باب ذكر عرض النبي نفسه على القبائل من العرب وبيعة الانصار لما هداهم الله إلى الإسلام
والقبائل جمع قبيلة وهم بنو أب واحد، والبيعة بفتح الباء بذل الطاعة للإيمان، واللام في الأنصار للعهد أي أنصار الرسول سماهم به اخذًا من قوله سبحانه: {والذينَ ءاووا ونصروا} [سورة الأنفال] فصار علمًا بالغلبة وهم وإن كانوا ألوفًا استعمل جمع القلة لأن اللام للعموم.
وعرضَ النبيُّ نفسهُ على *** قبيلةٍ قبيلةٍ ليَحصلا
إيواؤه مِنْ بعضهم يبلّغ *** رسالةَ الله فكلٌّ يَنْزَغُ
إليهمُ الشيطانُ حتى يُعرِضوا *** عَنْ قولهِ ويَهزءوا ويَرفضوا
حتى أتاحَ الله للأنصار *** فاستبقوا للخير باختيارِ
فيُسْلِمُ الواحدُ منهم يُسلمُ *** بهِ جميعُ أهلهِ فرُحِموا
لَقِيَ ستًا أو ثمانيًا لدى *** عَقبةٍ دعاهم إلى الهُدى
فآمنوا بالله ثمّ رجعوا *** لقومهم يدعونَهُم فَسمعوا
حتى فشا الإسلامُ ثمَّ قَدِما *** في قابلٍ منهم وممَّن أسلما
لبيعةٍ ضِعفُ الذينَ أسلفوا *** كبيعةِ النساءِ ثم انصرفوا
ثمّ أتى مِنْ قابلٍ سبعونا *** ونيفٌ فبايعوا يُخْفونا
بيعتهم ليلًا ونِعْمَ البيعةُ *** جزاءُ مَن بايَعَ فيها الجنةُ
قد عرض النبي نفسه على قبائل العرب في موقف عرفة قبيلة بعد قبيلة عدة سنين ويقول: “ألا رجلٌ يعرِضُ عليَّ قومهُ فإنّ قريشًا منعوني أن أبلغ رسالة ربي” ليحصل له إيواء أي لينضم إلى قبيلة تؤويه وتحميه “فكل” منهم “ينزغ” بفتح الزاي بضبط “إليهم الشيطان حتى يعرضوا” عن قوله لهم من القرءان والمواعظ فيولوا عنه وهم يهزؤون أي يهزؤون به “ويرفضوا” أي يرموا بمقالته ويترفعوا عن مجالسته، وأبو لهب وراءه يكذبه وينهاهم عن اتباعه، ولم يزل الشأن على ما ذكر حتى أراد الله إظهار دينه ونصر نبيه فأتاح أي قيَّض الله له الأنصار وهم الأوْسُ والخزرج لما قدره الله لهم من السعادة، فانتهى إلى نفر منهم وهم يحلقون فقعد إليهم ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرءان فاستبقوا للخير واستجابوا لله ولرسوله وءاوواه ونصروا، فلذلك سموا الأنصار وهو لقب إسلامي وكانوا قبل ذلك يعرفون ببني قيلة وبالأوس والخزرج وذلك كله باختيار منهم، وكان يسلم الواحد منهم ويذهب إلى قومه فيعرض عليهم الإسلام فيسلم جميع قومه فرُحموا بإجابتهم وإسلامهم، وكانوا ستًا: أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله ومنهم من جعل عبادة بن الصامت مكان جابر، وقيل كانوا ثمانيًا بزيادة أبي الهيثم ابن التيهان ومعاذ بن عفراء، فلما عرفوه بصفاته التي كانوا يسمعونها من اليهود أهل الكتاب ودعاهم إلى الهدى أجابوه فآمنوا بالله ثم انصرفوا من عنده ورجعوا إلى بلادهم حتى أتوا قومهم فأعلموهم بما كان ودعوهم إلى الإسلام فسمعوا وأطاعوا حتى فشا الإسلام فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رسول الله. وذكر ابن الجوزي بسنده أن الأوس بن حارثة لما احتضر قالوا له: كنا نأمرك بالتزوج فتأبى وهذا أخوك الخزرج له خمس بنين وليس لك إلا مالك قال: لن يهلك هالك ترك مثل مالك وأنشد:
ألم يأت قومي أن لله دعوة *** يفوز بها أهل السعادة والبر
إذا بعث المبعوث من ءال غالب *** بمكة فيما بين زمزم والحجر
هنالك فابغوا نصرة ببلادكم *** بني عامر إن السعادة في النصر
ثم قدم منهم مكة في العام القابل ممن أسلم أولًا خمسة أسعد بن زرارة وعوف ورافع وقطبة وعقبة ومن غيرهم من الأنصار سبعة ذكوان بن عبد قيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة والعباس بن عبادة ومعاذ بن عفراء وأبو الهيثم مالك بن التيهان وعُوَيمُ بن ساعدة، وكانوا ضعف الستة أي اثني عشر لبيعة الإسلام فأسلموا وبايعوا وكانت بيعتهم كبيعة النساء أي على بيعة النساء فتلا عليهم ءاية النساء وهي أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصون في معروف فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة له في الدنيا وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر وذلك قبل أن تفرض الحرب، ثم انتقلوا إلى المدينة وكتبوا إلى المصطفى: ابعث إلينا من يقرئنا القرءان ويفقهنا فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة فكان يدعى المقرئ والقارئ وهو أول من سمي بذلك، وأسلم على يده أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وذلك أن ابن معاذ بلغه اجتماع مصعب مع رجال ممن أسلم بحائط من الحوائط فبعث أسيد بن حضير ليزجرهم حياءً من خاله أسعد بن زرارة فلما جاء مُتَشتِّمًا وأخذ في كلام يزجر به قال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكرهه قال: انصفت ثم ركز حربته وجلس فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ القرءان فقال: ما أحسن هذا، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟ قال: تغتسل [1] وتطهر ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي فقام ففعل ثم قال: أرى رجلًا إن اتبعكم لم يتخلف أحد وسأرسله الآن سعد بن معاذ م انصرف، فلما رءاه سعد مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به فقال له سعد: ما فعلت فذكر القصة وحاصلها أن سعد بن معاذ أسلم ثم عاد إلى قومه فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا، قال: كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة. وفي تاريخ البخاري الأوسط أن أهل مكة سمعوا هاتفًا قبل إسلام سعد بن معاذ يقول:
فإن يسلم السعدان يصبح محمدُ *** بمكة لا يخشى خلافَ المخالف
فظنوا أنه يريد السعدين سعدهم وسعد بن زيد مناة فقال:
أيا سعدُ سعدَ الأوس كن أنت ناصرا ** ويا سعدُ سعدَ الخزرجين الغطارفِ
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ** على الله في الفردوس مُنيةَ عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ** جنانٌ من الفردوس ذاتُ رفارِفِ
“ثمَّ أتى من” العام “القابل” في أيام التشريق من الأنصار “سبعون” رجلًا “ونيف” بشدة الياء أي ورجل أو رجلان وامرأتان وهي البيعة الثانية فسلموا على المصطفى بمكة فواعدهم ليلة النفر الأول إذا هدأت الرجل أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى في أسفل العقبة حيث المسجد الآن، وأمرهم أن لا ينبهوا نائمًا ولا ينتظروا غائبَا فخرج القوم يتسللون وسبقهم النبي لذلك الموضع ومعه العباس فقط فأول من تكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج إنكم دعوتم محمدًا إلى ما دعوتموه إليه ومحمد من أعز الناس في عشيرته يمنعه من كان على قوله ومن لم يكن على قوله يمنعه للشرف والحسب وقد أبى إلا الانقطاع إليكم فإن كنتم ترون أنكم تفون له وأنكم أهل جلد وقوة وبصر بالحرب واستقلاق بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فَروا رأيكم وائتمروا ولا تفرقوا إلا عن اجتماع فإن أحسن الحديث أصدقه، فقال البراء بن معرور: سمعنا ما قلت ولو كان في أنفسنا غير ما ننطق به قلناه ولكنا نريد الوفاء وبذل المهج دونه، ثم قرأ عليهم القرءان ورغبهم في الإسلام فأجابه البراء بالإيمان والتصديق وهو أول من بايع وقيل أسعد بن زرارة وقيل أبو الهيثم بن التيهان فبايعوا كلهم وهم يحلفون على بيعتهم، وأخرج لهم اثني عشر نقيبًا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وفي حديث ابن سعد [2] فقال رسول الله: “إن موسى اتخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيبًا فلا يجدن أحد منكم في نفسه أن يؤخذ غيره فإنما يختار لي جبريل”. وكانت “بيعتهم ليلًا ونعم البيعة جزاء من بايع فيها الجنة” أي دخولها لأن المصطفى اشترط عليهم شروطًا وجعل لهم على الوفاء بها الجنة، فلما بايع القوم وكملوا صاح الشيطان على العقبة: يا أهل الأخاشب هل لكم في محمد والصباة معه أجمعوا على حربكم، فقال المصطفى: “أفضوا إلى رحالكم” فقال العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق لئن أحببت لنميلن على أهل منى بأسيافنا وما أحد عليه سيف تلك الليلة غيره، قال: “لم أؤمر بذلك” فتفرقوا إلى رحالهم فلما أصبحوا غدت جِلة قريش وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار فقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا ووعدتموه أن تبايعوه على حربنا وايم الله ما حي من العرب أبغض إلينا من أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم، فانبعث من كان ثَمَّ من الخزرج من المشركين يحلفون ما كان هذا وما علمنا ثم رحلوا وطابت بذلك نفس المصطفى إذ جعل الله له منعة وقومًا أهل حرب ونجدة.
[1] هذا غير ثابت فإنه لا يجوز تأخير النطق بالشهادة لمن يريد الدخول في الإسلام إلى ما بعد الاغتسال، ولا يصح الغسل من الكافر أصلًا. أو يكون معناه أن هذه ليس أول شهادة، لا يعني أنها أول شهادة بل هذا بعد الدخول في الإسلام، فليس معنى إذا دخلتم هنا إذا أردتم الدخول.
[2] طبقات ابن سعد [1/172].