الأحد ديسمبر 22, 2024

باب وفاة أبي طالب وخديجة بنت خويلد زوجة المصطفى وذلك في عام واحد

بعدَ خروجهم بثُلثَيْ عامِ *** وثُلُثَيْ شهرٍ   ويومٍ طامي

سيقَ أبو طالبٍ للحِمامِ *** ثمَّ تلى ثلاثةَ أيامِ

موتُ خديجةَ الرضا فلم يَهُنْ *** على الرسول فقد ذَيْنَ وحَزِنْ

ثم مات أبو طالب بعد خروجهم من الشعب بثلثي عام وهي ثمانية أشهر وثلثي شهر ويوم وهي أحدٌ وعشرون يومًا كذا ذكره الناظم. فالموجود في السير أحد عشر يومًا وكان ءاخر كلامه “هو على ملة عبد المطلب”، وفي الصحيح [1] ما يدل على موته كافرًا، وقد رويت له وصية قال من جملتها: وإني أوصيكم بمحمد خيرًا فإنه الأمين في قريش والصديق في العرب وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به وقد جاءكم بأمر قَبِله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنئان، وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر في الاطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابًا ودورها خرابًا وضعفاؤها أربابًا [2] وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده، وقد محضَته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم، يا معشر قريش والله لا يسلك أحد منهم سبيله إلا رشد ولا يأخذ بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ودافعت عنه الدواهي ومن نظمه:

ودعوتني وعلمتُ أنك صادق *** ولقد صدقتَ وكنتَ ثَمَّ أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا

والله لت يصلوا إليك بأسرهم *** حتى أوسَد في التراب رهينا

فاصدعْ بأمركَ ما عليك غضاضةٌ *** وابشر بذاك وقَرَّ منه عيونا

لولا الملامةُ أو حذار مسبةٍ *** لوجدتني سمحًا بذاك مبينا [3]

فلما مات نالت قريش من المصطفى ما لم تكن تناله ولا تطمع فيه، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: “لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك”، ويقول بين ذلك: “ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب” فبلغ ذلك أبا لهب فقال له: يا محمد امض لما أمرت وما كنت صانعًا إذ لو كان أبو طالب فاصنعه، لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت فمكث كذلك أيامًا لا يتعرض له احدٌ هيبة لأبي لهب، فجاءه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل فاحتال عليه بقوله: إن من سلف من قريش في النار فقال: والله ما برحت لك إلا عدوًا واشتد أبو لهب وجميع قريش عليه حتى قال أبو جهل: أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فاسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: لا نسلمك أبدًا فامض لما تريد، فلما أصبح اخذ حجرًا كما وصف ثم قعد ينتظره، وغدا رسول الله كما كان يغدو فلما جلس احتمل أبو جهل الحجر حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منقعًا بالبناء للمفعول لونه مرعوبًا قد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم قال: قمت إليه لأفعل ما قلت فلما دنوت منه عرض لي دونه فحلٌ من الإبل ما رأيت مثل هامته فهمّ بي أن يأكلني فقال المصطفى: “ذاك جبريل لو دنا لأخذه”.

ثم انضم إلى ذلك موت خديجة الكبرى أم المؤمنين فإنه تلا موت أبي طالب بثلاثة أيام وهي الرضا أي المرضية عند المصطفى فقد كانت وزير صدق على الإسلام وكان المصطفى يسكن إليها، وقيل: ماتت بعده بخمسة أيام وقيل: قبله بخمسة وثلاثين يومًا، وقيل غير ذلك.

وقول الناظم: “يهُن” بضم الهاء وكسرها وبفتح المثناة التحتية قبلها للمناسبة أي عسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد هذين الشفوقين المساعدين القائمين معه، ونالت قريش منه من الأذى ما لم تطمع فيه من قبل، وحزن لموتهما حزنًا شديدًا وسمي ذلك العام عام الحزن لتوالي هاتين المصيبتين عليه فيه، وأقلّ الخروج ولزوم بيته، ثم خرج إلى الطائف ومعه زيد بن الحارث فقط يلتمس النصرة والمنعة من ثقيف فأقام بالطائف عشرة أيام فما ترك أحدًا من أشرافهم إلا اجتمع به، فلم يجيبوه وسلطوا سفهاءهم وصبيانهم عليه فقعدوا له بالطريق صفين يضربونه بالحجارة في رجليه حتى أدموهما وزيدٌ يقيه بنفسه حتى شج في رأسه فلما خلص عند إلى حائط فاستظل في ظل حبلة بتحريك المهملة والموحدة وقد تسكن شجرة عنب وكان فيه عتبة وشيبة ابنا ربيعة فكره مكانهما لما يعلم من عدواتهما له فقال: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك [4] الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك” فأرسل الله جبريل ومعه ملك الجبال فقال: إن شئت أطبقت عليهم الاخشبين فقال: “لا بل أرجو أن يُخرج الله من اصلابهم من يعبد الله”، فلما رأى ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فبعثا قطفًا من عنب مع غلام لهما نصراني اسمه عدّاس فلما وضعه بين يديه قال: بسم الله ثم أكل فنظر عداس في وجهه ثم قال: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد فقال له المصطفى: “ومن أي البلاد أنت” قال: نصراني من أهل نينوى قال: “أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى”؟ قال: وما يدريك ما يونس قال: “ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبي” فأكب عداس عليه فقبل رأسه ويديه فلما جاءهما قالا له: ما لك تقبل رأسه ويديه قال: ما في الارض خير منه قد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي قالا: ويلك لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.

ثم انصرف من الطائف فصار إلى حراء وبعث إلى الاخنس بن شريق ليجيره فأبى، فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامر لا يجيرون على بني كعب، فيعث إلى المطعم بن عدي فأجابه ثم تسلح وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد ثم بعث إلى رسول الله أن ادخل فلما دخل طاف ثم انصرف إلى منزله.

[1] أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما –واللفظ للبخاري- عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب ءاخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه السلام: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله تعالى فيه: {ما كانَ للنبي} الآية”. [انظر صحيح البخاري: كتاب الجنائز: باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل].

[2] فسرها الزرقاني في المواهب اللدنية: “أي ملوكًا”.

[3] كان يحب أن يؤمن يحب أن يتبع الرسول لكن قال أخشى ملامة، سبحان الله هو مع هذه المحبة العظيمة للرسول ما وفقه الله للإيمان وأناس أجانب لا تصلهم به قرابة أول ما علموا بأمره ءامنوا.

[4] معنى “نور وجهك” النور الذي خلقته أنت، وليس معناه أن الله ضوء لاستحالة ذلك.