باب قصة بناء الكعبة الشريفة
أي البيت الحرام وسمي بذلك لتكعبه أي تربعه، والقصة بكسر القاف الشأن والأمر، يقال: ما قصتك؟ أي ما شأنك، والجمع قصص كسدرة وسدر.
وإذْ بنتْ قريشٌ البيتَ اختلفَ *** ملاؤهم تنازعًا حتى وقفْ
أمرهم فيمن يكون يضعْ *** الحجر الأسود حيثُ يوضع
إذْ جاء قالوا كلهم رضينا *** لوضعه محمد الأمينا
فحطَّ في ثوبٍ وقال يرفع *** كل قبيل طرفًا فرفعوا
ثُمّتَ أودع الامينُ الحجرا *** مكانه وقد رضوا بما جرى
لما اجتمعت قريش لبناء الكعبة خشية أن يهدمها السيل بنى كل فرقة جانبًا فلما وصلوا إلى محل الحجر الاسود اختلف ملاؤهم أي أشرافهم فيمن يضع الحجر موضعه فكل قبيلة تريد رفعه دون الاخرى وتنازعوا تنازعًا كثيرًا حتى وقف أمرهم أي في ذلك الشأن، واستمروا على ذلك نحو خمس ليال وأعدوا للقتال وتعاهدوا على الموت فقال أسنهم أبو أمية بن المغيرة: حكموا فيما بينكم أول داخل إلى المسجد ففعلوا فكان أول داخل رسول الله، فقالوا: “هذا الأمين رضينا به”، فحكم بينهم فقال: “هلم ثوبًا”، فأتوه به فحط أي وضع الحجر الاسود فيه ثم قال: “لترفع كل قبيلة منك طرفًا” فرفعوه جميعًا ثم لما بلغوا به محله أخذه بيده فوضعه مكانه وبنى عليه، فرضوا كلهم بما جرى من حُكمه بذلك، وكان ذلك يوم الاثنين عام خمس وثلاثين من مولده الشريف.
وقوله: “فحط” بالبناء للمفعول بضبط الناظم أي وُضع، والواضع له المصطفى. وقوله: “ثمت” بزيادة تاء التأنيث على ثم العاطفة، قال السهيلي: وكان ارتفاع الكعبة تسعة أذرع وهي بلا سقف فزادتها قريش تسعة، ورفعوا بابها عن الارض بحيث لا يُصعد إليها إلا بدرج، وزادها ابن الزبير تسعة فصارت سبعًا وعشرين وألصق بابها بالأرض وجعل لها بابًا من ورائها وأدخل الحجر فيها، ووقع بناؤها خمس مرات: الأولى بناء شيث [1]، الثانية إبراهيم، الثالثة قريش، الرابعة ابن الزبير حين احترقت بشرارة طارت من أبي قُبيس فهدمها حتى انتهى إلى قواعد إبراهيم فرأوا نارًا وأهوالًا أفزعتهم فأمرهم أن يقروا القواعد وأن يبنوا من ثمّ، الخامسة عبد الملك بن مروان وذلك أنه لما قدم مكة قال: لسنا من تخليط أبي خبيب [2] في شيء فهدمها وردها إلى ما كانت عليه في عهد المصطفى فلما فرغ حدثه جمع بحديث عائشة الصحيح [3]: “لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية” الحديث فندم، ولما حج الرشيد سأل مالكًا عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للخبر المذكور فقال مالك: “أنشدك الله يا أمير المؤمنين لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك فتذهب هيبته من القلوب” فأمسك، فهذا ما كان من بناء الكعبة وما نقل عن جُرهم إنما كان إصلاحًا.
[1] الذي جاء في الحديث أنها بنيت أول مرة في زمن ءادم عليه السلام أخرجه البيهقي في دلائل النبوة [2/44-45]، وانظر فتح الباري [6/402-403].
[2] كنية ابن الزبير.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الحج: باب فضل مة وبنيانها، ومسلم في صحيحه: كتاب الحج: باب نقض الكعبة وبنائها.