ (إِلَى) زوجته (خَدِيجَةَ) بنتِ خُوَيلِدٍ (الأَمِينَة) على أَمْرِ رَسُولِ الله ﷺ، وكانتْ صاحِبةَ سِرِّ النبيّ ﷺ لأمانَتِها وصِدْقِها، وكان قُدومُ النَّبِيّ عَليها مِن غارِ حِراءٍ حالَ كَونِه (يَشْكُو لَهَا مَا قَدْ رَءَاهُ) مِن نزول الملَك عليه وَضَمِّهِ إيّاه بِشِدّةٍ وما قالَهُ لَهُ (حِينَه) أي في ذلِكَ الوقتِ بشأْنِ القِراءةِ وما تَبِعَهُ (فَثَبَّتَتْهُ) خَدِيجةُ رضي الله عَنها: بِقَولِها له: اثْبُت يا ابنَ عَمِّ وأَبْشِر، وَالله مَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا، إنَّكَ لَتَصِل الرَّحِم وتَصْدُق الحديثَ وتَحْمِلُ الكَلَّ([19]) وتَكْسِب المعدُوم([20]) وتَقْرِيْ الضَّيفَ([21]) وتُعِين على النَّوائِب([22])، و(إِنَّها) رضي الله عَنها (مُوَفَّقَة) بِتَوفيقِ الله تعالى إذْ هِيَ (أَوَّلُ مَا قَدْ ءَامَنَتْ مُصَدِّقَة) أَيْ أوَّلُ مَن ءامَن بالله ورسُولِه بَعد البِعثةِ حالةَ كَونِها مُصَدِّقةً لَلنّبِيّ فِيما جَاءَ بِهِ، وهذه الأوَّلِيَّةُ مذكُورةٌ في عِدَّةِ أخبارٍ، وصَرَّحَ بها أهلُ الآثارِ([23]).

(ثُمَّ أَتَتْ) خديجَةُ (بِهِ) أي ذَهَبَتْ بالنَّبِيّ ﷺ (تَؤُمُّ) أي تِقصِدُ (وَرَقَةَ) بَن نَوفلٍ ابنَ عَمِّها، وكان قَد تَنَصَّر في الجاهليّة وكان يَكتُب مِن كُتُبِهم بالعِبرانية والعَرَبيّة، فقالت له خديجة: يا ابنَ عَمِّ اسمَعْ مِن ابنِ أَخِيكَ فـ(ـقَصَّ عَلَيْهِ) النَّبِيُّ ﷺ خَبَرَ (مَا رَأَى، فَصَدَّقَه) وَرَقَةُ وقال له: هذا النامُّوس([24]) – يعني جِبريلَ – الذي نَزَّلَ الله على موسى، يا ليتَنِي فيها – أي أيّام الدَّعوة – جَذَعًا، ليتَنِي أكونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَومُك، فقال رسول الله ﷺ: “أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ“، قال: نعم، لم يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثلِ ما جِئتَ به إلا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَومُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.

وقَد اختُلِف في إسلامِ وَرَقة، والذي ذَهَب إليه النّاظم أنّه أسلَم فقال: (فَهْوَ) أي وَرَقةُ (الّذِي ءَامَنَ بَعْدُ) أي بَعدَ خَدِيجةَ (ثَانِيًا) في التّرتيبِ وأنّه (كَانَ بَرًّا) أي طائِعًا للهِ (صَادِقًا) مُصَدِّقًا لِما أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ بِه مِن أمرِ الوَحْيِ والرِّسالةِ (مُوَاتِيًا) بتسهيل الواوِ المهموزِ أي مُتَرَفِّقًا مُتَلَطِّفًا به، ويَستَدِلُّ النّاظِمُ لذلك بِحَديثٍ ضعيفٍ([25]) عن النبيّ ﷺ قال: «أَبْصَرْتُهُ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ([26]) عَلَيْهِ سُنْدُسٌ» وهو معنَى قول النّاظِم: (وَالصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) يعني النبيَّ ﷺ (قَالَ إِنَّه) كُشِفَ له حالُ وَرَقةَ فـ(ـرَأَى لَهُ تَخَضْخُضًا) أَيْ تَحَرُّكًا واضْطِرابًا (فِي الجَنَّة) بِمَعنَى أنّه يَتَنعَّم فيها إذ يَكون مِن أَهْلِها، وبِهذَا ومِثْلِه يَستدَلِّ مَن يقول بإيمان ورقَة بن نَوْفل، وكُلُّه ضَعِيفٌ، والله أعلَم إنْ كان أسلَم قبلَ مَوتِه أو لا، فَلا حاجة إلى الخوضِ في ذَلِك ما لم يَثبُت.



([1])  النّبِيُّ محمَّد ﷺ وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون على التوحيد والإيمان منذ طفولتهم عارفين بخالقهم لا يحصل منهم شرك ولا اعتقاد كفريّ، وأما تفاصيل أمور الإيمان والأحكام الشرعية فيعرفونها بالوحي بعد أن ينزل عليهم، فلا تمُرُّ عليهم لحظة من لحظات حياتهم يكونون فيها كافرين أو مشركين أو شاكّين بربّهم أو مشبّهين له بخلقه سبحانه، فهذا كلُّه مستحيل عليهم قبل النبوة وبعدَها.

([2])  المِنهاج شَرح صحيح مسلِم بنِ الحَجّاج، محيي الدِّين النَّوويّ، (2/198).

([3])  الخَلوةُ هِيَ الاختِلاءُ والانفرادُ عن النّاس مع تَوَجُّه القَلْبِ إلى أمرٍ ما، وشأنُها أنَّ الأنبياء والأوليَاء يُحِبُّونها. وكان تَعَبُّد الرسول ﷺ قبلَ نُزولِ الوَحْيِ عليه بالتَّفَكُّر في مخلوقات الله وإطعامِ المَساكِين =
= فكان يقصدِهُ الفقراء فيُطْعِمُهم. وهو ﷺ كان مُسلِمًا مؤمنًا بالله خَالِقِه الذي لا يُشْبِهُ شيئًا ولم يَعْبُد غَيرَ الله قَطُّ، لكنّه ما كان يُصَلِّي لأنّه ما كان يَعْرِفُ كَيفيّة الصَّلاة كما أنّه لم يَكُن يعرف تفاصِيل الإيمان قبلَ نُزولِ الوَحْيِ عليه، أمَّا مَا كان يَبْلُغُه مِن مِلَّة إبراهيمَ عليه السَّلام ويُلهَم مِن طريق الإلهام القَلبِيّ أنَّ هذا شىءٌ حَسنٌ مِن دُون طريقِ الوَحي فكانَ يَفعَلُه.

([4])  الإتقان في علوم القرءان، جلال الدين السُّيوطيّ، (1/160-161).

([5])  قال الإمام عبد الله الهرري رضي الله عنه: “صَوتُ جِبرِيلَ عِندَ الوَحْيِ يَصِيرُ مِثلَ صَلْصَلةِ الجَرَسِ.

([6])  من غير ءالة الذكورة، فالملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا، إنّما قد يتشكَّلون بصورة الذكور ولا يتشكَّلون بصُوَر الإناث.

([7])  ورؤيا الأنبياء وحيٌ، بدليل أنّ إبراهيم باشَرَ عملية ذبح إسماعيل عليه السلام، ولو لم يَكُن وحيًا كيف يكون ذلك.

([8])  الإشارة إلى سيرةِ المُصطفَى، علاء الدّين مُغْلَطاي، (ص/88).

([9])  ولَم يفهَم عَلِيٌّ رضي الله عنه مِن أمرِ النّبِيّ ﷺ التّحتِيمَ وأنّ الأمرَ للإيجابِ وإلّا لامتَثَل على الفَورِ، وهذا الذي ذهب إليه المازِريُّ والعسقلانيُّ والعَينيُّ والقسطَلّانيُّ وغيرُهم.

([10])  المِنهاج شَرح صحيح مسلِم بنِ الحَجّاج، محيي الدِّين النَّوويّ، (12/137).

([11])  أي القولِ بأنّه قرأ المكتوبَ أو كتَبَ بِيَدِه.

([12])  أي يُدارِسُني جميعَ ما نَزَل مِن القُرءان، مِن المُعارَضة والمُقابَلة، ومِنه يُقالُ: عارَضتُ الكِتابَ بالكِتاب أي قابَلْتُه بِه.

([13])  أي وَجهٍ مِن الوجوهِ التّي أُنزِلَ القُرءانُ بِها.

([14])  أي سَبعةِ وُجوهٍ مِن القراءةِ كُلُّها بوَحيٍ، فالاختِلافُ في التّثنِية والجَمْع وجهٌ مِثالُه أنّه قُرِئ ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ بالإفرادِ و﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ﴾ بالجَمْع.

([15])  مِن المُدارَسة أي المُراجعَةِ والمُقابَلة، قاله في «النّهاية» (3/212).

([16])  أي المُطْلَقة.

([17])  أي مِن أهلِ العِلم الثِّقاتِ.

([18])  أي أَمْنٍ.

([19])  أي تُعِينُ الضَّعِيفَ.

([20])  أي تُعطِي المحتاج حاجَتهُ الَّتِي لا يَجِدُها.

([21])  أي تُحسِنُ إلى الضَّيفِ.

([22])  أي تُعِينُ الملْهُوفَ على ما أصابَه مِن النَّوَازِل.

([23])  قال الشيّخ محمد هاشم السِّندي (ت 1174هـ) في «بَذْل القُوّة»: “كانت سابقةَ الإسلام في كلِّ الأنام”، ثُمّ قال: “وعليه الاتّفاق”، وقال ابنُ الأثير: “لم يتَقَدَّمْها بالإسلام رجُلٌ ولا امرأةٌ بإجماعِ الْمُسْلمِينَ” اهـ..

([24])  النامُوس في الأصل صَاحب سِرّ الْخَيْر.

([25])  في إسنادِه مُجالِدُ بنُ سَعِيدٍ، نقل الحافظُ الهَيثَميّ في «مَجمَع الزّوائِد» (9/416) عن الجمهورِ تضعِيفَه.

([26])  أي داخلَها، فبُطْنانُ الشّىء وسَطُه، قاله في «النّهاية» (1/137).