الأحد ديسمبر 22, 2024
  • بدء الخَلق

    قال الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا مِنَالْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ [سورة الأنبياء].
    وروى البخاري وابن الجارود والبيهقي [(1140)] من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه قال «أتى أناس من أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين فأنبئنا عن بَدءِ هذا الأمر ما كان قال «كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شىء ثم خلق السموات والأرض». وفي رواية ابن الجارود «أخبرني عن أول هذا الأمر»، وهو أيضًا رواية للبخاري [(1141)]، وفي رواية البيهقي [(1142)] من طريق أبي معاوية «كان الله قبل كل شىء».

    فقوله صلى الله عليه وسلم «كان الله» أي لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيره. وقوله «وكان عرشه على الماء» أي وجد وحدث عرشه على الماء أي أن الماء والعرش أول خلق الله. وأولهما وجودًا الماء. فالماء أصل لغيره والماء خُلق من غير أصل فبداية العالم من غير مادة. ولا يحيل العقل وجود أصل العالم من العدم من غير مادة. والقول بأن للعالم هيُّولى أزلية كما ذكر الفلاسفة يلزم منه المحال الذي سبق بيانه وهو التسلسل أو الدور المحالان. هذا الحديث رواه البخاري في كتاب «التوحيد» [(1143)] بلفظ «ولم يكن شىء قبله». قال الحافظ ابن حجر [(1144)]: «وهو بمعنى «ولم يكن شىء معه» وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية» اهـ، وقال أيضًا [(1145)]: «والقصة متحدة فاقتضى ذلك أن الرواية بالمعنى ولعل راويها [(1146)] أخذها من قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الليل كما تقدم من حديث ابن عباس «أنت الأول فليس قبلك شىء». لكن رواية البابوهي «ولم يكن شىء غيره» – أصرح في القدم وفيه دلالة على أنه لم يكن شىء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما لأن كل ذلك غير الله. ويكون قوله صلى الله عليه وسلم «وكان عرشه على الماء» معناه أنه خلق الماء سابقًا ثم خلق العرش على الماء. وقد وقع في قصة نافع بن زيد الحميري [(1147)] بلفظ «كان عرشه على الماء ثم خلق القلم فقال اكتب ما هو كائن ثم خلق السموات والأرض وما فيهن» انتهى كلام ابن حجر.
    وقد روى مسلم [(1148)] من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألفَ سنة وكان عرشه على الماء». وقد روى أحمد وغيره [(1149)] من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كلُّ شىء خلق من الماء».

    ولفظ ابن حبان [(1150)] «قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرَّت عيني فأنبئني عن كل شىء قال «كل شىء خلق من الماء».
    قال الحافظ [(1151)]: «وروى السُّدي في تفسيره بأسانيد متعددة عن جماعة من الصحابة: «إنَّ الله لم يخلق شيئًا مما خَلَقَ قبل الماء». وأما ما رواه أحمد والترمذي [(1152)] من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة». فَجُمِعَ بينه وبين ما قبله بأن أوَّلية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش أو بالنسبة إلى ما صدر منه من الكتابة أي إنه قيل له أوَّلَ ما خُلِقَ».
    فحديث أولية القلم صحيح لكن يتعين حمله على الأوليّة النسبية عملًا بقاعدة الجمع بين الحديثين الثابتين. ويعيّن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في قصة نافع بن زيد الحميري «وكان عرشه على الماء ثم خلق القلم».
    قال الحافظ ابن حجر: «وأما حديث أول ما خلق الله العقل فليس له طريق ثَبَتٌ [(1153)]». قال السيوطي في شرح الترمذي [(1154)]: «وأما حديث أولية النور المحمدي فلم يثبت» اهـ.

    وأما قول ابن حجر الهيتمي المكي: «إن أولية النور المحمدي أولية مطلقة وأولية ما سواه من الماء والعقل والقلم فنسبية» فباطل [(1155)] لأنه جعل الحديث الصحيح (حديث أولية الماء) تابعًا مرجوحًا لحديث أولية النور الذي هو غير ثابت. بل قال عصرينا الحافظ أبو الفضل أحمد الغماري في «المغير على الجامع الصغير» [(1156)]: «إنّ حديث «أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر خلقه الله من نوره قبل الأشياء» موضوع»، وهو جدير بكونه موضوعًا، قال السيوطي [(1157)]: «ليس له إسناد يعتمد عليه» اهـ ومثله ما ذُكر في كتاب «مولد العروس» الملصق بابن الجوزي «إن الله قبض قبضة من نوره فقال كوني محمدًا فكانت محمدًا»، فما أعظم ضرر هذا الحديث المفترى على الجهال فقد اعتقدوا بسببه أن الله جسم نوراني وأن الرسول جزء منه، فكأن هؤلاء لم يسمعوا قوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ … *﴾ [سورة الكهف وفصلت 6].
    وهذا منشأه ترك النص الثابت الصحيح من أجل الخبر السقيم والموضوع. واغتر كثير من الناس بشهرة قول «إن أولَ خلق الله نورُ محمد صلى الله عليه وسلم» في كتب المدائح والموالد. وقد شُهِرَ نسبة ذلك إلى عبد الرزاق مع أنه لا وجود له في مصنفه [(1158)].
    وأما حديث «كنت أول النبيين في الخلق وءاخرهم في البعث» فضعيف كما نقل ذلك العلماء [(1159)] وفيه بقية بن الوليد وهو مدلس، وسعيد بن بشير وهو ضعيف. ولو صح لم يكن فيه أنه أول خلق الله وإنما فيه أنه أول الأنبياء ومعلوم أن البشر أولهم ءادم الذي هو ءاخر الخلق باعتبار أنواع العوالم.

    وأيضًا يقال لو صح لكان معناه أن روحه صلى الله عليه وسلم أول أرواح البشر وفرقٌ بين أن يقال أول أرواح البشر وبين أن يقال أول خلق الله لأن بين كتابة القلم على اللوح المحفوظ وبين خلق السموات والأرض خمسين ألف سنة كما مر. فإذا ثبت أولية الماء فالماء الذي هو أول العالم ومادته هو الماء الذي تحت العرش، ففي حديث طويل رواه ابن عساكر في الاستسقاء من حديث ابن عباس [(1160)] رضي الله عنهما «اللهم أرسل السماء علينا مدرارًا نافعًا مغزورًا من تحت عرشك». قال السيوطي [(1161)]: «رواته ثقات». فمن الماء خلق الله النور والنار وغير ذلك.
    وأما حديث ميسرة الفجر [(1162)] أنه قيل يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال «كنتُ نبيًّا وءادم بين الروح والجسد» فلا يدل على أوليته صلى الله عليه وسلم بالنسبة لجميع الخلق وإنما يدل على أن الرسول كان مشهورًا بوصف الرسالة بين الملائكة في الوقت الذي لم يتم تكوُّن جسد ءادم بدخول الروح فيه، فليس فيه دليل على ما يدعونه.
    ـ[1140] عزاه له اللكنوي في الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (ص/43).
    ـ[1141] والقاعدة الحديثية أن الضعيف إذا عارض الصحيح فلا حاجة إلى تأويل الصحيح من أجل الضعيف.
    ـ[1142] المغير (ص/7).
    ـ[1143] الحاوي في الفتاوي (1/ 325).
    ـ[1144] مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر (ص/28).
    ـ[1145] أسنى المطالب (ص242)، المقاصد الحسنة (ص520)، كشف الخفا (2/ 169 – 170).
    ـ[1146] أورده السيوطي في جامع الأحاديث (20/ 148) وعزاه لابن عساكر (8/ 434 – 436).
    ـ[1147] جامع الأحاديث (20/ 148).
    ـ[1148] رواه أحمد في مسنده (5/ 59)، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/ 470): «وهذا سند قوي».
    ـ[1149] فتح الباري (13/ 410).
    ـ[1150] نقد مراتب الإجماع (ص/169).
    ـ[1151] ذكر ذلك في رسالة بيان زغل العلم والطلب (ص/38).
    ـ[1152] الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ (ص/136).
    ـ[1153] لسان الميزان (6/ 390).
    ـ[1154] صحيح البخاري: كتاب التفسير: باب سورة حم السجدة.
    ـ[1155] فتح الباري (6/ 289).
    ـ[1156] رواه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب النهي عن ضرب الوجه.
    ـ[1157] الأسماء والصفات (ص/290)، الباز الأشهب (ص/64)، مشكل الحديث (ص/50).
    ـ[1158] الأسماء والصفات (ص/291)، الباز الأشهب (ص/65).

    ـ[1159] الأسماء والصفات (ص/291)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 430).
    ـ[1160] فمعنى صورة الرحمن صورته التي خلقها وشرَّفها كما قال { … لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ … *} [سورة ص] وكالإضافة في قوله { … نَاقَةُ اللَّهِ … *} [سورة هود].ـ[1161] المستدرك (2/ 323 – 324) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك.
    ـ[1162] رواه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار: باب حديث الإسراء، وكتاب تفسير القرءان: من سورة بني إسرائيل: باب أسرى الله بعبده ليلاً من المسجد الحرام، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات، وأحمد في مسنده (3/ 148، 5/ 392) كلهم بألفاظ مختلفة.