باب في ذكر وفاة الرسول الأعظم والنبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام
حري بنا أن نتكلم عن وفاة سيد الأمة وإمام الأئمة، من أرسله الله للناس هدى ورحمة، لأن وفاته صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر الناس، إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات. فهذا يذكرنا بأن الدنيا دار مـمــر والآخرة دار مقر، وبأن الموت حق قد كتبه الله على العباد، وأن أفضل العباد قد مات، ولا بد لكل واحد منا أن يموت، فقد قال الله تعالى مخاطبا نبيه المصطفى في الكتاب:” إنك ميت وإنهم ميتون” [الزمر:30]، أي إنك ستموت وهم سيموتون. وقال سبحانه:” وما جعلنا لبشر من قبلك ٱلخلد أفـإن مت فهم ٱلخـٰلدون * كل نفس ذائقة ٱلموت” [الأنبياء: 34، 35].
روى الإمام البخاري في صحيحه[1] عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة فقال أنس وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتـموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.اهـ وزاد البخاري[2] في رواية أخرى: وتوفـي ذلك اليوم. اهـ
روى ابن ماجه[3] عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بابا بينه وبين الناس أو كشف سترا فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم فقال: يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي. اهـ
وروى البخاري[4]: أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونـحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت آخذه لك فأشار برأسه أن نعم فتناولته فاشتد عليه وقلت ألينه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته فأمره وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بـهما وجهه يقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى[5]، حتى قبض ومالت يده. اهـ
وفي رواية في صحيح مسلم[6]: “اللهم مع الرفيق الأعلى“. وفي لفظ عنده:” اللهم في الرفيق الأعلى“. وعند أحمد[7] فقال: مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء إلى قوله رفيقا. اهـ وفي رواية عند النسائي[8] فقال: أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. اهـ وصححه بن حبان[9] بلفظ: أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. اهـ
وعند أحمد[10] والترمذي[11] وغيرهما من طريق القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت:” رأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت ” اهـ
وروى مسلم في الصحيح[12] عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة. قالت: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بحة، يقول: {مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69]. قالت: فظننته خير حينئذ.اهـ
فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت السيدة فاطمة عليها السلام: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب. رواه البخاري[13].
وجاءت التعزية يسمعون الصوت ولا يرون الشخص: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته” كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة“ [آل عمران:185]. إن في الله عزاء عن كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله ثقوا، وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[14].اهـ وكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام[15].
ثم وصل الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه فأقبل على فرس من مسكنه حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبله بين عينيه وبكى وقال: وا نبياه وا خليلاه وا صفياه، ثم قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا،” إنا لله وإنا إليه راجعون“، مات رسول الله.
ثم خرج الرجل المتمكن أبو بكر ليخبر الأمة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى:” إنك ميت وإنهم ميتون“، وقال:” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله ٱلرسل أفـإن مات أو قتل ٱنقلبتم علىٰ أعقابكم ومن ينقلب علىٰ عقبيه فلن يضر ٱلله شيئا وسيجزى ٱلله ٱلشاكرين“.
فبكى الناس والغصة في حلوقهم، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام. وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، فعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها[16].
اصبر لكل مصيبة وتجلــد واعـلم بأن المرء غير مخلـد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بهـا فـاذكر مصابـك بالنبي محمد
[1] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
[2] صحيح البخاري، أبواب العمل في الصلاة. باب: من رجع القهقرى في صلاته، أو تقدم بأمر ينزل به.
[3] سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة.
[4] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
[5] قال النووي في شرح صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها: الصحيح الذي عليه الجمهور أن المراد بالرفيق الأعلى: الأنبياء الساكنون أعلى عليين، ولفظة رفيق تطلق على الواحد والجمع، قال الله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا}.اهـ ثم نقل عن الأزهري أنه أنكر على من قال: يراد بالرفيق الأعلى الله عز وجل.اهـ (15/ 208 ، المطبعة المصرية بالأزهر).
[6] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها.
[7] مسند أحمد، حديث عائشة رضي الله عنها.
[8] سنن النسائي الكبرى، ذكر قوله صلى الله عليه وسلم حين شخص بصره
[9] صحيح ابن حبان، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم
[10] مسند أحمد، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها.
[11] سنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في التشديد عند الموت.
[12] صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل عائشة، رضي الله تعالى عنها.
[13] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
[14] انظر مسند الإمام الشافعي، كتاب الجنائز والحدود، الأم للشافعي، باب القول عند دفن الميت، والطبراني في المعجم الكبير، الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والبيهقي في السنن الكبرى، باب ما يقول فى التعزية من الترحم على الميت والدعاء له ولمن خلف. وغيرهم.
[15] انظر المعجم الأوسط للطبراني، من اسمه موسى، ومستدرك الحاكم، كتاب المغازي والسرايا، ومجموع النووي، باب التعزية والبكاء على الميت، وغيرهم.
[16] انظر صحيح البخاري ، كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذا خليلا)، وكتاب المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. مسند أحمد، حديث عائشة رضي الله عنها، صحيح ابن حبان، باب وفاته صلى الله عليه وسلم. وغيرهم.