الأحد ديسمبر 22, 2024

باب ذكر تأييده عليه السلام بمعجزة القرءان المجيد

وجعلَ الله لهُ القرءانا *** ءايةَ حقّ   أعجزت بُرهانا

أقامَ فيهمْ فوقَ عشرٍ يطلبُ *** إتيانهم بمثله         فغُلبوا

ثمّ بعشرِ سورٍ فسورهْ *** فلم يُطيقوها ولو قصيرهْ

وهُمْ لعمري الفُصحاءُ اللُّسنُ *** فانقلبوا وهُمْ  حَيارى لُكْنُ

وأُسمِعوا التوبيخَ والتَّقريعا *** لدى الملا مُفترقًا مَجموعا

فلم يفُهْ منهمْ فصيحٌ بِشَفَهْ *** مُعارضًا بل  الإلهُ صرفهْ

قد جعل الله لنبيه القرءان أعظم معجزاته وكان ءاية حق قد أعجزت فصحاء العرب العرباء “برهانا” وقوة أي ببرهانه وقوة بلاغته، فأقام في قومه بمكة فوق عشر سنين ينذرهم ويُحادُّهم ويتلو عليهم القرءان فيكذبونه ويجحدونه، فيطلب منهم إتيانهم بمثله وهم أهل الفصاحة والبلاغة قال لهم: ائتوا بعشر سور مثله مفتريات فعجزوا، فقال: فأتوا بسورة واحدة مثله في الفصاحة والبلاغة فعجزوا {قُلْ لئِنِ اجتمعتِ الإنسُ والجِنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرءانِ لا يأتونَ بمثلهِ} [سورة الإسراء] فلم يطيقوا سورة واحدة أي الإتيان بها ولو قصيرة كسورة الكوثر وغيرها، وهم والله كلهم لعمري الفصحاء البلغاء اللسن بضم اللام الثانية وسكون السين جمع ألسن أي الآخذين مَنْ عارضهم بألسنتهم المسلطة، فانقلبوا مع ذلك وهم حيارى فيما جاءهم به من الحق، و”لُكْن” بضم اللام وسكون الكاف جمع ألكن، واللكنه العيّ وثقل اللسان.

وقوله: “وأسمعوا” بالبناء للمفعول أي وأسمعهم الله تعالى فيما أنزل من محكم كتابه التوبيخ البالغ والتقريع الفاحش “لدى الملا” أي بين يدي الجم الغفير مفترقًا ومجموعًا أي حال افتراقهم عن الناس إذا خلوا وحالَ اجتماعهم في المحافل، فلم يفه بفتح الياء التحتية وضم الفاء أي لم ينطق منهم فصيح بشفة أي بكلمة واحدة معارضًا له بها، بل الإله القادر الميسر المعسر صرفهم عن ذلك [1] دلالة على إعجازه وإظهارًا لمعجزة نبيه، وهذا الختام من الناظم يؤذن بميله إلى القول بالصرفة وهو رأي مرجوح أطال المحققون في تقرير رده.

فقائلٌ يقولُ هذا سحرُ *** وقائلٌ في       أذنيَّ وَقْرُ

وقائلٌ يقولُ ممّنْ قد طغوا *** لا تسمعوا لهُ وفيه فالْغوا

وهُمْ إذا بعضٌ ببعضٍ قدْ خلا *** اعترفوا بأنَّ حقًا ما تلا

وأنهُ ليسَ كلامَ البشرِ *** وأنهُ ليسَ لهُ بمُفتري

اعترفَ الوليدُ ثمّ النّضر *** وعتبةٌ بذاكَ     واستقرّوا

وابنُ شريقٍ باءَ وهْوَ الأخنسُ *** كذا أبو جهل ولكنْ أبلسوا

لما عجزوا عن معارضته وتحيروا في أمرهم شرعوا يختلقون عليه فقائل منهم يقول هذا الذي يقول سحر فرد عليه الوليد بن المغيرة وهو من أعظمهم قدرًا: قد رأينا السحرة فما هو بنفثهم، وقائل يقول أنا في أذني بشدة المثناة التحتية تثنية أذن وقر أي صمم فلا أسمع ما يقوله، وقائل يقول وهو أبو جهل وحزبه وكانوا قد طغوا وتمردوا: {لا تسمعوا لهذا القرءانِ والغَوْا فيهِ لعلَّكُم تَغلِبون} [سورة فصلت] أي لا تسمعوه وعارضوه باللغو والباطل وإذا خلا بعضهم ببعض اعترفوا وأذعنوا وأقروا بأن ما جاء به هو الحق وصدقوا جميع ما تلاه من القرءان، وقالوا إنه ليس هو الذي أعجزنا به ونحن أفصح البلغاء من كلام البشر وإنما هو كلام الله أنزله على رسوله، فممن اعترف بصدقه الوليد بن المغيرة حين اجتمع به نفر من قريش وكان ذا سن عالية فيهم فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لغدق [2] وإن فرعه لجناة [3]، ثم النضر بن الحارث وكان من رءوس بني عبد الدار وعتبة بن ربيعة وكان من أشراف بني عبد شمس اعترفوا بذلك أيضًا، ولكن طمس الله على قلوبهم وطبع عليها فاستقروا على ضلالتهم. وأما ابن شريق الثقفي واسمه الاخنس فقد باء أي رجع عن معارضته وكذا أبو جهل كلهم قد علموا أنه الحق من ربهم لكنهم أصروا على طغيانهم فأبلسوا أي سكتوا حزنًا وحيرة.

وكيفَ لا وهْوَ كلامُ الله *** مُنزهٌ عن       نِحلةِ اشتباهِ

يهدي إلى التي هُداها أقْومُ *** بهِ يُطاعُ        وبهِ يُعتصمُ

وهو لدينا حبلُهُ المتينُ *** نعبُدُه بهِ             ونستعينُ

وهو الذي لا تنقضي عجائبهُ *** ولا يَضلُّ        أبدًا مُصاحبهْ

معجزةً باقيةً على المدا *** حتى إلى الوقتِ الذي قد وعدا

وكيف لا يعترفون ويُذعنون ويعجزون عن الإتيان بمثل شيء منه وهو كلام الله المنزه عن نحلة مثله أي عن الإتيان بشبهه أو بشبه سورة أو بعض سورة منه، وقد جعل الله القرءان في هذه الأمة رحمة يهدي من اقتدى به إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم، والطريق السليم التي هداها هو أقوم الطرق الموصلة إلى الله تعالى فإن به يُطاع الله وبه يعتصم بالبناء للمفعول، إذ هو العروة الوثقى لمن تمسك به وعمل بما فيه وهو لدينا أي عندنا في اعتقادنا أنه كلام الله القديم وهو حبله المتين، نعبده به أي بتلاوته والعمل بما فيه، وبه نستعين على قضاء مهمات الدارَين، وهو الذي لا تنقضي عجائبه أي لا تنتهي ولا تنقطع على طول المدى إلى أن يأتي أمر الله، ولا يضل عن الهدى والطريق المستقيم أبدًا مصاحبه الذي حفظه وعمل بما فيه ووقف عند حدوده قال تعالى: {فمنِ اتَّبعَ هُدايَ فلا يَضِلُّ ولا يشقى} [سورة طه].

وقول الناظم: “معجزة” بالنصب أي حال كونه معجزة ويجوز رفعه بدل من الذي أو خبر مبتدإ محذوف أو هو معجزة باقية على طول المدى بفتحتين الغاية، فلا يزال كذلك “حتى إلى الوقت الذي قد وعد” أي وعد الله فيه أن يرتفع فيه القرءان.

[1] صرفهم عن ذلك معناه يستطيعون لكن الله صرفهم، وهذا ليس معتمدًا، والمعتمد أنهم سليقتهم ما استطاعت بل عجزت. المعتزلة تقول: هم قادرون على أن يفعلوا مثل هذا لكن الله صرفهم، وهذا قبيح.

[2] الماء الغدق بفتحتين: الكثير، وقد غدقت عين الماء أي غزرت. وبابه طرب من مختار الصحاح.

[3] الجنى ما يُجتنى من الشجرة يقال: أتانا بجناة طيبة.